q
إن التنوع المتوفر في هذا الفضاء بعناوين متعددة ومختلفة لا يمكن أن يتوحد في الفضاء الوطني إلا بمواطنة حقيقية يمارس كل مواطن حقه ويلتزم بواجبه. فالمواطنة بكل ما تتصف به من آليات ومتطلبات تمثل حجر الزاوية لأي مشروع ستراتيجي يهدف الى تحقيق الوئام الوطني والانسجام الاجتماعي...

لو أحصينا عدد المفردات اللغوية الأكثر تداولا، والتي تتكرر على لسان بعض المسؤولين، سواء كان ذلك في تصريحاتهم الرسمية أو من خلال مقابلاتهم التلفزيونية، سنجد هناك مفردات وعبارات أخذت حيزاً واسعاً على الصعيد السياسي، وفي وسائل الإعلام المختلفة، من أمثال (الطائفية، والمذهبية، والعرقية، والأثنية)

في حين غابت أو تمَّ تغييب مفردة المواطنة عن جدالاتهم الإعلامية، حتى باتت تلك المفردات من المُسلمات في القاموس السياسي لدى البعض. وقد يبرر هذا البعض ذلك بالقول، إن الواقع السياسي الذي شهده العراق بعد عملية التغيير قد فرض التعامل مع هذه المصطلحات والمُسميات، ولكن الحقيقة تقول، إن هذا الواقع مهما بلغ من التأزم لا يمكنه إلغاء المفاهيم الوطنية، وفي مقدمة ذلك مفهوم المواطنة.

وعلى الرغم من أن صفة المواطنة قد لا تحتاج الى تذكير، فهي غريزة تكمن في كينونة وخلجات كل مواطن، لكنها تحتاج في بعض الأحيان الى من يُحفز هذه الغريزة، من خلال استنهاض الهمم، وتفعيل الروح الوطنية، من أجل مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه البلاد في هذا المنعطف التاريخي. والحقيقة أن هذه التحديات لو وقع جزء بسيط منها على أي شعب من شعوب الأرض لكان له أثر بعد حين، ولكن العراق استثناء من ذلك، لوجود العديد من الكوابح وصمامات الأمان التي تمنع انجرار البلاد الى ما لا تحمد عقباه. ولعل ما حدث من فواجع عبر السنوات المنصرمة، ومن أزمات متكررة خير دليل على ما نقوله. فاختبار مفهوم المواطنة في نفوس العراقيين قد نجح في الرهان الأخير بتفوق، ولكي يستمر هذا النجاح فإن المصلحة الوطنية تقتضي تغذيته بكل ما من شأنه الاستمرار في هذا التفوق، من خلال تغليب النَـفـَس الوطنيّة على جميع تلك الأنفس الخبيثة التي تجتر من حولنا، وتضييق الخناق على مُطلقيها. وبالإمكان التعبير عن المواطنة الصالحة بعدة أساليب وصيغ، وقد تبدأ من خلال امتناع المواطن عن إلقاء أعقاب السكائر على قارعة الطريق، ولا تنتهي بجميع تلك التضحيات التي قدمها ويقدمها هذا المواطن في سوح الوغى ضد المجاميع الإرهابية، وهذا الصبر الجميل بوجه التحديات والأزمات المتكررة.

ما نريد تأكيده، هو أننا بأمس الحاجة الى إشاعة مفاهيم المواطنة، وفي هذه المرحلة بالتحديد، التي تشهد تحديات كبيرة، وتغييرا مستمرا للكثير من المفاهيم والرؤى، والتي تراكمت عبر حقب تاريخية طويلة، حتى ضربت أطنابها داخل أوصال هذا المجتمع، لذا يجب العمل في هذا الاتجاه، لتعميق وتعميم كل ما من شأنه زيادة اللحمة بين أفراد المجتمع، والعمل على إرساء مبادئ السلم الأهلي الدائم، من خلال نشر ثقافة الوحدة والتوحد، ثقافة بناء مجتمع فاعل ومحصن بالعوامل الذاتية، وقادر على تجاوز المصاعب والتحديات، مجتمع يعطي لأبنائه الطمأنينة والسكينة والشعور بالاستقرار الروحي والنفسي، حتى تعلو ثقافة المواطنة على كل الثقافات الفرعية.

إنَّ ترديد مثل هذه الخطابات والرؤى الوطنية لا يمكن لها أن تتحقق ما لم يتوفر لها إطار سميك ومحكم يحتويها ويحافظ على مضامينها، وهذا الإطار يتمثل بالسلم الأهلي، الذي يعني بالدرجة الأولى الحفاظ على حالة التوافق بين مكونات المجتمع الواحد، ورفض كل دعوات العنف والتحريض عليه.

ومن الطبيعي القول في هذا الصدد، إن الواقع الذي نعيشه اليوم بكل تداعياته لا يمكن أن يخرج من أزماته وتوتراته الداخلية إلا بإعادة الاعتبار الى مفهوم المواطنة، والعمل على صياغة فضاء وطني، قوامه الأساس ومرتكزه الرئيس المواطنة بصرف النظر عن المنابت الأيديولوجية، أو القومية، أو الدينية. إذ إن التنوع المتوفر في هذا الفضاء بعناوين متعددة ومختلفة لا يمكن أن يتوحد في الفضاء الوطني إلا بمواطنة حقيقية يمارس كل مواطن حقه ويلتزم بواجبه. فالمواطنة بكل ما تتصف به من آليات ومتطلبات تمثل حجر الزاوية لأي مشروع ستراتيجي يهدف الى تحقيق الوئام الوطني والانسجام الاجتماعي، ولهذا علينا الترويج لإشاعة ثقافة المواطنة بجميع الوسائل والسبل.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق