q
ويبشر الاندماج النووي، وهو التفاعُل الذي يُغذي طاقة الشمس، بأن يصبح مصدرًا يوفر قدرًا لا حصر له من الطاقة النظيفة، إذا أمكن للباحثين تسخيره. لكن حتى الآن، لم تنجح أي تجارب في توليد قدر من مخرجات الطاقة يفوق المدخلات منها في هذه التفاعلات. ولا تغير النتائج التي تمخض عنها مفاعل تجربة...
بقلم: إليزابيث جيبني

تحطمَ رقم قياسي عمره 24 عامًا. فقد أعلن فريق من العلماء العاملين في مفاعل تجربة «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة» (JET)، الذي يقع بالقرب من مدينة أكسفورد بالمملكة المتحدة، يوم التاسع من فبراير الماضي، أنهم نجحوا في توليد أعلى قدر على الإطلاق من دفقات الطاقة المتواصلة، عن طريق تفاعُلات اندماج بين عدد من الذرات، محققين بذلك أكثر من ضعف الرقم القياسي للطاقة المتولدة من هذه التفاعُلات، والذي أحرزته تجارب سابقة لهم في عام 1997.

تعقيبًا على هذا الحدث، في تصريح له، قال إيان تشابمان الذي يرأس مركز كالهام للطاقة الاندماجية (CCFE)، الذي يقع فيه مقر المفاعل: "تلك النتائج التاريخية تعد خطوة كبيرة نحو التغلب على أحد أكبر التحديات العلمية والهندسية على الإطلاق". وتجدر الإشارة إلى أن هيئة الطاقة الذرية البريطانية تستضيف المفاعِل، لكن برنامجه العلمي تديره رابطة تعاون أوروبية تُسمى «يوروفيوجن» EUROfusion.

ويبشر الاندماج النووي، وهو التفاعُل الذي يُغذي طاقة الشمس، بأن يصبح مصدرًا يوفر قدرًا لا حصر له من الطاقة النظيفة، إذا أمكن للباحثين تسخيره. لكن حتى الآن، لم تنجح أي تجارب في توليد قدر من مخرجات الطاقة يفوق المدخلات منها في هذه التفاعلات. ولا تغير النتائج التي تمخض عنها مفاعل تجربة «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة» ذلك الواقع، لكنها تدل على إمكان تحقيق هذه الغاية في مشروع طموح لاحق يستخدم التقنية نفسها ومزيجَ الوقود نفسه، وهو مشروع مفاعل الاندماج النووي المعروف باسم «المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي» (ITER)، البالغة تكلفته 22 مليار دولار أمريكي، والمزمع بدء تجارب تفاعلات الاندماج النووي به في عام 2025.

في هذا السياق، تقول جوزفين برول عالمة فيزياء تفاعلات الاندماج النووي من جامعة آيندهوفن للتكنولوجيا بهولندا، والتي تجري أبحاثًا في نوع آخر من المفاعلات يُسمى المفاعلات النجمية: "لا شك أن مفاعل تجربة «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة» حقق ما كان متوقعًا منه. ويدلنا إجراء النمذجة نفسها التي استُخدمت في تجارب المفاعل على أن «المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي» سينجح في مهمته. وتلك علامة مبشرة جدًا؛ لذا أشعر بالحماس حيال الأمر".

نتاج عقدين من الأبحاث

أما آن وايت، عالمة فيزياء البلازما من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بمدينة كامبريدج، فقد صرحتْ بأن تلك التجارب — وهي ثمرة عمل دؤوب استمر قرابة عقدين — تعد مهمة لمساعدة العلماء على التنبؤ بسلوك «المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي». ويُتوقع أن ترشدهم فيما يخص إعدادات تشغيله. وتضيف قائلة: "أنا موقنة من أنني لست الوحيدة في أوساط مجتمع باحثي تفاعلات الاندماج النووي التي تود أن تتوجه بتهنئة حارة لفريق مفاعل تجربة «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة»".

ويستخدِم كل من مفاعل «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة» و«المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي» مجالات مغناطيسية لاحتجاز البلازما، وهي غاز فائق الحرارة من نظائر الهيدروجين، داخل هذين المفاعلين اللذين ينتميان إلى فئة مفاعلات التوكاماك. وتندمج هذه النظائر معًا تحت تأثير درجة الحرارة والضغط، لتكوِّن غاز الهيليوم، فينتج عنها طاقة في هيئة نيوترونات.

ولتحطيم الرقم القياسي في توليد الطاقة من تفاعلات الاندماج النووي، استخدم مفاعل تجربة «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة» وقودًا مكونًا من نسب متساوية من التريتيوم والديوتيريوم؛ وهو المزيج نفسه الذي يُعتزم أن يوفر الطاقة لـ«المفاعل التجريبي الحراري النووي» الجاري بناؤه في جنوب فرنسا. والتريتيوم هو نظير مشع نادر للهيدروجين؛ وتنتج التفاعلات الناتجة عن اندماجه مع الديوتريوم، وهو أحد نظائر الهيدروجين الأخرى، عددًا من النيوترونات يفوق بكثير ما تنتجه التفاعلات بين جزيئات الديوتريوم وحدها. ويرفع ذلك مقدار الطاقة المُخرجة من التفاعُل، لكن وجب إخضاع مفاعل تجربة «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة» لتجديدات استمرت لأكثر من عامين لإعداده لإنتاج هذا الفيض من الطاقة. وتجدر الإشارة إلى أن آخر مرة شهدت استخدام التريتيوم في تجربة تفاعُل اندماج نووي داخل أحد مفاعلات التوكاماك كانت في مفاعل تجربة «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة»، وقد حطم فيها المفاعل الرقم القياسي السابق الذي أحرزه عام 1997 في توليد هذا النوع من الطاقة.

جدير بالذكر أنه في تجربة أُجريت في الحادي والعشرين من ديسمبر عام 2021، أنتج مفاعل التوكاماك الخاص بتجربة «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة» 59 ميجاجولًا من الطاقة من "نبضة" من تفاعل اندماج نووي استمرت خمس ثوانٍ؛ وهو مقدار يفوق ضعف الطاقة التي أنتجها المفاعل عام 1997 والتي بلغت 21.7 كيلوجول في مدة 4 ثوانٍ. وهو ما أوضحته فيرناندا ريميني، اختصاصية البلازما بمركز كالهام لطاقة التفاعلات الاندماجية، والتي أشرفتْ على حملة تجارب المفاعل التي أجريت العام الماضي، بالإشارة إلى أن التجربة التي أجريت في عام 1997 ما زالت تحتفظ بالرقم القياسي فيما يخص إنتاج "أعلى قدر من الطاقة"، إلا أن الارتفاع الذي شهده حجم الطاقة المنتجة في تلك التجربة لم يستمر لأكثر من جزء من الثانية، وبلغ متوسط مقدار الطاقة الناجمة عن التجربة أقل من نصف الطاقة التي نتجت عن التجربة الأخيرة. وتضيف أن تحقيق ذلك التحسن استغرق 20 عامًا من الجهود المبذولة لرفع الكفاءة التجريبية إلى أقصى حد ممكن، وتطلب تطوير المُعدات المستخدمة في التجربة، بما في ذلك استبدال الجدران الداخلية لمفاعل التوكاماك ذاك لتقليل إهدار الوقود.

معدل الطاقة

وتضيف ريميني أن إنتاج الطاقة المطلوبة في غضون ثوان معدودة يعد ضروريًّا لفهم عمليات التسخين والتبريد والحركة التي تجري داخل البلازما في المفاعل، وهو ما يُعد بالغ الأهمية لتشغيل «المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي»، وهنا، تضيف برول إن تحقيق هذا في غضون خمس ثوان. "يُعد حدثًا جللًا، وإنجازًا رائعًا بحق".

وكانت منشأة الإشعال الوطنية (NIF) التابعة لوزارة الطاقة الأمريكية قد حققتْ رقمًا قياسيًّا مختلفًا العام الماضي؛ إذ استخدمت تقنية الليزر في إنتاج أعلى قدر على الإطلاق من مخرجات الطاقة الناجمة عن تفاعل اندماج نووي، نسبةً إلى حجم الطاقة المدخلة، وذلك وفق قيمة على مؤشر يُسمى «كيو» Q، حيث بلوغ قيمة تساوي 1 يعني توليدَ مخرجات طاقة مضاهية في المقدار للطاقة المُدخلة. وقد حققت المنشأة قيمة «كيو» Q تساوي 0.7؛ فيما يُعد لحظة فارقة في تاريخ تفاعلات الاندماج الليزري، تحطم فيها الرقم القياسي الذي أحرزه مفاعل تجربة «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة» عام 1997. لكن هذه الواقعة لم تستمر طويلًا، إذ أنتجتْ فيها المنشأة 1.3 ميجاجول في غضون أقل من 4 مليار جزء من الثانية.

وتقول ريمي إن تجربة مفاعل «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة» الأخيرة، أحرزت قيمة على المؤشر «كيو» Q تساوي 0.33، واستمرتْ لمدة خمس ثوانٍ. وتقول برول إن مفاعل تجربة «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة» يُعد نسخة مصغرة من «المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي»؛ إذ يبلغ عُشر حجم المفاعل الأخير، وهو بالنسبة إليه كحوض استحمام مقارنة بحمام سباحة. كما أنه يفقد الحرارة بسهولة أكبر بكثير من فقدان «المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي» لها. لذا، ليس من المُتوقع أن تتساوى مخرجاته مع مخرجات «المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي». وتضيف أنه إذا طبق المهندسون الظروف والمنهج الفيزيائي اللذين استُخدما في مفاعل تجربة «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة» في حال «المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي»، فسيحقق المُفاعل الأخير على الأرجح هدفه المتمثل في الوصول إلى قيمة تساوي 10 على مؤشر «كيو» Q، أي إنه سينتج عشرة أمثال الطاقة المدخلة إليه.

ولا يزال الباحثون المتخصصون في هذا الحقل من التفاعلات بمنأى عن الوصول إلى حلول لجميع المشكلات. على سبيل المثال، يظل التعامل مع الحرارة الناتجة في منطقة العادم في المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي بمثابة تحدٍ. إذ ستكون منطقة العادم في «المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي» أكبر من مثيلتها في مفاعل مبادرة «الحلقة النجمية الأوروبية المشتركة»، بيد أن تلك الزيادة في الحجم لن تتناسب مع الزيادة في الطاقة التي سيضطر المفاعل إلى التعامل معها. وتقول برول إن الأبحاث لا تزال جارية للوصول إلى التصميم الأمثل لتحمل تلك الحرارة، لكن الباحثين لم يصلوا إلى حلول بعد.

اضف تعليق