q
حينما ندرس تجربة الانسان في الحياة نجد أحد الثقوب الأساسية التي تحول بين الانسان وانجاز تطلعه، هو حالة الخلل الموجودة بين الممكن والواجب، التطلع والامكانات. إذ تختلط الأمور في ذهن الانسان، فيقوم في بعض الأحيان بأعمال وأنشطة ومشاريع لا تنسجم وظروفه الواقعية، بل تتناغم وتطلعه المتعالي على الزمان والمكان...

إن العاطفة والحماسة من الأمور الضرورية، التي ينبغي توفرها في الانسان، الذي يحمل تطلعاً عالياً وهدفاً بعيداً.. إلا أنها بحاجة إلى عقل ثاقب ونظر دقيق، حتى يتمكن من الاستفادة من هذه العاطفة الجياشة.

إن من الظواهر الثابتة واللازمة لكل وجود انساني (على المستوى الفردي والجمعي) هي ظاهرة وجود التطلعات والأمنيات حيث يتفق غالبية البشر على هذه المسألة.. فلا يوجد كائن انساني، لا يحمل تطلعاً لأن هذا قاسم مشترك بين البشر الأسوياء جميعاً.

ولكن ثمة خطل عميق قد يصيب الانسان في هذه القضية، إذ كثير من الناس تختلط لديهم الاماني والتطلعات بالإمكانات والقدرات المتوفرة، لأن العمل والسعي الحثيث هو القنطرة الوحيدة لنقل التطلع من عالم التجريد الى عالم التشخيص، ويجانب الصواب من يعتقد ان احقية تطلعه، واهمية أمنيته لتحقيق ما يصبو اليه في الواقع الخارجي، والأنكى من ذلك حينما تكون تطلعات الانسان بعيدة المنال، مطلقة بحيث أن امكاناته وقدراته الذاتية، لا تتحمل من انجاز تطلعاته وآماله، من هنا تنبع أهمية الموازنة بين التطلع والامكانات، بين الواجب والواقع، بين ما ينبغي أن يكون وماهو كائن، لأن هذه الموازنة، هي التي توظف الامكانات القليلة في سبيل تحقيق التطلع الأهم وذات الجدوى.

ولعلنا حينما ندرس تجربة الانسان في الحياة نجد أحد الثقوب الأساسية التي تحول بين الانسان وانجاز تطلعه، هو حالة الخلل الموجودة بين الممكن والواجب، التطلع والامكانات. إذ تختلط الأمور في ذهن الانسان، فيقوم في بعض الأحيان بأعمال وأنشطة ومشاريع لا تنسجم وظروفه الواقعية، بل تتناغم وتطلعه المتعالي على الزمان والمكان.

فالتاجر الذي يدخل في صفقة تجارية رفيعة المستوى، وأكبر من حجمه الواقعي، لاشك انه يعرض نفسه وتجارته للخطر والخسارة، لأنه دخل في مغامرة ليست محسوبة النتائج.

إننا في هذا المجال، لا ندعو إلى ان يتخلى الانسان عن تطلعاته وأمانيه، لأنها ضرورة من ضرورات الوجود الانساني، ولكننا ندعو إلى أن الانسان على المستوى العملي والفعلي، ينبغي ان يعمل ويخطط ويدخل في الصفقات، ويبني المشاريع، ويتوسع في الأنشطة وفق امكاناته وقدراته. لأن الانسان مهما أوتي من قوة، فإنه لن يستطيع أن يحقق تطلعاته دفعة واحدة، وانما عليه أن يعمل ويسعى لتحقيق خطوات وانجازات ومكاسب، تقربه من تطلعه البعيد وعلى هدى هذه الحقيقة تتأكد مسألة الموازنة بين الممكن والواجب في حياة الانسان بل اننا نعتبر هذه الموازنة هي الشرط الأساسي لنجاح الانسان في كل الحقول والمجالات.

ولاشك أن اختلاط الأمنيات بالإمكانات، والمفروض بالواقع يأخذ عدة مظاهر في حياة الانسان أهمها ما يلي:

الرفض المطلق للواقع:

دائماً الأمنية والتطلع يشكلان الحد الاقصى لما يصبو اليه الانسان لذلك فهما المعادل الموضوعي للمثالية المتعالية على الزمان والمكان. لذلك فحينما تختلط أماني الانسان بإمكاناته تتحكم الأمنية على ذهن الانسان، فتؤسس وضعاً نفسياً، يقوم على الرفض المطلق للواقع الذي يعيشه الانسان، لأن ما يتمناه يعتبر مطلقاً متعالياً عن الظروف وما يعيشه نسبياً وخاضعاً لظروف الزمان والمكان، لذلك من الضروري ايجاد حالة واعية من التوازن بين المثالية والواقعية، ولا نقصد بالأخيرة القبول بالواقع بعلاته ومشاكله، والخضوع له على ما فيه من هبوط وتخلف وانحطاط، وانما نعني بالموازنة بين الواقعية والمثالية: مراعاة الظروف، وأخذ الزمان والمكان طرفاً في عملية التفكير والتخطيط والتنفيذ.

وعلى هدى هذا المعنى نزل القرآن الحكيم منجماً (بالتدريج) والدين الاسلامي في كل توجيهاته الفكرية وتعليماته الاخلاقية، وتشريعاته القانونية، يأخذ بعين الاعتبار واقع الحياة والانسان، وهذا لا يعني اخضاع المثال والقيم للواقع وانما يعني العمل على رفع سيئات الواقع، واحلال حسنات المثال والقيم بشكل تدريجي، لا يفاجئ الناس، ولا يعطل مسيرة المجتمع، ولا يقضي على عاداتهم وتقاليدهم دفعة واحدة.. وينبغي التأكيد في هذا المجال على: أن ربانية والهية النص القرآني، لا تنفي واقعية محتواه ومضمونه، ولا تنفي انتماءه إلى الوجود الثقافي والاجتماعي الاسلامي، بمعنى أن خطابه خطاب واقعي، لما يتضمنه من حلول لمشاكل واقعه. فهو ليس خيالاً ملائكياً، وانما هو خطاب يستجيب للواقع لتقويمه، وتصحيح الاعوجاج الموجود فيه.

استعجال النتائج:

بحيث أن اختلاط الواجب بالممكن، يجعل عامل الزمن يغيب من حياتنا، لدرجة أننا نستعجل النتائج.. بينما الشيء الطبيعي هو ربط نتائج أعمالنا بزمن.. لأن استواء الحقيقة ونضجها والوصول إلى النتيجة الفعلية لمجموعة الأعمال التي تقوم بها، بحاجة إلى زمن ووقت، ولهذا نجد غيرنا قديراً على ربط نتائج عمله بزمن طويل. ففي اول مؤتمر صهيوني (1897م) قال هرتزل: إن إسرائيل ستقوم بعد خمسين سنة، فعمل وكافح اليهود من أجل تحقيق هذا الوعد وتحقق لهم ما أرادوا عام (1947م). وقد اشار القرآن الحكيم إلى عامل الزمن، وعدم استعجال النتائج وضرورة ربط نتائج الأعمال بالبعد الزمني. فيقول تبارك وتعالى {انه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}. "يوسف آية 90"

فمعنى الصبر هو أن الامر والقضية، تحتاج إلى زمن، واستعجال الزمن من الأخطاء التي تحول دون تحقيق النتيجة المرجوة كما أن مراعاة الزمن والوقت من العوامل الأساسية لنجاح الخطط، كما ان غيابه، قد يكون سبباً أساسياً لفشل الخطة.

لهذا فإن علماء النفس يولون عناية خاصة بالزمن ويعتبرونه جزءاً من العلاج. فلا يكفي حماس الانسان حتى تنجح خطته، وإنما لا بد من توفر جملة من العوامل لنجاح الخطة.

أحدها أن يكون تنفيذ الخطة في الزمان المناسب ولعل في الآية القرآنية التي تشير إلى أن الهزائم من عند أنفسنا تشير إلى هذه الحقيقة قال تعالى {أولما اصابتكم مصيبة قد اصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ان الله على كل شيء قدير}. "آل عمران الآية 165".

سيطرة العاطفة:

إن العاطفة والحماسة من الأمور الضرورية، التي ينبغي توفرها في الانسان، الذي يحمل تطلعاً عالياً وهدفاً بعيداً.. إلا أنها بحاجة إلى عقل ثاقب ونظر دقيق، حتى يتمكن من الاستفادة من هذه العاطفة الجياشة، بما يخدم الأهداف والتطلعات لأن في العقل الثاقب، لتقدير لسنن الله في التطوير والتغيير.. لأن التدرج في تطبيق القيم وتنفيذ المبادئ وانجاز التطلعات جزء من القانون الكوني العام، لهذا فإننا نرى أن الخطوة الأساسية التي تمكننا من معالجة هذه الاشكالية، رفض الاشتباك بين الطرفين (الممكن والواجب) هو العمل على تحقيق الممكن من الأمور والاعتقاد بأن تحقيق هذا الممكن، ليس نهاية الطريق، وإنما هو خطوة تقربنا زمانا ومكانا من الوصول إلى التطلع البعيد، فالتاجر لا يستطيع ان يحقق تطلعاته التجارية دفعة واحدة، وإنما هو يبدأ بالممكن والمتاح لديه، فنجاحه وتمكنه في متجره الصغير، هو الخطوة الأولى لإنجاز التطلع البعيد.

ومن هنا قيل ان قطع الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة. كما أن مياه البحر عبارة عن قطرات تتجمع مع غيرها من القطرات، فتحقق بحراً عظيماً. وهذا القانون ليس مرتبطاً بالتطلعات الفردية فحسب بل يشمل التطلعات الجمعية العامة.

فالإنسان الفرد والمجتمع، لا يستطيع أن يحقق تطلعاته وأهدافه بالمبادئ والقيم العامة بوحدها. وإنما من الضروري استنباط البرامج والخطط المرحلية من تلك المبادئ بما ينسجم وظروف الواقع واللحظة الراهنة. وإن المرء الذي يعجز عن توليد البرامج واستنباتها في السياق الاجتماعي الطبيعي، لن يتمكن من تحقيق تطلعه والوصول إلى مطامحه.

اضف تعليق


التعليقات

الشيخ ابراهيم الازيرجاوي
العراق
ان ظاهرة الامامة والوصاية في حياة الامم الموحدة وهذه الامة بالذات مبتنية على لابدية مرور الزمن كاحد اهم اسس التغير ورعاية التدرج في الاقتلاع عن الماضي غير المرضي واحلال الاسس الجديدة من المتبنيات الحضارية للدين الجديد2022-04-19