q
هل كانت وسائل الإعلام وهي تغطي هذا الحدث، متفاعلة مع هذه القضية بجانبها الإنساني والأخلاقي، أم كانت تبحث فقط عن نسب المشاهدة أو التريند، الذي لا يقيم وزنا لأي قيم مهنية أو أخلاقية، ومن ثمّ فإن حادثة الطفل ريان يمكن استخدامها كنموذج لصحافة وإعلام الإثارة...

مقدمة:

تصدرت قضية الطفل المغربي "ريان" اهتمام كبرى وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية، لما قدمته من قصة انسانية غير معهودة على مستوى التغطيات الاعلامية للقضايا الانسانية المشابهة لها، إذ استمالت عواطف الجمهور المتابع للقضية والذي ادى الى تضامن عالمي على مستوى الشعوب والحكومات والشخصيات العامة، بتحول المأساة من حادثة محلية الى قصة عالمية مؤثرة، في سابقة الأولى من نوعها في المنطقة العربية.

بعد ظهر يوم الثلاثاء الاول من شباط كان الطفل ريان يمشي بجوار منزله في قرية إغران بمحافظة شفشاون شمال المغرب، فجأة لاحظت امه اختفاء ريان وبدأت عملية البحث عنه على قدم وساق وتم اكتشاف انه سقط في بئر جافة بعمق 32م, وحال انتشار الخبر توافد المتطوعون من ابناء القرية للمساعدة بوسائل تقليدية, وللأسف فشلت كل جهودهم في انقاذ الطفل، مما تطلب استدعاء فرق الانقاذ المحترفة, إلاّ إن قطر البئر الضيق لا يتجاوز 45 سم، ممّا لم يسمح بإمكانية المرور وتقديم المساعدة، على الرغم انهم حاولوا ذلك معرضين انفسهم لخطر الاغماء، وقد وضع المنقذون سيناريوهات عديدة ومن دون شك خطر في بالهم العمل على توسعة قطر البئر, إلاّ انه كان لابد الاخذ بالاعتبار احتمالية انهيار التربة وتساقط الحجارة على الطفل ريان وفقدانه للابد.

وقد ابتدأت شرارة القضية عند انتشار الخبر في مواقع التواصل الاجتماعي (صحافة المواطن) الى جانب التغطية المكثفة لوسائل الاعلام ممّا حولها من قضية محلية الى قضية مؤثرة عالمية، ممّا وضع السلطات المغربية امام ضغط شعبي ودولي هائل جعلها في سباق محموم وحملها مسؤولية اخراجه حياً، اذ جندت السلطات المغربية كل الوسائل لإخراج ريان واستمرت طيلة خمسة أيام وأربع ليال متواصلة بأعمال الحفر والترقب، اذ تطلب الأمر حفر عمق آخر مكشوف مواز للبئر، ليتم بعده حفر نفق أفقي، يصل عبره رجال الوقاية والطاقم الطبي إلى ريان بطريقة أسهل وأكثر أمناً، لكن هذه العملية المعقدة كانت محفوفة بالمخاطر، لأن التربة في هذه المنطقة سهلة الانزلاق، وقد تؤدي في أي وقت إلى السقوط وردم البئر على الطفل العالق، لذا جرى حفر النفق العمودي الموازي المكشوف بآليات الحفر، وهو الأمر الذي تطلب أكثر من 48 ساعة، بعدها جرى حفر النفق بآلات يدوية، تجنباً لانجراف التربة.

كان ريان في الداخل يعاني من كسور في جسده، ومن انعدام الأوكسجين، والعطش، وربما البرد، وعدم القدرة على الحركة، وجرى تزويده ببعض الطعام والأوكسجين عبر أحبال يتم إدخالها بعناية، لكن عدم قدرته على الحركة، كما تبين ذلك الكاميرا، لم تُسعفه على الأكل والشرب، وبعد 3 أيام من الحفر اليدوي الدقيق، والذي كان يرتطم بصخور وجب نبشها بعناية فائقة، وعملية التدرج في إدخال الأنابيب الحديدية الضخمة عبر النفق الذي يبلغ طوله أكثر من 7 أمتار، تم الوصول إلى ريان ليلة السبت (5 شباط عام 2022م) ليجدوه قد وافته المنية، إذ إنه من المفترض أنه قاوم كثيراً من أجل البقاء على قيد الحياة، ولكن الأجل المحتوم باغته وهو على وشك انقاذه والعودة إلى أهله.

يتناول التقرير رصدا لعينة من أبرز وسائل الاعلام الفاعلة في قضية الطفل ريان، شملت:

1. وكالة المغرب العربي للأنباء.

2. موقع هسبرس (اول صحيفة الكترونية مغربية).

3. موقع قناة الجزيرة.

4. موقع قناة العربية.

5. موقع سكاي نيوز عربية.

6. صفحتي الفيس بوك للعربية وسكاي نيوز.

اذ تمت متابعة التغطية الاعلامية المكثفة التي اجرتها وسائل الاعلام حول القضية، للمدة من (1/2/2022م- 7/2/2022م).

لقد اثارت قضية ريان أسئلة عديدة بشأن تعاطي وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مع هذه القضية، ومدى تقيدها بمبادئ أخلاقيات المهنة، خصوصاً في ظل ما رافق لجوء بعض المنصات الإعلامية إلى استخدام أساليب التضليل واختلاق الأخبار الزائفة والإثارة والتهويل والتعتيم.

على صعيد التغطية الاعلامية للقصة، طرح الكثيرون بعض التساؤلات حول سر الاهتمام بقصة ريان، فيما يعاني ملايين الأطفال العرب من مآس رهيبة بين فقدان الأمن والجوع وانهيار الصحة، والتعرض لخطر الموت أحيانا في سوريا والعراق واليمن وفلسطين وغيرها، دون متابعة إعلامية مناسبة.

والاجابة على هذه التساؤلات هي ان شكل مأساة الطفل ريان ادى دوراً مهماً في طبيعة التغطية الإعلامية لها والاهتمام بمتابعتها، إذ صنعت الظروف التي أحاطت بمأساته الصورة التي فجرت القضية إعلامياً، فهو طفل وقع في بئر بشكل مفاجئ في يوم عادي لا صراعات سياسية أو عسكرية فيه، وهو شخص واحد عرفت صورته وملامحه وعرفت صورة أبيه وأمه، وهذه عناصر كلها تعطي للقصة قيمة إعلامية، أما المآسي الأخرى، فإن ضحاياها كثيرون، وهم يعيشون في أماكن صراعات دموية صارت المعاناة فيها أمراً عادياً، ولا تعرف صورهم ولا ألوان ملابسهم ولا صورة آبائهم وعائلاتهم، ولذلك فإن الاهتمام الإعلامي بهم يتراجع مع الوقت، فالمعاناة والمأساة وحدهما لا تصنعان قصة إخبارية تحظى بالاهتمام، وهو ما يفسر مثلا التغطية الإعلامية العالمية لقصة الطفل السوري اللاجئ، الذي غرق على ساحل البحر في أثناء محاولة عائلته الهجرة من جحيم الصراع في سوريا، مع أنه ليس الطفل الوحيد الذي انتهت قصة حياته هذه النهاية المأساوية.

توصل تقرير الرصد الإعلامي الى النتائج الآتية:

1- بحسب رصد التغطية الإعلامية تبين للباحثة نوعين من التغطية، وهما كما يأتي:

أ‌. اولهما اتسم بالمهنية لعدد من وسائل الإعلام المغربية والعربية والدولية، اذ جرى التركيز على القصة الخبرية، واستقصاء الحقيقة من مصادرها الرسمية، والتعليق المناسب للحظة، أي عدم التشويش السياسي أو غيره على عملية الإنقاذ، وعدم تحويل الحدث إلى مناسبة للتفرج على مآسي الغير.

ب‌. اتسم بالانتهازية في التعامل مع القضية من أجل تمرير رسائل سياسية، أو لتحقيق النجومية، أو لاصطياد الفرص للزيادة في عدد المعجبين، اذ دأبت بعض وسائل الإعلام باستغلال هذه المأساة، وانتهكت المصداقية وبثت الأخبار الكاذبة والمضللة، بهدف جذب أكبر عدد من المشاهدات نحو محتوى إنساني.

ورافقت التغطية الإعلامية لقضية الطفل عدداً من الخروقات المهنية، منها:

- تصوير الطفل ريان في قاع البئر بوجهه الدامي، في وضعية إنسانية صعبة.

- استجواب أطفال قاصرين.

- نشر صور قاصرين عبر فيديوهات بمحيط عملية الإنقاذ، بغرض الإثارة المجاني.

وهذا النوع من التغطية الاعلامية شكل انتهاكا لحقوق الطفل، ولا سيما ما يتعلق منها بحماية الأطفال من الاستغلال الإعلامي أو السياسي، كنشر صور لطفل في حالة حرجة من دون موافقته، ومن دون ترخيص من أبويه، واستعمال الجروح والدم لاستمالة العواطف، وهذا الامر مخالفاً لأخلاقيات المهنة.

2- ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تسليط الضوء على قضية الطفل ريان بشكل رئيسي وفعال، الذي دفع وسائل الاعلام المحلية والعالمية لتغطية القضية بشكل مباشر ومكثف، فلولا الزخم الإعلامي الذي أحدثته لما كان لقصته أن تحظى بكل التعاطف العالمي الذي لقته، ولغادر ريان بصمت دون أي اعتبار مما وقع، فقد صارت وسائل التواصل الاجتماعي المؤثر الأكبر في وسائل الإعلام التقليدية، فقد أظهرت قصة ريان العديد من الحقائق ابرزها أن مواقع التواصل الاجتماعي أضحت بديلاً لوسائل الإعلام الرسمية والحكومية، ومصدراً للخبر، عن طريق سهولة استخدامها، وقدرتها على البثّ المباشر، وهو ما كسر سلطة فروقات التوقيت من جهة، وحرم الإعلام الرسمي من القدرة على إعادة إنتاج الروايات والقصص حول الموضوعات مثار اهتمام الرأي العام.

3- بحسب رصد التغطية الاعلامية لقضية الطفل ريان وجدت الباحثة ان وسائل الاعلام المرصودة اعتمدت في تغطيتها فن القصة الخبرية او السرد القصصي ويعد هذا الفن الصحفي الابرز في التغطيات الاعلامية للقضايا الانسانية وبحسب ما يصنفه المتخصصون في الاعلام بما يعرف بـ الصحافة الانسانية، وهي تبدأ أو تكتفي برواية قصة متعلقة بفرد، اذ لاقت قضية الطفل ريان تغطية اعلامية مكثفة محلية وعربية ودولية، والسبب ان المتلقي يتعاطف مع المستضعف مثل الطفل او المرأة او كبار السن، وهذا التعاطف قد يصل لمستوى يلامس التقمص الوجداني عن طريق الروايات الفردية أكثر من تلك الجماعية، مهما تعاظمت مأساتها.

4- اعتمدت وسائل الاعلام في تغطيتها لقضية الطفل ريان على تقنيات صحفية مؤثرة وكان أبرزها استخدام الصورة بعدها مفتاح تأثير القصة الإنسانية، فضلاً عن استخدام الأدوات البصرية الاخرى التي رافقت قضية ريان بحيث ارتقت إلى مستوى تصوير الصورة، فاعتمدت تقنيات لتجسيد المأساة مثل: الكاريكاتير، الرسم الغرافيكي، الرسم اليدوي، الرسوم المتحركة، محفزات عديدة على التخيل والتشويق، وفي بعض الرسمات تدخلت البيانات لتحدد عمق الحفرة وعرضها، وراحت تتعقب قرب الوصول إلى الطفل فتتغير أرقامها كأنها حية.

5- المتابعة اللحظية المستمرة في التغطية الاعلامية لقصة إنقاذ ريان اعتمدت على عنصر التشويق واحتمالية بقاء ريان حياً لجذب المتلقين وكسب متابعة تغطيتهم عبر استخدام عناوين مثل: "اقتراب انقاذ"، "دقائق تفصلنا عن"، "آخر تطورات"، " إشارة حياة يعطيها الطفل"، "مباشر- فريق الاسعاف"، وغيرها، نجحت في خطف أنظار الناس وعواطفهم.

6- كلمة السر في استمرار التغطية الاعلامية المتدفقة والمباشرة هي الأمل بنجاة الطفل ريان، ومما زاد من الأمل في إنقاذه، هو إنزال كاميرا إلى البئر ومشاهدة الطفل وهو يتحرّك مما يدل على أنه ما زال على قيد الحياة، وهذا أظهر الشعور الإنساني القوي لدى الشعوب العربية والاسلامية بشكل خاص والشعوب العالمية بشكل عام.

7- اظهرت التغطية الاعلامية تضامنا غير مسبوق مع قضية الطفل ريان على مستوى الحكومات والشخصيات العامة العالمية مثل ملك المغرب محمد السادس بن الحسن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والشيخ محمد بن راشد نائب رئيس دولة الإمارات ورئيس مجلس الوزراء وحاكم دبي وغيرهم.

8- واجهت التغطية الاعلامية لقضية الطفل ريان صعوبات عديدة كان من ابرزها التضارب في المعطيات بشأن تطورات عملية الإنقاذ، في ظل شح المعلومات الرسمية والموثوقة في البداية، قبل أن تحاول السلطات المحلية تدارك الأمر عبر تكليف ناطق رسمي باسم خلية الإنقاذ، يعمل على مد وسائل الإعلام بإفادات بشأن تطوراتها، فضلا عن صعوبات في التواصل واجهت الصحافيين ميدانيا، في ظل ضعف شبكة الهاتف والانترنت في هذه المنطقة الجبلية، وأدى احتشاد المئات من المواطنين الذين قدموا إلى القرية، في بعض الحالات، إلى تعرض بعض الصحافيين لمجموعة من المضايقات أثناء القيام بعملهم. اضافة لهذه الصعوبات التقنية تضاف إليها صعوبات أخرى نفسية وجسدية عايشها الصحفيون الذين اشتغلوا على التغطية، فمع مرور أيام وساعات التغطية كان الضغط يزداد على الصحفيين بشكل كبير، وادت هذه القضية الى تعاطف القائم بالاتصال التي اظهرت بعدا انسانيا غير مسبوق على صعيد التغطيات الاعلامية للقضايا الانسانية.

9- على الرغم من انتهاء قضية ريان نهاية مأساوية، وسينقطع الاهتمام الإعلامي بها، لكن اظهرت هذه القضية مأساة أخرى تتمثل بضعف الاقتصاد وغياب التنمية في الدول العربية، اذ تعاني القرى والمدن البعيدة عن العواصم والمدن الكبرى من اختلال كبير في التنمية، وتفتقد للطرق الآمنة، ولعوامل الأمن والسلامة، ولإمدادات الطاقة لكهربائية والماء، وللقدرات التي تؤهل السلطات المحلية على التعامل مع الحوادث الطارئة وغير المتوقعة، ولكانت خاتمة هذه القصة إيجابية ومفرحة وليس كما هو الواقع مأساوية ومحزنة.

تشير معطيات النتائج اعلاه الى سؤال مهني مهم وهو:

هل كانت وسائل الإعلام وهي تغطي هذا الحدث، متفاعلة مع هذه القضية بجانبها الإنساني والأخلاقي، أم كانت تبحث فقط عن نسب المشاهدة أو التريند، الذي لا يقيم وزنا لأي قيم مهنية أو أخلاقية، ومن ثمّ فإن حادثة الطفل ريان يمكن استخدامها كنموذج لصحافة وإعلام الإثارة الذي يبحث فقط عن نسب المشاهدة والانتشار.

التوصيات:

1- على وسائل الاعلام والصحفيين التزود ببعض الخبرات الخاصة في التغطيات المتعلقة بالقضايا الانسانية، وتوفير مثل هذه الخبرات لكوادرها عبر التدريب او توظيف اشخاص متخصصين، ومن ثم اكتساب الخبرة الكافية لتناول قضايا انسانية مثل قصة الطفل ريان المغربي.

2- ضرورة اهتمام وسائل الاعلام بتسليط الضوء على ضعف الاقتصاد وغياب التنمية ومشكلات البنى التحتية في الدول العربية، اذ تعاني القرى والبلدات البعيدة عن العواصم والمدن الكبرى من اختلال كبير في التنمية بصورة عامة، وافتقادها للطرق الآمنة، ولعوامل الأمن والسلامة وفرق الإنقاذ والتعامل مع الازمات الطارئة وحالات الطوارئ عموما.

3- أهمية التزام وسائل الاعلام اثناء التغطية الاعلامية بالمعايير المهنية والعلمية باستخدام مؤشرات علمية ومهنية متخصصة أو استطلاعات أو بيانات دقيقة لضمان تقديم محتوى يتسم بالمصداقية والموضوعية.

4- يتوجب على وسائل الاعلام اثناء التغطية الاعلامية الالتزام بالتوازن أو التناسبية بالطرح لضمان تناسب التغطية مع أهمية الحدث نفسه.

5- ضرورة تبني السلطات والحكومات دعم وسائل الاعلام الجديدة لان التفاعل والتغطية الواسعة لقصة ريان شكّلت درساً للسلطات الحكومية حول حجم وعمق وحدود التغيير الذي نعيشه على هامش مواقع التواصل الاجتماعي، وكيف أنّ الحكومات لم يعد بمقدورها أن تكون الفاعل الوحيد في إنتاج الأخبار والقصص وتقديمها للرأي العام، فهناك شريك جديد بإمكانيات محدودة جداً، فكل هاتف خلوي مرتبط بالإنترنت أصبح محطة فضائية وجريدة وإذاعة في آن واحد معاً.

6- على وسائل الاعلام الاخذ بنظر الاعتبار ان ترتيب أولوية التغطيات لا يخضع دائما لمبدأ ان الخبر السياسي هو الأهم، بل على مبدأ مدى تأثير الاخبار والقضايا في المجتمع.

اضف تعليق