q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

العبادة بالوعي والمعرفة

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

لماذا هذا التركيز على وجوب فهم العبادة، ومعرفة أهدافها ومضامينها، ولا يمكن أن تتساوى العبادة بالمعرفة مع العبادة من دون معرفة، إن الإنسان إذا عرف عبادته، وضبط ما يقوم به، فسوف يكون فاهما لما يقوم به ويتلفّظ به أيضا، وهو في هذه الحالة يؤدي عبادته بعمق واهتمام ومحبة وتفاعل وانقطاع تام لله تعالى...

(إنّ الله تبارك وتعالى يحبّ للإنسان أن يصلّي بوعي وحضور قلب).

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

العبادة أو التعبّد الذي يقوم به الإنسان في أدائه لصلاته، له سمات عديدة من أهمها العمق والانقطاع العام لله تعالى، ولابد للمصلّي أن يكون على معرفة تامة بما يتلفّظ به من كلمات وسوَر قرآنية وأدعية، فكل كلم ينطقها ينبغي أن يتعمق فيها ويكون عارفا بمعناها ومضمونها، وأن لا يكتفي بجودة نبرة الصوت والنطق السليم وضبط مخارج الحروف والكلمات، بل إلى جانب ذلك من المهم جدا أن يكون عارفا بعمق ما يقول.

لماذا على الإنسان أن يكون عارفا بما يقوله؟، الجواب واضح، لأن الشيء الذي تقوله وتجهله ولا تعرف معانيه، وما هو القصد منه، وما هو مضمونه سوف يقودك إلى الضرر، ويخرجك عن الجادّة الصواب، وقد يجد الإنسان نفسه منحرفا ومشركا بسبب الكلمات التي يتلفّظ بها ولا يعرف ماذا تعني وما المقصود منها؟

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يشير إلى هذه النقطة في كتابه القيّم الموسوم بـ (يا أبا ذر)، فيقول:

(إنّ العبادة إذا لم تقترن بالمعرفة، أصبحت عامل ضرر، وأخرجت العابد عن جادّة الصواب، فيرى نفسه منحرفاً نحو الشرك والرياء).

وهناك شرط حاسم يتعلق بالعبادة، لا يقل أهمية عن وجوب معرفة المتعبّد بما يقوم به، أو بما يقوله في صلاته، وهذا الشرط الثاني هو حصر العبادة بالله تعالى، فلا تجوز العبادة لغير الله، لأن هناك شخصيات طاغية بلغ بها طغيانها إلى إعلان ربوبيتها على الناس بدلا من الله تعالى، وكان بعضهم يقول (أنا ربكم الأعلى).

فهل يُسمَح للإنسان أن يعبد الطاغية بدلا من عبادته لله تعالى؟، بالطبع هذا لا يجوز كونه شرك غير جائز بالمرّة، وغير مقبول تماما، لهذا فإن معرفة طقوس وألفاظ العبادة، يجب أن تكون محصورة بالله تعالى، ولا يمكن القبول أو السماء بعبادة بشر لا يختلف عن العابد بشيء إلا بسلطته وقوّته وبطشه وتعاليه وغروره.

العبادة لا تكون سوى للخالق

هذه كلها صفات للحاكم المريض، المتضخّم ذاتيا، والمصاب بأنانية هائلة ونرجسية مريضة، وإلا كيف يجرؤ حاكم بشري على أن يضع نفسه في محل الخالق الأوحد، رب الكون والمخلوقات كلها؟، لهذا لا تجوز الطاعة للطاغية ولا العبادة، ولا التأليه، أيّا كانت الضغوط أو الأساليب الإجبارية التي تقع على الناس كي يعبدوا غير الله.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(إنّ العبادة لا تكون سوى للخالق والمولى الذي يتوقّف تمام الوجود على لطفه. فهو المولى والخالق، ونحن جميعاً عبيده).

لماذا هذا التركيز على وجوب فهم العبادة، ومعرفة أهدافها ومضامينها، ولا يمكن أن تتساوى العبادة بالمعرفة مع العبادة من دون معرفة، إن الإنسان إذا عرف عبادته، وضبط ما يقوم به، فسوف يكون فاهما لما يقوم به ويتلفّظ به أيضا، وهو في هذه الحالة يؤدي عبادته بعمق واهتمام ومحبة وتفاعل وانقطاع تام لله تعالى.

على العكس من أداء العبادة الشكلية، حيث يحفظ العابد الكلمات والألفاظ والحركات من دون أن يفهم معانيها، فلا يتعمق بها، ولا يستطيع أن يصل إلى حالة الانقطاع لله، بل يبقى منشغلا بأمور جانبية، ويؤدي عبادته بصورة شكلية أو آلية اعتاد أن يؤديها كل يوم بالطريقة الخالية من المعرفة والعمق.

سماحة المرجع الشيرازي يضرب لنا مثلا عن رسم شكل الوردة الخالية من العطر، فهي جميلة جدا بشكلها الخارجي الذي أتقنه رسام ماهر، لكن حين نأتي لمقارنة شكلها الجميل هذا مع (الوردة الحقيقية) فإن الفارق بينهما كبير جدا، ذلك أن الوردة الحقيقية تضج بالعطر والجمال الحقيقي، أما الوردة المرسومة فهي جميلة بشكلها فقط لا غير.

هذا هو الفارق الكبير بين العبادة الشكلية، والعبادة المقرونة بالمعرفة، فالأولى يؤديها العابد بطريقة لا عمق فيها ولا تبصّر ولا تفاعل مع الله تعالى، بل يؤدي الحركات ويقول الكلمات بشكل غير عميق آلي معتاد عليه بشكل يومي وينتهي الأمر، ولكن العبادة الصحيحة هي التي تشبه الوردة الحقيقية بعطرها وجمالها وليس بشكلها السطحي فقط.

العبادة الصحيحة تلطّف سريرة الإنسان

لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (إنّ الفرق بين العبادة المقرونة بالمعرفة وبين العبادة المفتقرة لها، كالفرق بين الوردة الواقعية ورسمها، من حيث إنّ لهما ماهيّتين ومعنيين، فليس لرسم الوردة الشكلية أيّ حقيقة من حقائق الوردة ذاتها. ولعلّ رسّاماً بارعاً يتمكّن من تصوير وردة هي في شكلها أجمل وأروع من الوردة الحقيقية، ولكن يستحيل أن يكون لها مميّزات الوردة الواقعية).

حين يتوجّه العابد بصلاته إلى الله تعالى ويلفظ جملة (الله أكبر)، عليه أن يفهمها، ويتعمّق فيما تعنيه هذه الكلمة، وليس صحيحا ينطقها بطريقة سريعة معتادة شكلية وينتهي الأمر، أو حين يقول (بسم الله)، فهذه جملة سهلة ويمكن أن يلفظها العابد دون صعوبة تُذكر، ويمكن أن يعتاد على قولها وحفظها أيضا، لكن المهم جدا هو الـتأثير النفسي العميق الذي تتركه هذه الجملة في سريرة وأعماق قائلها والمتلفّظ بها.

قد يلفظ العابد هذه الكلمات بطريقة سليمة ونبرة واضحة وبصوت نقي، لكنه ربما يجهل معناها ولا يتعمق بها، كما أنه ربما يؤدي الحركات التي ترافق هذه الكلمات بصورة دقيقة أيضا، وهذه من الأمور المستحبة، لكن الأهم والأصح أن يرافق هذا الضبط الشكلي المعرفة والدقة والاهتمام والعمق والتفاعل الحقيقي أثناء التعبّد.

كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:

(إنّ الإنسان حينما يشرع بصلاته قائلاً: «الله أكبر» عليه أن يعي ما يقول، وإذا قال: «بسم الله» عليه أن يتعمّق في هذه العبارة المقدّسة. ينبغي إيلاء الاهتمام بقضايا الوعي والدقّة أكثر من الاهتمام بالقيام بالمستحبّات).

إن حالة الاهتمام التي نظرها بمن نحبهم من الناس غالبا تكون واضحة علينا، فحين يكون لنا لقاء بمن نحبه، سوف نحرص على القيام بكل الأمور التي تؤكّد أننا مهتمون بمن سنلتقي به، كأن نلبس أفضل الملابس، وأن نظهر بأفضل الأشكال وما إلى ذلك من المظاهر والأفعال التي تثبت اهتمامنا.

الأمر نفسه يجب أن نقوم به في لقائنا مع الله تعالى أثناء العبادة، بل أن الله تعالى أحق من الجميع بهذا الاهتمام الكبير، لذا يجب أن تكون عبادتنا ليست شكلية ولا آلية، ولا إسقاط فرض، بل هي عبادة حقيقية تعبر عن وعينا بأهميتها، والتزامنا بإحاطة هذه العبادة والعلاقة بكل ما يديمها ويجعلها عميقة ومتميزة ومستدامة.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(ليس خافياً أنّ الإنسان إذا ما كانت له علاقة وطيدة مع أحد الناس، فإنّه يسعى إلى الإقبال التامّ عليه في حال التحدّث إليه، لتكريس مزيد من العلاقة والحبّ تجاهه. ومَنْ أولى من الله الخالق الودود بالحبّ والارتباط؟!).

المعرفة والوعي شرطان مهمان من الأفضل أن يقرنهما الإنسان بعبادته، وأن لا يقع في فخ الأداء الآلي للعبادة والصلاة التي لا تعني أداء فرض بشكل يومي في وقت محدد، فنؤديه بصورة آلية تفقد الصلاة قوتها وقدرتها على أن تردع الإنسان عن (الفحشاء والمنكر)، فالصلاة التي لا تنهي عن الفحشاء والمنكر تبقى صلاة ذات طبيعة شكلية، لا عمق فيها ولا تفاعل ولا معرفة ولا وعي، بينما المطلوب أن تكون صلاتنا وعبادتنا مقرونة بالوعي والعمق والمعرفة.

اضف تعليق