q
البلدان المكتفية بالطاقة والغذاء ستكون راكباً مجانياً على التلازم بين الدورة الاقتصادية ودورة الخزين في العالم وتحديدا الولايات المتحدة وكندا والمكسيك وبعض بلدان الاوبك من طرف والصين بكونها راكب مجاني على الطاقة والحبوب الروسية وسيشهد الاقتصاد العالمي خلال السنتين القادمتين بداية الثبات في نسبة المبيعات الى الخزين...

1- تمهيد مفاهيمي:

يشار الى المخزونات stocks في العلوم الاقتصادية بالغالب الى ما تحتفظ به المصالح التجارية والمنشآت من سلع او بضائع بما يمكنهم من مواجهة التقلبات الوقتية غير المتوقعة في الانتاج او المبيعات. وتعد المخزونات في الحسابات القومية شكلا من اشكال الاستثمار المقصود او غير المقصود.

اما دورة الخزين inventory cycle فهي تمثل التقلبات في مستوى الناتج الناجمة عن التغير في المخزونات المحتفظ بها. اذ يرتفع الطلب على الناتج من جهة كلما تزداد مبيعات الناتج المذكور ومستوى الاحتفاظ بالخزين السلعي من جانب المصالح التجارية والمنشئات من جهة اخرى. اذ يمكن استيفاء المبيعات (جزئيًا) من قائمة المخزونات عندما يكون الناتج منخفضًا؛ وبالمقابل يتم تعزيز الانتاج إذا كان الاستثمار في المخزون قيد الانجاز. اذ تحاول العديد من الشركات والمصالح الاحتفاظ بمخزون ثابت نسبة الى المبيعات constant inventory to sale ratio ما يعني أن التغييرات في المبيعات تؤدي إلى تغييرات أكبر في الانتاج مع الحفاظ على النسبة الثابتة آنفاً اي نسبة الخزين الى المبيعات.

وبالرغم مما تقدم، فان وقت دورة المخزون inventory cycle time يعد تكراراً turn over لاستبدال المخزون. أي مقدار الوقت المستغرق من بداية استخدام المخزون إلى نهايته.

في البيع بالتجزئة (اي هو الوقت بين وصول المنتج إلى المستودع الخاص بك وبيعه كما يقال). اما في عملية التصنيع او الانتاج، فان وقت دورة المخزون، هو الوقت المستغرق من بداية الانتاج إلى نهاية نشاطات التصنيع. بعبارة أبسط، هو مقدار الوقت الذي يستغرقه مخزون المواد الخام لتصبح سلعة نهائية من خلال آلية دالة الانتاج.

من جانب آخر تنصرف دورة الخزين الى ما يسمى بسلاسل التوريد Supply Chain Cycle Inventory اذ تؤثر دورة الخزين في إدارة سلاسل التوريد على الشركات والمصالح في السلسلة نفسها، بكونها تؤثر بشكل مباشر على السلع الموجودة لدى تلك المصالح وقدرتها على تلبية الطلبات. كما تنشأ مشكلات دورة خزين سلاسل التوريد عن عدد من العوامل: منها (الطلب). فإذا ارتفع الطلب أو انخفض، فإن مقدار المخزون المتحرك في سلسلة التوريد يتأثر بشكل مباشر، اذ يمكن معرفة تغييرات طلب الشركة وتفاعلاتها بشكل مناسب لزيادة المبيعات والحد من التكاليف. كما يمكن أن تتسبب عملية إدارة الطلب غير الدقيقة والتي تستند إلى بيانات غير صحيحة الى تراكمات في المخزونات تؤدي بسرعة إلى خسائر. وان من العوامل المؤثرة في دورة الخزين هو ما يسمى ايضا (طلب الامهال Order lead time). اذ يمكن أن يتسبب الوقت المستغرق بين تقديم الطلب ووصول المنتج في حدوث مشكلات في دورة الخزين وتعد واحدة من أكبر أسباب التأخير في إدارة المخزون نفسه.

وقد يساعد الاستثمار الرقمي هنا في برنامج تحسين المسار في التخفيف من هذه المشكلات او ما يسمى: route optimisation software وتعد (تكاليف التخزين) هي الاخرى احد اهم عوامل دورة الخزين. فتكلفة التخزين ترتفع وتنخفض على أساس مستويات المخزون وطول دورة الخزين نفسه.

2- تاريخ العلاقة الترابطية بين الدورة الاقتصادية ودورة الخزين

ادت التغييرات في مستويات المخزونات التي تحتفظ بها الشركات دورًا مهمًا في الدورات الاقتصادية الكلية. فمع دخول الاقتصاد في حالة الركود يكون التباطوء في الطلب (غير المتوقع) قد بلغ مداه الاقصى بشكل عام، لذلك لا تقدم الشركات على تعديل إنتاجها بسرعة كافية، ونتيجة لذلك، تتراكم مستويات من المخزونات هي اعلى من الطلب، وبهذا تؤشر مستويات المخزونات المرتفعة (أنه لبعض الوقت) بجب خفض الانتاج على نحو بأكثر من خفض الطلب. فبمجرد اكتمال هذا التعديل، يمكن أن يرتفع الانتاج إلى المستوى الجديد للطلب ثانية، مما يوفر دفعة قصيرة الاجل لوتيرة الانتعاش الاقتصادي. فليس من المستغرب أن يكون التباطؤ العالمي الذي حصل بعد الاعتدال العظيم في دورة الخزين Great Moderation قبل ازمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة 2008 مصحوبًا بدورة خزين كبيرة في أجزاء كثيرة من العالم.

فالفترة التي سبقت الازمة المالية العالمية في 2009-2007 والتي شهدت خلالها هبوطًا ملحوظًا في تقلب نمو الناتج المحلي الاجمالي في البلدان الغنية. حيث تراوحت تفسيراتها من السياسة النقدية (الاكثر حكمة) إلى العولمة (التشاركية) وارتفاع مستوى التنافسية. اذ ان جزءاً كبيرا من هبوط ذلك التقلب في الناتج المحلي الاجمالي (اي بمعنى أكثر من نصف التحسن في استقرار النمو في العالم الغني) قد تم تفسيره من خلال دورات الخزين المتناقصة -وتتمثل بثبات نسبة المبيعات الى المخزونات constant inventory to sale ratio والتي اكدتها والوقائع كما ذكرنا، اذ ان جزءا كبيرا من الاستقرار في الناتج المحلي الاجمالي يعود إلى مؤشر (أكثر اعتدالا) قوامه: مخزونات أصغر.

ومع ذلك، يبدو أن الدورة الاقتصادية التي حدثت جراء ازمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة كما ذكرنا في اعلاه قد اختلفت على سبيل المثال عن دورات الخزين السابقة في السرعة التي تجاوزت النمط الزمني المعتاد للدورة والتي كانت الشركات قادرة على ملاحظة الانخفاض في الطلب العالمي. وهذا يعكس سرعة تأثير نشر المعلومات وكفاءتها في سوق المعلومات Market of information من قبل وسائل الإعلام الرقمية، وخاصة التصدي لتطورات الاسواق المالية، والطبيعة المتزامنة لانخفاض الطلب او الانفاق على السلع في الوقت نفسه. اذ ادت التطورات في تقنيات مراقبة المخزون دورًا كبيرا أيضًا في اشاعة حالة اللا يقين، مما سمح للشركات بالاستجابة بسرعة أكبر من الدورات السابقة للخزين في التاريخ الاقتصادي للرأسمالية. ويلحظ ان العامل الاخر الذي شكل دورة الخزين وتلازمها مع الدورة الاقتصادية في العام 2009- 2007 هو الصعوبة التي واجهتها بعض الشركات في الحصول على تمويل لرأس المال العامل - working capital ما أدى بها إلى تقليل مخزوناتها من مدخلات الانتاج، ذلك كإجراء احترازي للحفاظ على سيولتها القدية - وكذلك تجنب تكاليف الائتمان التجاري والتأمين.

حيث اخذت التخفيضات في المخزونات شكلا متسارعاً وبصورة خاصة في بلدان شرق آسيا ضمن الاسواق الناشئة emerging markets، حيث تم احتساب نسبة كبيرة من الانتاج الصناعي في تلك التخفيضات ولاسيما السلع عالية القيمة التي انخفض الطلب عليها بشكل حاد. فباستثناء الصين واليابان، كانت المخزونات في اسواق شرق وجنوب شرق اسيا ترتفع بشكل طفيف خلال النصف الاول من عام 2008. ثم مع انخفاض الطلب العالمي بسرعة خلال شهري ايلول وتشرين اول 2008، واجهت الشركات في جميع أنحاء المنطقة المذكورة ضمن مناطق سلاسل الانتاج والتوزيع العالمية زيادة كبيرة في مخزون السلع والبضائع غير المباعة.

وسرعان ما أدى ذلك إلى إجراء تخفيضات كبيرة في الانتاج قاد بدوره إلى انخفاض المخزونات بشكل كبير، ذلك بحلول أوائل عام 2009، رافقه انخفاض يعادل أكثر من 2,5 نقطة مئوية في الناتج المحلي الاجمالي في الربع الاول من العام.2009 وان اجمالي ذلك الانخفاض عبر الفصول كان أكبر بمقدار الضعف مقارنة بالانخفاضات الفصلية خلال الازمة الاسيوية في العام 1997، مما عكس ظروف الفترة والتي تمثلت بصدمة سميت بصدمة الطلب demand shock. ففي كوريا الجنوبية، تسبب انخفاض الاسهم بخفض حوالي 3 نقاط مئوية من النمو في الناتج المحلي الاجمالي خلال ربعي السنة المنتهية في كانون الاول 2008 واذار 2909. كذلك تحقق انخفاضا في نمو الناتج المحلي الاجمالي قارب 2 نقطة مئوية مرة أخرى في ربع السنة المنتهية في حزيران 2009. وفي الصين، هناك أيضًا دليل على انخفاض كبير في مخزونات المواد الخام والمنتجات الصناعية النهائية في الجزء الاخير من عام 2008 وأوائل عام 2009.

وعلى الرغم من أن مدى تعديل مستويات الخزين تختلف باختلاف البلدان، بشكل إجمالي، الا انه يبدو أن الكثير من التناقص في معدلات النمو الاقتصادي قد جاءت بسبب انخفاض المخزون العالمي نفسه، رافقته توقعات تفاؤلية باحتمال أن تسهم المخزونات نفسها مساهمة إيجابية في النمو في العديد من البلدان خلال السنوات القليلة اللاحقة. يومها اشرت بيانات المسح لقطاعات التصنيع في العالم بأن وتيرة الانخفاض في مخزونات مدخلات الانتاج قد استقرت بشكل عام، وغدا الانخفاض في الطلبات الجديدة قد قارب الانتهاء مبتدءاً الصعود نحو معدلاته الاعتيادية المرغوبة.

3- دورة الخزين العالمية الراهنة وبوادر الدورة الاقتصادية

تؤشر دلالات الاقتصاد العالمي ان مرحلة من الركود التضخمي تجتاح الاقتصادات الكبرى وهي نمط من انماط الدورة الاقتصادية التي اثرت فيها كلفة المحروقات والمواد الغذائية الاساسية كمدخل انتاجي واستهلاكي استراتيجي أثر في هيكل استقرار الاسعار في العالم رافقها في الوقت نفسه انقلاب في اعتدال دورة الخزين السلعي في العالم.

وبهذا يعد الخزين شكلا من اشكال التأمين ضد مظاهر التأخر في الطلب وانعكاس ذلك على المبيعات. وعلى الرغم من ارتفاع كلفة التامين الذاتي (الخزين) الذي فرضته الظروف الدولية الراهنة سواء ادامة الخزين ما بعد جائحة كوفد 19 او حالة اللا يقين (في سوقي الطاقة والغذاء) بفعل الحرب في اوراسيا وكلفة امداداتها عبر ممرات الحرب الى السوق العالمية، فقد تحولت المفاضلة trade off لدى المصالح والشركات في العالم من حالة الكفاءة والتامين الذاتي: efficiency and self- insurance الى المفاضلة بين الوقت المناسب وما يقتضيه الحال المناسب just in time and just in case.

فثمة مفارقة تشهدها دورة الخزين اليوم مقارنة بالدورة الاقتصادية، اذ كلما سعت المصالح والشركات الى التامين الذاتي او التحوط بالمزيد من المخزونات، فان من المرجح ان يصبح الناتج المحلي الاجمالي اكثر وارباح الشركات اكثر تقلباً ذلك بمرور الوقت. فربما ان تجارة التجزئة الامريكية على سبيل المثال قد تحقق عوائد اعلى ولكن ستحيط ارباحها محاذير غير معروفة شديدة التكرار. وبهذا فان الاعتدال العظيم في دورة الخزين بدأ يسير حقا بالاتجاه المعاكس على الصعيد العالمي..!!!

4- الاستنتاجات:

تذكيراً، تعد دورة الخزين inventory cycle بالنسبة إلى باعة التجزئة أو الموزعين، عملية فهم مستويات المخزون وتخطيطها وإدارتها، والتي تشمل: الترتيب الدقيق للمخزون المطلوب بناءً على الطلب والشروط، حسب المنتج فضلا عن تقليل كلفة الوقت لإعادة الطلب على المنتجات بشكل افضل ايضاً.

الا ان ما يمكن توقعه من خلال ملامح هذه الدراسة على مستوى الترابط بين الدورة الاقتصادية ودورة الخزين في العام تحقق مسالتين:

الاولى، ان البلدان المكتفية بالطاقة والغذاء ستكون راكباً مجانياً over riders على التلازم بين الدورة الاقتصادية ودورة الخزين في العالم وتحديدا الولايات المتحدة وكندا والمكسيك وبعض بلدان الاوبك من طرف والصين بكونها راكب مجاني على الطاقة والحبوب الروسية من طرف آخر… وسيشهد الاقتصاد العالمي خلال السنتين القادمتين بداية الثبات في نسبة المبيعات الى الخزين constant inventory to sale rati والتحول تدريجيا نحو تناقص المخزونات كي تمسك بالاعتدال العظيم great moderation في دورة المخزونات. وان أكبر القوى الدولية التي ستواجه تلازما بين الدورة الاقتصادية التي ستكون مركباتها التضخم الركودي stagflation وتعاظم دورة الخزين بالتزايد هي بلدان اوروبا الغربية وشرق اسيا من بلدان الاسواق الناشئة عدا الصين وشتات واسع من البلدان النامية.

الثانية، سيكون الثمن الاقتصادي للسلام في اوروسيا هو اعتدال دورة الخزين في العالم وزوال دورة الركود التضخمي وعودة النمو في الاقتصاد العالمي ازاء تدرج هبوط اسعار الطاقة والمواد الغذائية الاساسية، لتضع الحرب الروسية الاوكرانية اوزارها على وقع هبوط اسعار الطاقة والغذاء بمستويات قد تبلغ نصف معدلاتها القصوى (بعد ان يبلغ سعر النفط الخام حده الاقصى المتوقع ربما يبلغ 175 دولار للبرميل ويبلغ طن حبوب القمح في اسواق السلع وبورصاتها الى 750 دولار او اكثر).

وعندها سيتزامن السلام على حدود اوروبا الشرقية مع ظاهرتي الاستقرار الاقتصادي والاعتدال العظيم في دورة المخزونات.

* باحث وكاتب اقتصادي أكاديمي، المستشار المالي لرئيس الوزراء العراقي
** المصدر: شبكة الاقتصاديين العراقيين

اضف تعليق