q
ثلاث سنوات مضت منذ إطلاق شركة «سبيس إكس» -وهي شركة تعمل في مجال الفضاء ويقع مقرها في مدينة هاوثورن بولاية كاليفورنيا الأمريكية- لأول دفعةٍ لها من أقمار الاتصال عبر الإنترنت ضمن كوكبة «ستارلينك» Starlink للأقمار الصناعية، الأمر الذي أثار حالةً من القلق في أوساط علماء الفلك...
بقلم أليكساندرا ويتز

ثلاث سنوات مضت منذ إطلاق شركة «سبيس إكس» -وهي شركة تعمل في مجال الفضاء ويقع مقرها في مدينة هاوثورن بولاية كاليفورنيا الأمريكية- لأول دفعةٍ لها من أقمار الاتصال عبر الإنترنت ضمن كوكبة «ستارلينك» Starlink للأقمار الصناعية، الأمر الذي أثار حالةً من القلق في أوساط علماء الفلك بشأن الخطوط التي تتركها الأقمار الصناعية في الصور الفوتوغرافية التي تُلتقَط للسماء ليلًا، ومنذ ذلك الحين، أُطلِق العديد من أقمار «ستارلينك» الصناعية: أكثر من 2300 منها يدور حاليًّا حول الأرض، وتضم قرابةَ نصف جميع الأقمار الصناعية العاملة.

أحرز العلماء بعض التقدم في التكيُّف مع هذا الانقضاض على الفضاء، فعلى سبيل المثال، سيُطلق الاتحاد الفلكي الدولي (IAU) في غضون أيامٍ موقعًا إلكترونيًّا يشتمل على أدواتٍ من شأنها أن تساعد مُشغلي التلسكوبات على التنبؤ بمواقع الأقمار الصناعية؛ حتى يتسنى لهم توجيه معدَّاتهم وأجهزتهم إلى مواقع أخرى.

لكن الأدلة المتراكمة تكشف لنا حجم ما سيحدث من تداخلٍ بين "كوكبات الأقمار الصناعية العملاقة" والمراصد الفلكية وغيرها من جهات مراقبة السماء الأخرى على مستوى العالم، ولم تتوصَّل شركات الأقمار الصناعية إلى حلٍّ بعد، وقد كانت شركة «سبيس إكس» تحاول التغلُّب على هذه المشكلة من خلال وضع مظلات حاجبة للشمس على كوكبات «ستارلينك» للأقمار الصناعية بهدف تعتيم بُزُوغها في السماء ليلًا، لكن دورية Nature علمت أن الشركة توقفت عن فعل ذلك.

من المحتمل أن تُطلَق عشراتُ الآلاف من الأقمار الصناعية الجديدة على مدار السنوات القليلة المقبلة، تقول ميريديث رولز، اختصاصية علم الفلك بجامعة واشنطن في مدينة سياتل: "هذا توجهٌ يصعب التعامل معه، صحيحٌ أن علمنا على ما يرام في الوقت الراهن، ولكن تُرى في أي مرحلةٍ سنُحرم إحدى فرص الاكتشاف؟".

الآثار الناجمة عن كوكبات الأقمار الصناعية العملاقة

منذ إطلاق أقمار «ستارلينك» الصناعية للمرة الأولى، تجاوز علماء الفلك مرحلة الذعر من أن تتسبب الأقمار الصناعية في إفساد صور عمليات الرصد العلمي، وأضحوا يفكرون في تنظيم استجابة عالمية، وعقب سلسلة من ورش العمل الدولية التي نُظِّمت في عامي 2020 و2021، أنشأ الاتحاد الفلكي الدولي مركز حماية السماء المظلمة والهادئة من تداخُل كوكبات الأقمار الصناعية، ويهدف موقعه الإلكتروني الذي من المُقرَّر إطلاقه قريبًا إلى أن يكون بمنزلة ملتقىً لعلماء الفلك وواضعي السياسات ومشغلي الأقمار الصناعية والجمهور؛ من أجل التنسيق بشأن الكيفية التي يمكن بها الحد من تأثيرات الأقمار الصناعية المتوهجة في السماء.

تشير دراسةٌ حديثة إلى أن كوكبات الأقمار الصناعية ستصبح في المستقبل أكثر جلاءً خلال ليالي الصيف عند دائرتي عرض تُقدَّران بنحو 50 درجة جنوبًا و50 درجة شمالًا، حيث يوجد العديد من المرافق الفلكية الأوروبية والكندية، وتقول الدراسة إنه إذا ما أطلقت شركة «سبيس إكس» وشركاتٌ أخرى الأقمار الصناعية المُقترحة والبالغ عددها 65 ألفًا، فمن المتوقع أن تتزاحم النقاط الساطعة في السماء طوال الليل عند دائرتي العرض هاتين في الأوقات القريبة من الانقلاب الصيفي، وفي الساعات القريبة من شروق الشمس وغروبها، سيكون نجمٌ من بين كل 14 نجمًا مرئيًّا للعين المجردة قمرًا صناعيًّا في حقيقة الأمر.

تقول سامانثا لولر، اختصاصية علم الفلك بجامعة ريجينا في كندا، والتي أشرفت على هذا الجهد البحثي: "ذاك أمرٌ مرعبٌ للغاية".

سيشمل التأثيرُ الأكبر المراصد الفلكية التي تدرس مساحاتٍ شاسعةً من السماء، وليست تلك التي ينصبُّ تركيزها على الأجرام السماوية الفردية؛ فقد ظهرت خطوط أقمار صناعية في 18% من الصور التي التُقِطَت خلال الشفق في أغسطس 2021 بواسطة «مرفق زويكي العابر» (ZTF)، الذي يمسح مساحاتٍ شاسعة من السماء باستخدام تلسكوبٍ بفتحة قطرها 1.2 متر على جبل بالومار بولاية كاليفورنيا، وقد ازداد هذا الرقم مع ازدياد أعداد الأقمار الصناعية، وفق ما يقول برزيميك مروز، الباحث الرئيس في الدراسة واختصاصي علم الفلك بجامعة وارسو، وأجرى برزيميك تحليلًا أوَّليًّا لبيانات «مرفق زويكي العابر» بدايةً من أبريل 2022، ليتبيَّن له أن خطوط الأقمار الصناعية أثَّرت على نسبةٍ تتراوح بين 20% و25% من صور الشفق.

لم يتضرر إلى الآن العديدُ من قياسات «مرفق زويكي العابر» بسبب خطوط الأقمار الصناعية، ويرجع ذلك في جانبٍ منه إلى أن الأساليب التي يتبعها في معالجة الصور يمكنها اكتشاف مسارات الأقمار الصناعية وإخفاؤها، وفقًا لما يقوله مروز، لكن ثمة تحديات أكبر تواجهها المراصد الأخرى، وبالأخص «مرصد فيرا سي روبين»، وهو تلسكوب واسع النطاق بفتحة قطرها 8.4 أمتار تُموِّله الولايات المتحدة ولا يزال قيد الإنشاء في دولة تشيلي، ونظرًا إلى أنه سيُصوِّر السماء المرئية بالكامل كل ثلاثة أيام، ثمة احتماليةٌ كبيرة أن تشتمل صوره على خطوط أقمار صناعية، وتسعى رولز وعلماء فلك آخرون للوصول إلى طرقٍ للتخفيف من حدة الأضرار، مثل الخوارزميات القادرة على اكتشاف خطوط الأقمار الصناعية ومحوها من البيانات، لكن إصلاح البيانات لا يزال يتطلب الكثير من الوقت والجهد، تقول رولز: "هذا بالتأكيد سيبتلع جزءًا كبيرًا من مسيرتي المهنية".

سماءٌ مزدحمة

من جهةٍ أخرى، يُمثِّل هذا العدد المتزايد من الأقمار الصناعية تهديدًا؛ إذ قد يؤثر سلبًا على مجال علم الفلك الراديوي، كما أنه قد يزيد من كمية الحطام الفضائي، وبخلاف ذلك، فالتأثيراتُ الأوسع نطاقًا ربما تشمل الحياة في جميع أنحاء العالم؛ فوجود الأقمار الصناعية يُسهِم في توهُّج الخلفية السماوية، وهو الأمر الذي يُمكِن أن يُحدِث حالةً من الارتباك لدى الحيوانات التي تعتمد على الملاحة السماوية، ويمكن أن تتداخل خطوط الأقمار الصناعية أيضًا مع نُظُم المعرفة البشرية، مثل نُظُم المعرفة الفطرية التي تعتمد على المعلومات المستمدة من السماوات المظلمة لتحديد الأحداث المهمة على مدار العام.

من جانبها، تُشير كارلي نون -المرشحة لنيل درجة الدكتوراة في علم الفلك وزميلة أبحاث السكان الأصليين في جامعة أستراليا الوطنية في كانبيرا- إلى أن التهديد المتنامي التي تُمثِّله كوكبات الأقمار الصناعية يُضاف إلى مظاهر التدهور الأخرى في سماء الليل والتي من بينها التلوث الضوئي، وتوضح نون قائلةً: "تتعرض سماؤنا في الوقت الحالي للاستعمار بالطريقة نفسها التي تعرَّضت بها أراضينا له، والأمر هنا لا يتعلق بالسكان الأصليين فحسب"، تُبيِّن نون أن الشركات أطلقت أقمارًا صناعية دون الحاجة إلى التشاور مع المجتمع العلمي.

سعت بعض الجهات التي تتولى تشغيل الأقمار الصناعية إلى التخفيف من حدة المشكلة؛ فقد أخذت شركاتٌ -منها شركة «سبيس إكس» وشركة «وَن ويب» OneWeb في لندن، و«مشروع كايبر» Kuiper Project الذي أطلقته شركة «أمازون» Amazon في مدينة سياتل بواشنطن– تعقد لقاءاتٍ منتظمةً مع الاتحاد الفلكي الدولي والجمعيات الفلكية الوطنية للتباحث بشأن الطرق التي يمكن بواسطتها الحد من التأثير الناجم عن الأقمار الصناعية، كما جرَّبت شركة «سبيس إكس» طرقًا لتعتيم أقمار «ستارلينك» الصناعية التابعة لها، من بينها تركيب المظلات الشمسية التي تحد بالفعل من سطوع الأقمار الصناعية، ولكن يبدو أنه قد تقرَّر التخلي عن تلك الطريقة في الجيل الأحدث من أقمار «ستارلينك» الصناعية؛ فالأقمار الصناعية، التي أُطلِقَت منذ سبتمبر، تستخدم أشعة الليزر بدلًا من الراديو للتواصل فيما بينها، والمظلات الشمسية تتداخل مع تلك الاتصالات.

وقال ديفيد جولدشتاين، الذي يعمل مهندسًا لدى شركة «سبيس إكس»، خلال ندوة عُقِدَت عبر الإنترنت واستضافها اتحاد الجمعيات الفلكية (FAS) بمقره في المملكة المتحدة في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر: إن شركة «سبيس إكس» تعمل عوضًا عن ذلك على تنفيذ إجراءات تخفيفية أخرى، مثل إضافة ملصقات أو مواد أخرى إلى مرايا الأقمار الصناعية كي تعكس الضوء بعيدًا عن الأرض.

ولا يزال البحث جاريًا لمعرفة مدى جدوى تلك الإجراءات، يشير تحليلٌ غير منشور أُجري على 102 عملية رصد لسطوع أقمار «ستارلينك» الصناعية بمرور الوقت إلى أن الجيل الجديد من الأقمار الصناعية يبدو أكثر سطوعًا مقارنةً بتلك المعروفة باحتوائها على مظلاتٍ شمسية، إلا أنها ليست بدرجة سطوع أقمار «ستارلينك» الصناعية الأصلية غير المزودة بمظلات شمسية، وفق قول أنثوني مالاما، عالِم الفلك المتقاعد في مدينة بُووِي بولاية ماريلاند الأمريكية، والذي أجرى التحليل المذكور.

ومن جهةٍ أخرى، أطلقت شركة «وَن ويب» 428 قمرًا صناعيًّا من أصل مجموعة أولية مُقَرر إطلاقها يبلغ عددها الإجمالي 648 قمرًا صناعيًّا، وتدور هذه الأقمار الصناعية على ارتفاعاتٍ أعلى بكثير مقارنةً بأقمار «ستارلينك» الصناعية؛ فالأولى تدور على ارتفاع 1200 كيلومتر، أما الأخيرة فتدور على ارتفاع 550 كيلومترًا، وعادةً ما تكون هذه الأقمار الصناعية أكثر خفوتًا من أقمار «ستارلينك» الصناعية، وسبب ذلك بدهي وهو أنها أبعد، غير أنها يمكن أن تتباين قليلًا في سطوعها بناءً على الكيفية التي تلتقط بها أشعة الشمس وتعكسها.

يُشار إلى أن إحدى الدراسات الأولية التي أُجريت على 50 قمرًا صناعيًّا من أقمار شركة «وَن ويب» خلال عام 2021 توصَّلت إلى أن ما يقرب من نصف تلك الأقمار كان أكثر سطوعًا بقليلٍ من الحد "الآمن" الذي وضعه علماء الفلك، على حد قول جيرمي تريجلون-ريد، اختصاصي علم الفلك بجامعة أتاكاما في بلدة كوبيابو التشيلية، وتقول شركة «وَن ويب» إنها ملتزمة بالحد من ظهور أقمارها الصناعية؛ فخلال ندوة اتحاد الجمعيات الفلكية عبر الإنترنت، أوضح ماوريتسيو فانوتي -نائب رئيس شركة «وَن ويب» لتطوير البنية التحتية الفضائية والشراكات- أن الشركة تستخدم تلسكوبًا في صقلية لقياس درجة سطوع أقمارها الصناعية، وأنها تستند إلى تلك المعلومات في تصميم أقمار صناعية مستقبلية أكثر خفوتًا.

يخطط «مشروع كايبر» التابع لشركة «أمازون»، والذي يُتوقَع أن يُضيف ما يزيد على 3200 قمر صناعي، لإطلاق أول نموذجين أوليين له لقمرين صناعيين بحلول نهاية العام الجاري، وسيشتمل أحدهما على مظلة شمسية بحيث تتمكَّن الشركة من مقارنة قدرتها على تعتيم سطوع الأقمار الصناعية.

تجدر الإشارة إلى أنه لا توجد قوانين تنظم درجة السطوع التي يجب أن تظهر بها الأقمار الصناعية في السماء ليلًا، رغم أن الاتحاد الفلكي الدولي والهيئات الفلكية الأخرى كانت تدفع الأمم المتحدة إلى الاعتراف بوجود المشكلة، وسيتباحث مندوبون من العديد من الدول حول قضية حماية السماء في اجتماع لجنة الأمم المتحدة لاستخدام الفضاء الخارجي في الأغراض السلمية، والذي من المقرَّر أن يبدأ في فيينا في الأول من يونيو.

اضف تعليق