q
هل استعجلت الإدارة الأميركية، في توقيت زيارة رئيسة مجلس النواب بيلوسي، لجزيرة تايوان بتأجيجها وتائر التوتر مع الصين واللعب على حافة هاوية الاشتباك المباشر؟ لمراكز القوى في صنع القرار الأميركي توجهاتها الثابتة في السعي الدؤوب للحد من بروز منافسين للهيمنة الأميركية على المشهد العالمي، وترويج حصرية قيادة واشنطن...
بقلم: د. منذر سليمان و جعفر الجعفري

منذ إعلان رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، جدول زيارتها لدول جنوب شرقي آسيا بضمنها جزيرة تايوان، تنادت تيارات المؤسسة الحاكمة الأبرز في الحزبين، والنخب السياسية والإعلامية إلى دعمها على قاعدة "الصين لا ترغب في حضورها، ولهذا عليها التشبّث بالذهاب لإغاظتها".

أما الطرف الآخر من الطيف السياسي الواقعي، التقليدي، فقد شن حملة انتقادات محدودة في تأثيرها ومداها، وبرزت عناوين صحافية تصف الزيارة بـ "المتهورة والخطرة وغير الضرورية". والتحذير من استغلال الزيارة كصاعق تفجير في مواجهة عسكرية مع الصين، عزّزه تحشيد البنتاغون قدرات حربية مميّزة ونوعية في آن واحد، إذ أرسل حاملة الطائرات النووية رونالد ريغان، وسفينتين برمائيتين إلى المياه القريبة من تايوان، فضلاً عن إرساله أسراباً من أحدث المقاتلات الحربية الأميركية للمرابطة في اليابان وكوريا الجنوبية.

استفزاز المؤسسة الحاكمة الأميركية للصين في هذا الظرف تحديداً، إضافة إلى ما شكله ذلك من انتقاد حاد للإدارة الأميركية على الإفراط في افتعال الأزمات، جاء في عميق إدراك أن "الخطوة" تشكل تراجعاً رسمياً عن سياسة "الغموض الاستراتيجي"، المتبعة منذ تدشين وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر سياسة الانفتاح على الصين، وزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بكين، والتزام الإدارات المتعاقبة بسياسة "الصين الواحدة"، أي إن تايوان ليست دولة معترفاً بها دولياً إلا من بعض الدول التابعة لسياسة واشنطن.

زيارة بيلوسي الرسمية، وهي ثاني أعلى مسؤول في الهرم السياسي الأميركي بعد نائبة الرئيس كمالا هاريس، وخصوصاً أن طاقمها الزائر تضمّن أعضاء من الحزبين الديموقراطي والجمهوري، أتت بعد 25 عاماً من زيارة مماثلة أجراها الرئيس الأسبق لمجلس النواب الأميركي عن الحزب الجمهوري، نوت غينغريتش، عام 1997، حينما كانت الصين تئن تحت وطأة تحدياتها الاقتصادية ومستقبلها على خريطة العالم، قياساً على وضعها الراهن كقطب عالمي في الاقتصاد والتنمية المتبادلة مع الدول والمجتمعات النامية.

اشتهرت بيلوسي بمواقفها السياسية المتشدّدة وتطرّفها في انتقاد سياسات الحكومة الصينية، وهي من أبرز صقور الساسة الأميركيين في إعلاء العداء التاريخي لكل من روسيا والصين واستثماره في كل الأزمنة والأوقات، وهي أرست أرضية تفاهم مشتركة مع التيارات المتشدّدة في الحزبين محورها "الدفاع عن حقوق الإنسان" وإدانة الصين عقب تظاهرات "ساحة تيانمن" عام 1989.

وفي إحدى زياراتها لجمهورية الصين الشعبية، عام 1991، أوقفتها أجهزة الشرطة الصينية بعد حملها يافطة "مؤيّدة لمن قضوا دفاعاً عن الديموقراطية في الصين" (مقال على موقع "شبكة إيه بي سي"، 2 آب/أغسطس 2022).

ولعل إحدى أهم المحطات المعادية للصين في مسيرة نانسي بيلوسي معارضتها دخول الصين في منظمة التجارة العالمية، على نقيض قادة كبار من حزبها الديموقراطي في التسعينيات من القرن الماضي، وعارضت بشدة أيضاً سياسات الرئيس الأسبق بيل كلينتون الهادفة إلى 2تعزيز العلاقات التجارية بين واشنطن وبكين.

البيت الأبيض، في سياق رد فعله على الزيارة، حافظ رسمياً على سياسة الغموض بإعلانه أنه يسعى لثني رئيسة مجلس النواب عن زيارة تايوان تحديداً، لكنّ تيقّن ذلك لم يرسُ على دليل، سواء "أكدت أم الإدارة نفت" قيامها بذلك، بل اكتفت بالإشارة إلى أن "الصين قد ترد اقتصادياً أو عسكرياً" على الزيارة.

هل استعجلت الإدارة الأميركية، في توقيت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، لجزيرة تايوان بتأجيجها وتائر التوتر مع الصين واللعب على حافة هاوية الاشتباك المباشر؟

لمراكز القوى في صنع القرار الأميركي توجهاتها "الثابتة" في السعي الدؤوب للحد من بروز منافسين للهيمنة الأميركية على المشهد العالمي، وترويج حصرية قيادة واشنطن للتطورات العالمية، ولا تجد هذه القوى غضاضة في افتعال الاشتباكات والحروب بالوكالة، كما نشهد حالياً ضد روسيا في أوكرانيا، واستفزازها الصين بشأن تايوان لتحافظ على سرديتها بأن تمدّدها العسكري في العالم هو من أجل "حفظ السلم والأمن الدوليين".

يتردد باستمرار تقويم النخب السياسية على مستوى العالم بأن تمدّد الإمبراطورية الأميركية وهيمنة نفوذها هما في بداية أفول مسارها، ولا يختلف في ذلك عدد من النخب الأميركية نفسها، وما يجري راهناً ليس سوى صراع مستمرّ في مراكز قوى صنع القرار، طلباً لتأجيل مرحلة الأفول في أفضل الاحتمال.

وحذّر عدد من النخب الفكرية والسياسية الأميركية من المضي في مغامرات النزعات العدوانية، التي لم تلقَ آذاناً صاغية منذ بدء صراع الحرب الباردة والحروب الأميركية المتعدّدة على الشعوب النامية منذئذ.

الذراع الفكرية لوزارة الدفاع الأميركية، مؤسسة "راند"، أصدرت دراسة شاملة بعنوان "التنافس الاستراتيجي الأميركي مع الصين"، رصدت فيها جملة قضايا محورها "تآكل النفوذ الأمني الأميركي في منطقة آسيا والمحيط الهاديء، نتيجة للتطورات المتسارعة في قدرات جيش التحرير الوطني" الصيني، وأن سياسة "الولايات المتحدة فاقمت مديات التوتر بشأن مسائل خلافية مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي، حتى في ظل انحسار احتمال نشوب حرب" بينهما.

من بين إرشادات الدراسة التي شارك فيها "أكثر من 60 مختصاً بالشأن الصيني"، إقرارهم بـ "سوء فهم وإدراك" صنّاع القرار الأميركي لتداعيات التصعيد مع الصين ومخاطره، "وينبغي عليهم اجتراح تدابير خارج خيار الحرب لحماية المصالح الأميركية" (دراسة بعنوان "التنافس الاستراتيجي الأميركي مع الصين" مؤسسة "راند"، حزيران/يونيو 2021

كذلك وجّهت صحيفة "فورين بوليسي" خطاباً مباشراً إلى مراكز القوى قائلة: "إذا كان الهدف الأساسي (لأميركا) الحفاظ على تفوقها العالمي، فسيتعيّن عليها الانخراط في منافسة جيو-سياسية صفرية، حصيلتها صفر"، على خلفية بروز مؤشرات وثغَرٍ في بنية نظام القطب الأحادي.

استاذ العلاقات الدولية المرموق في جامعة هارفارد، ستيفان والت، أشار مبكراً إلى أن "العالم سيشهد تسارعاً في انتقال مركز القوة والنفوذ من الغرب، إلى دول آسيوية، وخصوصاً الصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية" (مقال في صحيفة "فورين بوليسي:" 20 آذار/مارس 2020).

وفي السياق عينه، نرصد تنبّؤ دانيال فنكلستاين، المستشار السياسي الأسبق لرئيس الوزراء البريطاني جون ميجور، متسائلاً "هل نشهد نهاية الحقبة الأميركية؟"، وهل "الدول الحرة (الغربية) اخطأت على مدى عقود في استنادها إلى فرضية تطابق مصالحها مع المصالح الأميركية" (صحيفة "تايمز" اللندنية، 8 نيسان/إبريل 2020).

وعادت النخب الأميركية بعد عام تقريباً للتحذير مجدداً من أن "الصين لا تشكل تهديداً وجودياً" للولايات المتحدة، لتدشّن نقاشاً جاداً حول مفهوم "التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة" على الصعيد العالمي ("فورين بوليسي"، 21 نيسان/إبريل 2021).

يشار إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن تبنّت سردية "خطر الصين" منذ أيامها الأولى، واعتمدها حجر زاوية في وثيقتها "إرشادات مرحلية للأمن القومي الاستراتيجي"، آذار/مارس 2021، التي أتى في جزء منها أن "الصين، على نحو خاص، تمضي بسرعة لتأكيد حضورها بحزم، فهي ليست سوى منافس قد تتوفر لديه القدرة على مزج عناصر قوته الاقتصادية والديبلوماسية والعسكرية والتقنية لتشكيل تحدٍ مستدام لنظام عالمي مستقر ومفتوح".

واكب ذلك جهد شبه حاسم لدحض السردية الرسمية في تحديد طبيعة التهديد، للأستاذ في جامعة ديوك، بروس جنتلسن، قائلاً بصريح العبارة: "يجري تضخيم تهديد الصين بطرق شبيهة بالتهديد السوفياتي إبّان الحرب الباردة، وبالإرهاب في أعقاب 11 أيلول/سبتمبر (2001)، وتأتي كلها بنتائج عكسية لاستراتيجية السياسة الخارجية، وحرف الأنظار عن السياسات الداخلية بطرائق خطرة" ("فورين بوليسي"، 20 تموز/يوليو 2022).

انصار السياسة الأميركية الواقعية، على المستوى الدولي، يقرّون بخطأ بوصلة السياسة الأميركية ضد الصين تحديداً، وما تطوّرات قدراتها العسكرية، التي أشارت إليها بعمق دراسة "راند" سالفة الذكر، إلا "استجابة للجهود الأميركية ببناء ترسانة ضخمة من النظم الهجومية والدفاعية. فالصين تتبع خطوات أميركا لا العكس" (نشرة "بوليتن لعلماء الذرة"، 4 آب/أغسطس 2022).

إجراءات الرد الصيني على استفزاز بيلوسي تبدو كمن يبلور الشروط الميدانية واللوجستية لتمرين استعادة تايوان الى الصين الموحّدة، صحيح انها تكتفي حاليا بعقوبات إقتصادية جزئية ومناورات عسكرية بالذخيرة الحية وشبه الحصار التام، إلا أنّها تمارسه كتمرين على الغزو الشامل عندما تجد الوقت ملائماً. لا تزال القيادة في بكين تفضّل الوحدة مع تايوان بالوسائل السلمية، ولكنها تعلن بخطواتها للعالم أن هذا "الواجب التاريخي"سيتحقق عاجلاً أم آجلاً.

* نشرة التقرير الأسبوعي لمراكز الابحاث الأميركية

اضف تعليق