q
أصدرت المحكمة الأمريكية العليا مؤخرًا قرارها في دعوى ولاية فرجينيا الغربية ضد الوكالة الأمريكية لحماية البيئة، وهو القرار الذي جاء ليحد من سلطة «الوكالة» في اتخاذ بعض الإجراءات في مواجهة التغير المناخي، وقد دعّمت المحكمة بهذا القرار فكرةً كانت قد بدأت تحظى بالتأييد داخل الدوائر القضائية المحافظة منذ عدة سنوات...
بقلم بيث جاردنر

أصدرت المحكمة الأمريكية العليا مؤخرًا قرارها في دعوى ولاية فرجينيا الغربية ضد «الوكالة الأمريكية لحماية البيئة» Environmental Protection Agency (EPA)، وهو القرار الذي جاء ليحد من سلطة «الوكالة» في اتخاذ بعض الإجراءات في مواجهة التغير المناخي، وقد دعّمت المحكمة بهذا القرار فكرةً كانت قد بدأت تحظى بالتأييد داخل الدوائر القضائية المحافظة منذ عدة سنوات، وهي الفكرة المعروفة باسم «مبدأ الأمور الكبرى»، التي ترى أن الهيئات التنظيمية لا يجب أن تتخذ إجراءات ذات تبعات اقتصادية واسعة المدى إلا بإذن خاص من الكونجرس.

تناولت هذه الدعوى السلطات الممنوحة للهيئات التنظيمية بموجب «قانون الهواء النظيف» الشهير الصادر في عام 1970، والذي كان يُعَد أفضل أداة متاحة للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، في ظل عدم وجود تشريعات خاصة بالتغير المناخي، وفي حين أتى قرار المحكمة ليقلِّص سلطة الحكومة الفيدرالية في التعامل مع القضايا المهمة، فإن الغرض الأساسي من «قانون الهواء النظيف» كان التصدِّي لهذا النوع من "الأمور الكبرى"، إذ يشير نص القانون بوضوح إلى قضايا مستقبلية سوف تظهر في أوقات لاحقة.

وقد عرضتُ في كتابي «الاختناق: الحياة والتنفس في عصر تلوث الهواء» Choked: Life and Breath in the Age of Air Pollution، القصة المدهشة والملهمة لصدور هذا القانون، إذ جاء ذلك التشريع نتاجًا لعصر مختلف، كانت فيه حكومة واشنطن لا تزال فعالةً ومؤثرة، رغم ما كان يعتريها من عيوبٍ وقصور، وكان أعضاء الكونجرس ملتزمين بالتصدي للقضايا التي تواجهها الدولة، وقتها كان تلوث الهواء متفاقمًا لدرجة أنه كان يُرى بالعين المجردة في صورة سُحب بنية كثيفة تخيِّم على المدن، وكان السناج يصبغ ياقات القمصان وإطارات النوافذ، ناهيك بأثره على رئات مَن يستنشقونه، وقد أسهَم «قانون الهواء النظيف» -الذي أُضيفت إليه في عام 1990 حزمةٌ من التعديلات المهمة لتعزِّز من سلطاته- في خفض تلوث الهواء بنسبة 80 بالمئة تقريبًا بين عامَي 1970 و2020، ومن ثم إنقاذ حياة ملايين الأمريكيين وتوفير تريليونات الدولارات.

أما الآن، فقد تسببت دعوى ولاية فرجينيا الغربية ضد «الوكالة الأمريكية لحماية البيئة» في تقليص صلاحيات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في الاعتماد على «قانون الهواء النظيف» لتحقيق نسبة انخفاض مماثلة في انبعاث الغازات الدفيئة، وهو ما يؤدي بدوره إلى عرقلة مسار الإجراءات المناخية أكثر من أي وقت سابق، كما أننا قد نشهد في المستقبل أحكامًا قضائيةً مماثلةً يُصدرها بعض القضاة المحافظين الراغبين في تقليص سلطة الهيئات التنظيمية، مما قد ينجم عنه مزيدٌ من العقبات.

يُضمر الحزب الجمهوري المتعصب عداءً شديدًا تجاه جميع الإجراءات التنظيمية الرادعة في مجال المناخ، مثله في ذلك مثل المحكمة العليا التي كان الحزب وراء تشكيل هيئتها الحالية، وهكذا يُحكِم الحزب الجمهوري -الذي دأب أعضاؤه على إنكار الاكتشافات العلمية- سيطرتَه على السياسة الأمريكية، تاركًا للحكومة الفيدرالية سلطةً محدودةً لمعالجة "الأمور الكبرى" التي تواجهنا، بدءًا من التغير المناخي والجائحات، ووصولًا إلى العنصرية المؤسسية، والإخلال الفج بمبدأ المساواة.

رغم ذلك، يبقى «قانون الهواء النظيف» دليلًا على أننا كنا يومًا ما نتمتع بالسلطة الكافية لمعالجة هذه الأمور، وأن في يدنا أن نستعيدها، ففي ظل تفاقُم مشكلة المناخ يومًا بعد يوم، وتعاقُب الأزمات المتداخلة على الأمريكيين، لا بد أن يُعلي الساسة الأمريكيون مرةً أخرى المصلحة العامة على مصالح الشركات الضخمة المتلهفة إلى التحرُّر من الضوابط التي تحدُّ من أرباحها.

هذا ما فعلته لجنة الكونجرس التي وافقت على «قانون الهواء النظيف» منذ عدة عقود، وقتها استمد القانون قوته الراسخة من الخطوات المدروسة والمبتكرة التي صيغ بها، ومن استناده إلى العلم؛ فقد حاز هذا القانون -الذي اقترحه السيناتور إدموند ماسكي، عضو الحزب الديموقراطي عن ولاية مين- تأييدًا بالإجماع، ووافق عليه مجلس الشيوخ عدا صوت معارض واحد، لم يكن الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون من المتحمسين للقضايا البيئية، لكنه كان يتمتع بوعي سياسي عالٍ جعله يدرك أن الرأي العام يريد إجراءً مضادًّا لتفاقُم أزمة الضباب الدخاني، لذا فقد صدّق نيكسون على «قانون الهواء النظيف» في ديسمبر عام 1970، وهو الشهر نفسه الذي أسس فيه «الوكالة الأمريكية لحماية البيئة»، وقد أجريت مقابلةً مع توم جورلينج، الذي كان في عام 1970 لا يزال محاميًا شابًّا يقدم الاستشارات لأعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين في اللجنة التي شكّلها ماسكي باسم «اللجنة الفرعية لتلوث الهواء والمياه»، وقتها كانت الصداقة العميقة التي نشأت بين جورلينج ونظيره الديموقراطي ليون بيلينجز تعكس العلاقات الودية التي كانت سائدةً بين ممثلي الحزبين في الكونجرس، وقد ضمت تلك اللجنة الفرعية أعلامًا سياسيين بارزين، منهم النائبان الجمهوريان، بوب دول وهوارد بيكر، اللذان صار كلٌّ منهما فيما بعدُ زعيمًا للأغلبية بمجلس الشيوخ.

منذ البداية، كانت مهمة اللجنة شاقةً ودقيقة، إذ بحثت الإجراءات التي يجب أن يتخذها الكونجرس لتحقيق انخفاض ملموس في تلوث الهواء، وأسباب فشل الجهود السابقة في هذا المجال، يقول جورلينج: إن الغرض من جلسات الاستماع التي عقدتها اللجنة كان جمع المعلومات والتنسيق بين الأفكار، لا الصراخ أو الاستعراض، وكان أعضاء مجلس الشيوخ في اللجنة يطرحون الأسئلة، ويُصغون للإجابات، ويتبادلون المزاح، ويمكثون دائمًا حتى نهاية الجلسات، كما يضيف جورلينج أنه "بالرغم من أن كل واحدٍ منهم كانت له آراؤه الشخصية بشأن أمور معينة، فإن تلك الآراء لم تبدُ نابعةً من الانتماءات الحزبية".

كان مستوى الثقة والتعاون السائد بين الأعضاء -الذي من الصعب الوصول إليه في يومنا هذا- استثنائيًّا حتى في ذلك الوقت الذي لم يكن يشهد التحزُّب الواضح الذي نعيشه الآن، أخبرني جورلينج قائلًا: "ظللنا أنا وليون نتساءل عن سبب تلك الظاهرة"، وكنا دومًا نخلُص إلى أن كل أعضاء مجلس الشيوخ في اللجنة، ما عدا واحدًا فقط، قد خاضوا تجربةً مشتركة، وهي الحرب العالمية الثانية، "لقد خاضوا تجربةً أملت عليهم الاتفاق والتعاون، وكأنها كانت تقول لهم: إنه ’ما من فرق بين ديموقراطي وجمهوري‘".

كان مشروع القانون الذي خرج من اللجنة الفرعية لا يقل تميزًا عن الخطوات التي أنجزته، وقد أسهم «قانون الهواء النظيف» في توسيع رقعة السلطة التنظيمية للحكومة الفيدرالية بشكل ملحوظ، في عهد رئيس جمهوري، وأعانها على تحقيق هدفها الأول وهو الحفاظ على صحة المواطنين، وقد تضمَّن القانون عددًا من البنود كانت الأولى من نوعها، بما فيها البند المعروف باسم "دعاوى المواطنين"، الذي يعطي الأفراد الحقَّ في مقاضاة الجهات الملوِّثة للبيئة والكيانات الحكومية التي لا تطبق القانون كما ينبغي.

وقد كان بُعد نظر أعضاء اللجنة من مجلس الشيوخ عاملًا حاسمًا؛ إذ دفعهم لتحصين مشروع القانون ضد أي إجراءات مستقبلية، فقد كانوا يدركون أن الفهم العلمي لظاهرة تلوث الهواء وأضرارها يتطور بوتيرةٍ سريعة، أسرع من قدرة الكونجرس على تمرير قوانين جديدة كل فترة، لذا لم يكتفِ القانون بإلزام «الوكالة الأمريكية لحماية البيئة» بمراجعة القيود التي تفرضها على الملوثات المختلفة كل خمس سنوات، وتحديثها بما يتوافق مع آخر ما توصل إليه العلم، بل استوجب كذلك أن تُجري «الوكالة» مراجعاتٍ دوريةً لتبيُّن ما إذا كان البحث العلمي قد توصل إلى أي ملوثات أخرى يتعين عليها إخضاعها للإجراءات التنظيمية.

كان هذا هو الأساس الذي جعل إدارتي أوباما وبايدن يتخذان من «قانون الهواء النظيف» أساسًا لتدعيم ضوابط تنظيم الغازات المسببة للاحتباس الحراري، مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، إذ كانت المحكمة الأمريكية العليا قد قضت في عام 2007 بأن «قانون الهواء النظيف» ينطبق على الغازات الدفيئة، وقد جاء استبقاء المحكمة هذا المبدأ في قرارها الصادر الشهر الماضي بمنزلة مفاجأة سارة للمهتمين بالبيئة، غير أن قرار المحكمة سوف يحدُّ بشدة من قدرة الوكالة على معالجة التغيُّر المناخي، إذ إنه يمنع أي إجراءات تنظيمية تهدف إلى شطب الفحم من قائمة موارد الطاقة في البلاد، وهو ما يجعل سلطة «الوكالة الأمريكية لحماية البيئة» في هذا المجال مقصورةً على إلزام محطات توليد الطاقة من الفحم، كل على حدة، باتخاذ الإجراءات لتقليل انبعاثات الكربون.

لم يُفصح رئيس قضاة المحكمة العليا جون روبرت جونيور عن تصوُّر واضح للقضايا التي يمكن اعتبارها ضمن "الأمور الكبرى"، الأمر الذي سوف يتسبب في أن تغلِّف الضبابية العديد من الضوابط البيئية، بل تمتد أيضًا إلى قطاع سلامة الغذاء والدواء، والخدمات المالية، وغيرها.

تشير كل هذه الأمور إلى حاجتنا الماسة إلى تدبّر قصة صدور «قانون الهواء النظيف»، التي تؤكد لنا أن أمريكا كانت في وقت ليس ببعيد قادرةً على التعامل بجديةٍ وحسم مع القضايا المهمة، وصياغة حلول مستندة إلى الأدلة العلمية، فإذا أردنا تدارُك حدوث كارثة مناخية -وإيجاد حلول لغيرها من "الأمور الكبرى" المُحدِقة بنا- فنحن بحاجة إلى قادة مستعدين لتكرار هذه القصة.

اضف تعليق