q
كان لازماً على الإمام علي بن الحسين (ع) أن يُعرِّف أهل الشام بأهل البيت الأطهار الأبرار الأخيار ورأسهم وسيدهم وكبيرهم المظلوم الإمام علي بن أبي طالب (ع) ليعرفوا الحق وأهله، والباطل وحزبه من الأمويين، ويقيم الحجة عليهم في مسجدهم وبحضور كبراءهم وكبيرهم الذي علمهم الكفر...

شهادة الإمام زين العابدين (ع) في 25 محرم 94 أو 95 ه في المدينة

مقدمة ولائية

مَنْ يقرأ تاريخ الإسلام يجد أن ذكر الإمام علي (ع) مقرون بذكر الرسول الأكرم (ص) حتى لا يفترقان، وكان ذلك بالنسبة لأمير المؤمنين الإمام علي (ع) منذ ولادته المباركة الميمونة في بيت الله الحرام وفي جوف الكعبة المشرَّفة بفضيلة لم يحزها غيره من البشر قاطبة، وهذا ما نقرأه في الخطبة العلوية القاصعة التي يقول فيها: (قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بِالْقَرَابَةِ اَلْقَرِيبَة،ِ وَاَلْمَنْزِلَةِ اَلْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ.. وَكَانَ يَمْضَغُ اَلشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، وَلَقَدْ قَرَنَ اَللَّهُ بِهِ (صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ اَلْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ اَلْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ..

وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اِتِّبَاعَ اَلْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً وَيَأْمُرُنِي بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ، وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اَللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ اَلْوَحْيِ وَاَلرِّسَالَةِ وَأَشُمُّ رِيحَ اَلنُّبُوَّةِ.. وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ اَلشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ اَلْوَحْيُ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ مَا هَذِهِ اَلرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هَذَا اَلشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ). (نهج البلاغة: خ192)

إلا أن هذا الذي كان يشكِّل ثلث الإسلام لسنوات في بدايته عندما استشهد في محراب عبادته، وفي صلاة الصبح، غيلة وغدراً من أشقى الآخرين شقيق عاقر ناقة صالح، ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم المرادي، وصاح قولته الشهيرة والفريدة كذلك: (فُزتُ وَرَبِّ الكَعبَةِ)، فولد في الكعبة، وفاز بالشهادة في محراب العبادة، حيث قضى عمره الشريف كاملاً (63 عاماً) في طاعة الله وخدمة رسول الله (ص) ونشر الإسلام في عباده وهدايتهم إلى الدِّين الحق، فكانت حياته كلها لله، ولذا كانت ولايته وطاعته وعصمته من الله تعالى.

فضائل أمير المؤمنين (ع)

ولذا لا تجد لأحد من أهل الإسلام ولا من الصحابة الأولين، لا المهاجرين ولا الأنصار ما لعلي بن أبي طالب (ع) من الفضائل، في كتاب الله وأقوال رسول الله (ص)، وهذا ما اعترف به كبار الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهو من أهل البيت الأطهار (ع) الذين لا يُقاس بهم أحد من الخلق، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، يقول: حدث أبي بحديث سفينة فقلتُ: يا أبة.. فعلي بن أبي طالب؟ قال: يا بُني؛ علي بن أبي طالب من أهل بيتٍ لا يقاس بهم أحد). (مناقب الإمام أحمد؛ ابن الجوزي: ج1 ص219)

وهذا نصُّ رواية عن رسول الله (ص)، وهو ما تناقلته ألسن الروايات من خطبة لأَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عِنْدَ ذِكْرِ آلِ اَلنَّبِيِّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: (هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ وَلَجَأُ أَمْرِهِ وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ وَكُهُوفُ كُتُبِهِ وَجِبَالُ دِينِهِ بِهِمْ أَقَامَ اِنْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَأَذْهَبَ اِرْتِعَادَ فَرَائِصِهِ.. لاَ يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ أَحَدٌ وَلاَ يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً؛ هُمْ أَسَاسُ اَلدِّينِ، وَعِمَادُ اَلْيَقِينِ، إِلَيْهِمْ يَفِيءُ اَلْغَالِي، وَبِهِمْ يَلْحَقُ اَلتَّالِي، وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ اَلْوَلاَيَةِ، وَفِيهِمُ اَلْوَصِيَّةُ، وَاَلْوِرَاثَةُ). (نهج البلاغة: خ2)

وهذا الذي نزل ثلث القرآن به وبأهل بيته، عندما اغتيل في محراب صلاته، ووصل الخبر إلى شام معاوية بن هند الهنود آكلة الكبود، تساءلوا باستغراب: (وَهَلْ كَانَ عَليٌّ يُصَلّي؟!)، هكذا عرف أهل الشام أهل الله، وأهل البيت الأطهار، وأهل رسول الله (ص) وأوصياءه، فهم عرفوا كما عرَّفهم معاوية من أن كل ذلك محصوراً ببني أمية وبه شخصياً ولذا استمات الناس بالدفاع عنه وعن أهل بيته الطلقاء اللعناء في كتاب الله وعلى سُنة رسول الله (ص) بأحاديث صحيحة ولكن أنَّى لهم معرفة ذلك، ولذا تراه إلى اليوم (خال المؤمنين)، و(ابن عم رسول الله)، و(كاتب الوحي)، وعلي بن أبي طالب(ع) لم يسمع به أحد إلا أنه عدو الإسلام الأول الذي قتل خليفتهم الأموي عثمان بن عفان وغدر به وهو ابن عمِّه الحنون، وشيخهم المصون، هكذا عرفت الشام الإسلام مقلوباً، وما عرفوا منه حقاً بل كل ما عرفوه باطلاً، وزوراً، وبهتاناً، ولهذا استقبلت الشام أهل البيت والسبايا بالأفراح والأهازيج بعد أن زيَّنوا الشام فرحاً وسروراً ومرحاً.

الإمام زين العابدين (ع) في الشام

ومن هنا كان لازماً على الإمام علي بن الحسين (ع) أن يُعرِّف أهل الشام بأهل البيت الأطهار الأبرار الأخيار ورأسهم وسيدهم وكبيرهم المظلوم الإمام علي بن أبي طالب (ع) ليعرفوا الحق وأهله، والباطل وحزبه من الأمويين، ويقيم الحجة عليهم في مسجدهم وبحضور كبراءهم وكبيرهم الذي علمهم الكفر يزيد الشر، الحاكم عليهم بالحديد والنار والمكر والدجل وهم يطيعونه كأنما يطيعون الله كما علمهم معاوية بن أبي سفيان من قبل أن طاعتهم واجبة كطاعة الله لأنهم أولياء الأمر، وخلفاء الله في خلقه وعباده، وهذه الفكرة الباطلة سارية في جماعته وأتباعه إلى الآن للأسف الشديد وبعد كل هذه القرون التي فضحته وكشفت نفاقه وزيفه للعالم أجمع ترى مَنْ يُدافع عنه والعجيب قبل أيام قامت قيامتهم في إيران لأن أحد العلماء انتقد معاوية بن هند، واعتبروه من رموز السُّنة والجماعة، فكتبتُ لهم: إنه من العار عليكم أن تقولوا هذا الكلام، لأن معاوية من رموز الفسق، والبغي، والعناد، والكفر والفساد في الأرض، فمن المعيب، بل من المخزي عليكم أن تعتبروه من رموزكم وهو الذي عمل طيلة أربعين سنة لدفن الإسلام، وتشويه صورته، وما مات إلا ولبس الصليب كما أخبر عنه رسول الله (ص)، وأمر بقتله وبقر كرشه إن رآه المسلمون ينزو على منبره، ويلعن أهل بيته الأطهار الذين أقاموا الدِّين وبنوا منابره بدمائهم فلعنهم لأكثر من ستين سنة على كل منابر المسلمين، والعجيب ما ترويه كتب التاريخ عن أن إحدى ضواحي دمشق رفضت أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بقصة معروفة برفع اللعن والمسبَّة عن أهل البيت، لأربعين يوماً وقيل أربعين جمعة سمُّوها (دوما)، وهي إلى الآن تنادي بمعاوية وحكومته، حيث تجمَّع فيها كل النواصب الشامية.

وأما في مصر فقد ورد أنّ رجلاً قال للإمام زين العابدين (عليه السلام): إِنَّا لَنُحِبُّكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ، فَقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): أَنْتُمُ تُحِبُّونَّا حُبَّ اَلسِّنَّوْرَةِ، مِنْ شِدَّةِ حُبِّهَا لِوَلَدِهَا تَأْكُلُهُ).

أ ترى هذا عن محبّة ومصافاة، وخالص مودّة وموالاة؟ ألم يرَوْا ما فعل قبل ذلك مَنْ لعنَ أميرَ المؤمنين على المنابر، ليس فيها مسلم يُنكر حتى أنَّ أحد خطبائهم بمصر نسيَ أن يلعن أميرَ المؤمنين على المنبر في خطبته، وذكر ذلك في الطريق عند منصَرَفِه، فلعنه حيث ذَكر قضاءً لما نسيه، وقياماً بما يرى أنّه فرْض، وقد لزم وبنى في ذلك المكان مسجداً، وهو باقٍ إلى الآن بسوق وَرَدَ أنّه يُعرَف بمسجد الذِّكْر".

ولذا يروي ابن الأعثم في الفتوح قائلاً: وأتي بحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى أدخلوا مدينة دمشق من باب يقال له: باب توماء (ومنه إلى باب الساعات)، ثم أتي بهم حتى وقفوا على درج باب المسجد (باب النوفرة من جهة الشرق)، حيث يقام السَّبي، وإذا بشيخ قد أقبل حتى دنا منهم، فَقَالَ: اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي قَتَلَكُمْ وَأَهْلَكَكُمْ وَأَرَاحَ اَلْبِلاَدَ عَنْ رِجَالِكُمْ وَأَمْكَنَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ.

فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ (عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ): يَا شَيْخُ هَلْ قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ عَرَفْتَ هَذِهِ اَلْآيَةَ: (قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ)،(الشورى: 23)، قَالَ اَلشَّيْخُ: نَعَمْ قَدْ قَرَأْتُ ذَلِكَ..

فَقَالَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لَهُ: فَنَحْنُ اَلْقُرْبَى يَا شَيْخُ فَهَلْ قَرَأْتَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: (وَآتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ)، (الإسراء: 26)، فَقَالَ اَلشَّيْخُ: قَدْ قَرَأْتُ،

فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ: فَنَحْنُ اَلْقُرْبَى يَا شَيْخُ؛ فَهَلْ قَرَأْتَ هَذِهِ اَلْآيَةَ: (وَاِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي اَلْقُرْبىٰ)، (الأنفال: 41)، قَالَ: نَعَمْ.

فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فَنَحْنُ اَلْقُرْبَى يَا شَيْخُ؛ فَهَلْ قَرَأْتَ هَذِهِ اَلْآيَةَ: (إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب: 33)، قَالَ اَلشَّيْخُ: قَدْ قَرَأْتُ ذَلِكَ.. فَقَالَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فَنَحْنُ أَهْلُ اَلْبَيْتِ اَلَّذِينَ خَصَّصَنَا اَللَّهُ بِآيَةِ اَلطَّهَارَةِ يَا شَيْخُ).

قَالَ اَلرَّاوِي: فَبَقِيَ اَلشَّيْخُ سَاكِتاً نَادِماً عَلَى مَا تَكَلَّمَ بِهِ وَقَالَ: بِاللَّهِ إِنَّكُمْ هُمْ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ (عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ): تَاللَّهِ إِنَّا لَنَحْنُ هُمْ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَحَقِّ جَدِّنَا رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) إِنَّا لَنَحْنُ هُمْ، فَبَكَى اَلشَّيْخُ وَرَمَى عِمَامَتَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَقَالَ: اَللَّهُمَّ إِنَّا نَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ عَدُوِّ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ جِنٍّ وَإِنْسٍ.

قال: ثم أتي بهم حتى أدخلوا على يزيد وعنده يومئذ وجوه أهل الشام، فلما نظر إلى علي بن الحسين (عليه السلام)، قال له: مَنْ أنت يا غلام؟

فقال: أنا علي بن الحسين (زين العابدين، وسيد الساجدين).

فقال: يا علي! إن أباك الحسين قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت. (هذا هو التجهيل والنفاق بعينه لأنه ليس كذلك قطعاً بل الإمام حسين (ع) هو الإمام المفترض الطاعة ويزيد وأبوه هم الذين خرجوا عن طاعة الله ورسوله).

فقال علي بن الحسين: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). (الحديد: 22)

فقال يزيد لابنه خالد: أُردد عليه يا بني! فلم يدرِ خالد ماذا يقول، فقال يزيد قل: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ). (الشورى: 30)

قال: فقام رجل من أهل الشام فقال: يا أمير (المواطنين)! هب لي هذه الجارية! فقال له يزيد: اسكت، ويلك! لا تقل ذلك، فهذه ابنة علي وفاطمة، وهم أهل بيت لم يزالوا مبغضين لنا منذ كانوا، فتقدم علي بن الحسين(ع) حتى وقف بين يدي يزيد بن معاوية وجعل يقول:

لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم *** وأن نكفَّ الأذى عنكم وتؤذونا

فالله يعلم أنا لا نحبكم *** ولا نلومكم إن لم تحبونا

فقال يزيد: صدقت يا غلام ولكن أراد أبوك وجدك أن يكونا أميرين، فالحمد لله الذي أذلَّهما وسفك دماءهما، فقال له علي بن الحسين: يا ابن معاوية وهند وصخر! لم يزالوا آبائي وأجدادي فيهم الإمرة من قبل أن نلد، ولقد كان جدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم بدر وأحد والأحزاب في يده راية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأبوك وجدك في أيديهما رايات الكفار، ثم جعل علي بن الحسين يقول:

ما ذا تقولون إن قال النبي لكم *** ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد منقلبي *** منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحتكم *** أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

ثم قال علي بن الحسين (ع): ويلك يا يزيد! إنك لو تدري ما صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذاً لهربت في الجبال وفرشت الرماد! ودعوت بالويل والثبور أن يكون رأس الحسين بن فاطمة وعلي (عليهم السلام) منصوباً على باب المدينة! وهو وديعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم، فأبشر بالخزي والندامة غدا إذا جمع الناس ليوم لا ريب فيه). (كتاب الفتوح؛ أحمد بن أعثم الكوفي: ج ٥ ص ١٣٢)

نقلنا هذا الحوار الطويل نسبياً ليعلم الأخوة الحق الذي جابَهَ به الإمام زين العابدين يزيد الشر في بيته، وبين ملئه من الشاميين، وعرَّفه نفسه، وفضحه بينهم، وكشف زيفهم، ونفاقهم وأنهم أعداء الله ورسوله الذي يتكلمون باسمه ويحكمون الأمة تحت رايته الشريفة وما هم إلا بقايا الأحزاب، ولعناء الله في الكتاب، من أبناء الشجرة الملعونة فيه.

تعريف الإمام علي (ع) لأهل الشام

وهنا كان لا بدَّ للإمام زين العابدين أن يُعرِّف العام من أهل الشام على نفسه، وعلى أهله الأطهار لا سيما جدَّه أمير المؤمنين، ويعسوب الدِّين، وقائد الغر المحجلين أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وأتته الفرصة الذهبية في المسجد حيث اجتمع أهل الشام ودعا يزيد بالخطيب وأمره فقال: اصعد المنبر فخبِّر الناس بمساوئ الحسين وعلي وما فعلا! قال: فصعد الخاطب المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم أكثر الوقيعة في علي والحسين، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد فذكرهما بكل جميل.

قال: فَصَاحَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ (عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ): وَيْلَكَ أَيُّهَا اَلْخَاطِبُ اِشْتَرَيْتَ مَرْضَاةَ اَلْمَخْلُوقِ بِسَخَطِ اَلْخَالِقِ فَتَبَوَّأْ مَقْعَدَكَ مِنَ اَلنَّارِ، ثم توجَّه إلى الطاغية وقال: يَا يَزِيدُ ائذَن لِي حَتَّى أَصعَدَ هَذِهِ الأَعوَادَ (المنبر)، فَأَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ لِلَّهِ فِيهِنَّ رِضاً وَلِهَؤُلَاءِ الجُلَسَاءِ فِيهِنَّ أَجرٌ وَثَوَابٌ"، قال: فَأَبَى يَزيدُ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَمِيرَ (المُواطنِينَ) ائذَن لَهُ فَليَصعَدِ المِنبَرَ، فَلَعَلَّنَا نَسمَعُ مِنهُ شَيئاً، فَقَالَ: إِنَّهُ إِن صَعِدَ لَم يَنزِل إِلَّا بِفَضِيحَتِي وَبِفَضِيحَةِ آلِ أَبِي سُفيَانَ!، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ (المُواطنِينَ) وَمَا قَدرُ مَا يُحسِنُ هَذَا؟!

فَقَالَ: إِنَّهُ مِن أَهلِ بَيتٍ قَد زُقُّوا العِلمَ زَقّاً.

قَالَ: فَلَم يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ، فَصَعِدَ المِنبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثنَى عَلَيهِ، ثُمَّ خَطَبَ خُطبَةً أَبكَى مِنهَا العُيُونَ وَأَوجَلَ مِنهَا القُلُوبَ، وقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، أُعطِينَا سِتّاً وَفُضِّلنَا بِسَبعٍ، أُعطِينَا العِلمَ وَالحِلمَ وَالسَّمَاحَةَ وَالفَصَاحَةَ وَالشَّجَاعَةَ وَالمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِ المُؤمِنِينَ، وَفُضِّلنَا بِأَنَّ مِنَّا النَّبِيَّ المُختَارَ مُحَمَّداً، وَمِنَّا الصِّدِّيقُ، وَمِنَّا الطَّيَّارُ، وَمِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ، وَمِنَّا سِبطَا هَذِهِ الأُمَّةِ، مَن عَرَفَنِي فَقَد عَرَفَنِي وَمَن لَم يَعرِفنِي أَنبَأتُهُ بِحَسَبِي وَنَسَبِي.

أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا ابنُ مَكَّةَ وَمِنَى، أَنَا ابنُ زَمزَمَ وَالصَّفَا، أَنَا ابنُ مَن حَمَلَ الرُّكنَ بِأَطرَافِ الرِّدَا.. أَنَا ابنُ خَيرِ مَنِ ائتَزَرَ وَارتَدَى، أَنَا ابنُ خَيرِ مَنِ انتَعَلَ وَاحتَفَى، أَنَا ابنُ خَيرِ مَن طَافَ وَسَعَى.. أَنَا ابنُ خَيرِ مَن حَجَّ وَلَبَّى، أَنَا ابنُ مَن حُمِلَ عَلَى البُرَاقِ فِي الهَوَاءِ.. أَنَا ابنُ مَن أُسرِيَ بِهِ مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسجِدِ الأَقصَى، أَنَا ابنُ مَن بَلَغَ بِهِ جَبرَئِيلُ إِلَى سِدرَةِ المُنتَهَى.. أَنَا ابنُ مَن دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوسَينِ أَو أَدنى‏، أَنَا ابنُ مَن صَلَّى بِمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ، أَنَا ابنُ مَن أَوحَى إِلَيهِ الجَلِيلُ مَا أَوحَى.. أَنَا ابنُ مُحَمَّدٍ المُصطَفَى).

هكذا عرَّف أهل الشام بأنه ابن رسول الله (ص) وابن البيت والحرم، وهذا رأس سبط رسول الله وليس خارجياً على سلطان يزيد الشر، فضج الناس بالبكاء والعويل، ولكن لا بدَّ لهؤلاء أن يعرفوا مَنْ هذا الذي يلعنونه في صلاتهم وعلى منابرهم وهو الذي شرَّع الصلاة ولا تُقبل الصلاة إلا بالصلاة عليه وعلى أهل بيته الأطهار، فعرَّف جدَّه أمير المؤمنين بكلمات ليس لها مثيل أو نظير في التاريخ، حيث قال روحي فداه:

أَنَا ابنُ مَنْ ضَرَبَ خَرَاطِيمَ الخَلقِ حَتَّى قَالُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.. أَنَا ابنُ مَن ضَرَبَ بَينَ يَدَي رَسُولِ اللَّهِ بِسَيفَينِ، وَطَعَنَ بِرُمحَينِ، وَهَاجَرَ الهِجرَتَينِ، وَبَايَعَ البَيعَتَينِ، وَقَاتَلَ بِبَدرٍ وَحُنَينٍ، وَلَم يَكفُر بِاللَّهِ طَرفَةَ عَينٍ، أَنَا ابنُ صَالِحِ المُؤمِنِينَ، وَوَارِثِ النَّبِيِّينَ، وَقَامِعِ المُلحِدِينَ، وَيَعسُوبِ المُسلِمِينَ، وَنُورِ المُجَاهِدِينَ، وَزَينِ العَابِدِينَ، وَتَاجِ البَكَّائِينَ، وَأَصبَرِ الصَّابِرِينَ، وَأَفضَلِ القَائِمِينَ مِن آلِ يَاسِينَ رَسُولِ رَبِّ العَالَمِينَ.

أَنَا ابنُ المُؤَيَّدِ بِجَبرَئِيلَ المَنصُورِ بِمِيكَائِيلَ، أَنَا ابنُ المُحَامِي عَن حَرَمِ المُسلِمِينَ وَقَاتِلِ المَارِقِينَ، وَالنَّاكِثِينَ، وَالقَاسِطِينَ وَالمُجَاهِدِ أَعدَاءَهُ النَّاصِبِينَ، وَأَفخَرِ مَن مَشَى مِن قُرَيشٍ أَجمَعِينَ، وَأَوَّلِ مَن أَجَابَ وَاستَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِنَ المُؤمِنِينَ، وَأَوَّلِ السَّابِقِينَ، وَقَاصِمِ المُعتَدِينَ، وَمُبِيدِ المُشرِكِينَ، وَسَهمٍ مِن مَرَامِي اللَّهِ عَلَى المُنَافِقِينَ، وَلِسَانِ حِكمَةِ العَابِدِينَ، وَنَاصِرِ دِينِ اللَّهِ، وَوَلِيِّ أَمرِ اللَّهِ، وَبُستَانِ حِكمَةِ اللَّهِ، وَعَيبَةِ عِلمِهِ.

سَمِحٌ، سَخِيٌّ، بَهِيٌّ، بُهلُولٌ، زَكِيٌّ، أَبطَحِيٌّ، رَضِيٌّ مِقدَامٌ، هُمَامٌ صَابِرٌ صَوَّامٌ، مُهَذَّبٌ قَوَّامٌ، قَاطِعُ الأَصلَابِ، وَمُفَرِّقُ الأَحزَابِ، أَربَطُهُم عِنَاناً، وَأَثبَتُهُم جَنَاناً، وَأَمضَاهُم عَزِيمَةً، وَأَشَدُّهُم شَكِيمَةً، أَسَدٌ بَاسِلٌ يَطحَنُهُم فِي الحُرُوبِ إِذَا ازدَلَفَتِ الأَسِنَّةُ، وَقَرُبَتِ الأَعِنَّةُ طَحنَ الرَّحَى، وَيَذرُوهُم فِيهَا ذَروَ الرِّيحِ الهَشِيمِ.

لَيثُ الحِجَازِ، وَكَبشُ العِرَاقِ، مَكِّيٌّ، مَدَنِيٌّ، خَيفِيٌّ، عَقَبِيٌّ، بَدرِيٌّ، أُحُدِيٌّ، شَجَرِيٌّ، مُهَاجِرِيٌّ، مِنَ العَرَبِ سَيِّدُهَا، وَمِنَ الوَغَى لَيثُهَا، وَارِثُ المَشعَرَينِ، وَأَبُو السِّبطَينِ الحَسَنِ وَالحُسَينِ، ذَاكَ جَدِّي عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ).

هكذا عرَّف الإمام علي بن الحسين جدَّه الإمام علي بن أبي طالب (ع) لأهل الشام ليقول لهم: إن جدِّي هو أوَّل مَنْ صلى لقبلتكم، ومنه تعلمتم الصلاة والدِّين، وما قام هذا الدِّين الذي يحكم به يزيد وبني أمية إلا بجهاد وإيمان جدِّي أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي تسبُّونه وتلعنونه، بأمر من طاغيتكم هذا الملعون بكتاب الله، وعلى لسان جدي رسول الله (ص).

فقام الإمام زين العابدين بتبليغ الرسالة كاملة وأقام أهل الشام على يزيد الشر ولذا أسرع باخراجهم معززين مكرمين إلى مدينة جدهم ولكن اختاروا طريق العراق حيث كربلاء الامام الحسين (ع) وزيارته الأولى في الأربعين، حين وصلوا بوصول جابر بن عبد الله الأنصاري وخادمه عطية العوفي إلى تلك الأرض التي صارت قطعة من الجنة.

اضف تعليق