q
كثيرة هي الآراء والكتابات التي تؤكّد حتمية صناعة الحاضر للمستقبل، واستحالة حدوث العكس، أي لا يمكن للمستقبل أن يبني الحاضر كونه غير متحقّق بعد، فنحن لا زلنا نعيش في الحاضر الواقع، أما المستقبل فإنه لا يزال قابع في بطون الغيب، فكيف له صناعة شيء وهو غير موجود أصلا؟...

كثيرة هي الآراء والكتابات التي تؤكّد حتمية صناعة الحاضر للمستقبل، واستحالة حدوث العكس، أي لا يمكن للمستقبل أن يبني الحاضر كونه غير متحقّق بعد، فنحن لا زلنا نعيش في الحاضر الواقع، أما المستقبل فإنه لا يزال قابع في بطون الغيب، فكيف له صناعة شيء وهو غير موجود أصلا؟

لكن هناك من يقول مثلما الماضي غير موجود وبإمكاننا استعادته، فإن الشيء نفسه يمكن أن يحدث مع المستقبل من خلال الخيال والتخطيط للقادم مثلا، أي نستطيع اليوم في الحاضر نخطط للمستقبل ونرسم له ونهيّئ ما يساعدنا على بلوغ المستقبل المرسوم، لذلك فإن المستقبل يمكن أن يكون مؤثر بالحاضر، إذ لا يمكن بناء مستقبل مشرف انطلاقا من واقع مظلم، فإشراقة المستقبل لابد أن تنعكس على الحاضر.

في هذه الحالة لا أحد يُنكر على المستقبل تأثيره على الحاضر، فالمستقبل الجيد يجب أن نسعى إليه من مستقبل يليق به، وطالما أن الدول والمجتمعات، لا تتخيل ولا تحلم بمستقبل مظلم، بل طالما حلم الإنسان (فردا كان أو مجتمعا) بمستقبل زاهر، فإذا كان الإعداد جيدا لبناء المستقبل، فإن هذا يتطلّب حاضرا فاعلا متحرّكا ضاجا بالعقول والخبرات والإمكانات والموارد الجيدة.

التفكير خارج الصندوق

هناك معادلة معكوسة يُظهِرها عنوان هذا المقال، فيُثارُ مرة أخرى تساؤل مفاده: هل الحاضر هو الذي يصنع المستقبل أم العكس؟، معظم الآراء أو كلها تقريبا تميل إلى أن الحاضر هو الذي يبني المستقبل، فكيف يجرؤ أحدهم ليقول إن المستقبل هو الذي يصنع الحاضر.

هناك من لهم رأي آخر غير تقليدي، فهؤلاء هم المفكرون خارج (الصندوق)، أو خارج السرب كما يُقال، أو بعيدا عن المتوقَّع والسائد، إنهم يخالفون الرأي المتوقَّع فيقولون بصوت معلَن وعال إن المستقبل هو الذي يبني الحاضر وهذه أدلّتنا على ذلك!

هؤلاء وأنا منهم، لأنني أؤمن بأن الخيال المتفرّد الذي يفكر بمستقبل باهر، هو الذي يذهب إلى أن هذا المستقبل يحرك أخيلة الناس بمختلف صفاتهم ومؤهلاتهم ومهامهم وأهدافهم وقدراتهم أيضا، فيتوجهوا بلا تردّد نحو صناعة مستقبل مختلف بإشراقته ونوعيته وصفاته وعوالمه ومميزاته، ولكن كيف يؤثر هذا التفكير وهذا الخيال على الحاضر أو الواقع الذي هو محطة الانطلاق باتجاه المستقبل.

هل يمكن أن ينطلق الإنسان من محطة رديئة ليبني هدفا مستقبليا مائزا؟، لابد من الإجابة الدقيقة عن هذا السؤال، وهي: إن هذا أمر محال بالطبع، فالبدايات غالبا هي التي تصنع النتائج، وقلّما تأتي النتائج غير متوافقة مع البدايات إذا تم الإعداد لها بشكل متقن، لهذا إذا أردنا أن نبني مستقبلا زاهرا مضيئا، علينا أن ننطلق من محطة حاضرة مؤهلة لبناء هذا الحاضر المختلف، وهذا أولى وأهم وأكبر المؤثرات التي يعكسها المستقبل على محطة انطلاقه وهي الحاضر.

هكذا يمكن أن يكون المستقبل البشري الإنساني صانعا ماهرا وناجحا لحاضر مختلف أيضا، كيف يمكن أن يحدث هذا؟، وهل هناك مخرجات أو استنتاجات مقبولة ومعقولة لتأكيد تأثير المستقبل في بناء الحاضر؟

أفكار تراوح في مكانها

إن التفكير المنطقي الجامد يرفض مثل هذه الأفكار التي تخشى الخروج على دائرة أو قانون الواقع والمتعارَف عليه، أو المسلَّم به، لذلك فإن جميع الأفكار المأسورة بقوة المنطق السائد، تبقى تدور أو تراوح في مكانها، ولا يمكن أن تجرؤ على ضرب جدران الدائرة التي تدور في داخلها، أما من يبحث عن ثغرة أو ثغرات أو نوافذ خفية في جدران الدائرة المعتادة للواقع، فإنه حتما سيعثر عليها، إذا لم يحدث ذلك هذا اليوم، فإنه سوف يتم مستقبلا حتما.

لهذا نحن نفكر أن يكون التأثير المستقبلي واضحا في بناء المحطة الحاضرة، ولهذا علينا أن نفكر بالفعل في مستقبل مختلف وباهر وكبير، حتى ننطلق إليه من محطة مؤهَّلة فعلا كي تصل إليه وتحققه وتبنيه بمؤهلات وقدرات وخبرات الحالمين الخياليين الجريئين الذين يعلنون بثقة أن المستقبل يمكنه بناء منصة الانطلاق نحوه بمواصفات كبيرة.

فتغدو هذه المنصة أو المحطة الحاضرة فاعلة وقوية ومؤهلة لإطلاق الحاضر نحو مستقبل مائز يستحقه أصحاب العقول الكبيرة، وحاملو الأخيلة الرهيفة التي تتمتع بشجاعة التفكير خارج الصندوق، أو بعيدا عن السائد، لندع مفكّري بناء الحاضر يحلمون بمستقبل مختلف، ويروجوا لهذا الهدف، لأننا اليوم بحاجة إلى من يفكر خارج المعتاد، أكثر من الأفكار التي باتت بالية لا يقبلها حتى بسطاء العقول في عالم صار مكشوفا للجميع.

اضف تعليق