q
أدى تنامي دور الأجهزة الرقمية في حياتنا اليومية إلى تزايُد حدة الجدل حول مدى تأثير تلك الأجهزة على تطور أدمغة الأطفال ونموها، دون أن تتمكن الدوائر العلمية من تقديم إجابة تحسم الجدل، فمن جهة، يرى بعض الدراسات الحديثة أن التكنولوجيا تشتت تركيز الأطفال وتُضعف نمو قدراتهم الاجتماعية وتخلق لديهم مشكلات في الانتباه...
بقلم: دينا درويش

أدى تنامي دور الأجهزة الرقمية في حياتنا اليومية إلى تزايُد حدة الجدل حول مدى تأثير تلك الأجهزة على تطور أدمغة الأطفال ونموها، دون أن تتمكن الدوائر العلمية من تقديم إجابة تحسم الجدل.

فمن جهة، يرى بعض الدراسات الحديثة أن التكنولوجيا تشتت تركيز الأطفال وتُضعف نمو قدراتهم الاجتماعية وتخلق لديهم مشكلات في الانتباه، بل إن عددًا من الدراسات ذهب إلى أبعد من ذلك، مشيرًا إلى أن "التعلم الذي يعتمد على التكنولوجيا يمكن أن يؤدي إلى نتائج أكاديمية أضعف".

في المقابل، ذهب بعض الدراسات إلى أن التكنولوجيا أسهمت في جعل الخبرات التعليمية أكثر تخصصًا، وأنها تساعد في تنظيم أوقات الدروس على نحوٍ أكثر فاعلية، وتسهل التعلم النشط، من هنا تأتي أهمية الدراسة التي نشرتها دورية "جاما بيدياتريكس" (JAMA Pediatrics) حول كثرة استعانة أولياء الأمور بالأجهزة الرقمية لإلهاء أطفالهم.

عدم التنظيم العاطفي

تحذر الدراسة التي أجراها باحثون في مستشفى "سي إس موت للأطفال" التابعة لكلية الطب بجامعة "ميشيغان" الأمريكية من أن "استخدام الأجهزة الرقمية لتهدئة الأطفال الصغار قد يأتي بنتائج عكسية، وأن الاستخدام المتكرر لأجهزة مثل الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية لتهدئة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و5 سنوات ارتبط بزيادة احتمالات معاناة الأطفال من "عدم التنظيم العاطفي"، الذي يُعرف أيضًا بـ"خلل التنظيم العاطفي"، وبالتالي عدم قدرتهم على مواجهة المشاعر القوية -مثل الغضب والخوف والانفعال- واحتوائها وموازنتها، والتعرض لتغيرات سريعة بين الحزن والإثارة، وتغير مفاجئ في المزاج والمشاعر، وزيادة الاندفاع في رد الفعل.

توضح جيني راديسكي -أستاذ طب الأطفال التنموي والسلوكي في مستشفى "سي إس موت للأطفال" التابعة لجامعة ميشيغان، والباحث الرئيسي في الدراسة- أن "استخدام الأجهزة الرقمية لتهدئة طفل صغير قد يبدو وكأنه أداة مؤقتة غير ضارة لتقليل التوتر في المنزل، ولكن قد تكون هناك عواقب طويلة المدى إذا كانت هذه الإستراتيجية للتهدئة تُستخدم بشكل منتظم، وبصفة خاصة في مرحلة الطفولة المبكرة.

تقول "راديسكي" في تصريحات لـ"للعلم": الاستخدام المفرط للأجهزة الرقمية قد يجعلها بديلًا عن تطوير طرق مستقلة تساعد الطفل على تنظيم عواطفه بشكل ذاتي وتمكنه من إدارة مشاعره والاعتماد على نفسه.

التأقلم العاطفي

أخضع الباحثون للدراسة 422 من الآباء و422 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 3 و5 سنوات، وذلك في الفترة ما بين أغسطس 2018 ويناير 2020، أي قبل أن تبدأ جائحة "كوفيد-19"، وبلغ عدد الأولاد في العينة 224، وعدد الأفراد من العرق الأبيض غير اللاتيني 313 طفلًا، وكان 254 من أولياء الأمور حاصلين على درجة جامعية فأعلى.

فحص الباحثون استجابات الوالدين ومقدمي الرعاية لعدد المرات التي استخدموا فيها الأجهزة الرقمية كأداة مهدئة، وارتباط ذلك بالتفاعل العاطفي وظهور أعراض خلل التنظيم العاطفي على الأطفال على مدى ستة أشهر.

لرصد هذا الاضطراب، أجاب الآباء عن أسئلة عبر الإنترنت حول استخدامهم للأجهزة الرقمية لتهدئة أطفالهم، وكان السؤال الرئيسي هو: عندما يكون طفلك مستاءً ويحتاج إلى الهدوء، ما مدى احتمالية إعطائه جهازًا محمولًا مثل الهاتف الذكي أو الحاسوب اللوحي؟ كما قام الآباء بتقييم مستويات تفاعُل أطفالهم العاطفي باستخدام أدوات القياس النفسي.

تقول "راديسكي" التي تمر بدورها بتجربة الأمومة لطفلين: أفاد 8.5٪ من أولياء الأمور بأنهم كانوا يستخدمون الأجهزة الرقمية لتهدئة أطفالهم عند تعرُّضهم للانزعاج، وقمنا بقياس أعراض اضطراب التنظيم العاطفي عبر ثلاث موجات في بداية البحث وعقب مرور ثلاثة أشهر وبعد مرور ستة أشهر.

وتتابع: تشير النتائج إلى أن الارتباط بين استخدام الأجهزة الرقمية لتهدئة الطفل وما يترتب عليه من عواقب عاطفية كان مرتفعًا بشكل خاص بين الذكور من أفراد العينة الصغار والأطفال الذين يعانون من فرط النشاط والاندفاع الذي يجعلهم أكثر تعرضًا للاستجابة بشكل مكثف لمشاعر مثل الغضب والإحباط والحزن، وتؤكد النتائج أن استخدام الأجهزة الرقمية كوسيلة لإرضاء الأطفال قد يمثل مشكلة، خاصةً لأولئك الذين يعانون بالفعل من مهارات التأقلُم العاطفي.

سلوكيات صعبة

تمضي "راديسكي" قائلة: تُعد فترة ما قبل المدرسة إلى رياض الأطفال مرحلة نمو؛ إذ يكون الأطفال أكثر تعرضًا لإظهار سلوكيات صعبة مثل نوبات الغضب والتحدي والمشاعر الحادة الشديدة، ما قد يجعل الآباء أكثر ميلًا إلى استخدام الأجهزة الرقمية باعتباره إستراتيجية معتادة لتهدئة الأجواء فى المنزل، لكن كلما زاد استخدام تلك الأجهزة، قل استخدام الأطفال -وأولياء أمورهم- لإستراتيجيات المواجهة الأخرى، ما يصرف انتباه الطفل عن البيئة المحيطة به.

يتفق أحمد عبد الله -مدرس الطب النفسي بكلية الطب بجامعة الزقازيق- مع "راديسكي" في الرأي، مضيفًا: بدلًا من محاولة تشتيت انتباه الأطفال بالشاشات، نوصي الآباء بالنظر إلى نوبات الغضب التي تنتاب الأطفال على أنها فرص لتدريبهم على كيفية الاستجابة للعواطف بطرق مفيدة، ومن الأفضل محاولة إرضاء الطفل من خلال تسمية مشاعره، كأن نقول له: (أرى أنك غاضب) وتشجيعه على إيجاد طرق أخرى للتعبير عن الإحباط أو الغضب.

يقول "عبد الله" في تصريحات لـ"للعلم": ساعد طفلك على التعبير عن مشاعره، وشجعه على الحديث عما يشعر به، والتحكم في عواطفه بشكل أفضل وعدم إغراقه فيها، يجب أن نساعد الأطفال على فهم أنفسهم بشكل أفضل وأن نمنحهم فرصًا أكثر لإدارة مشاعرهم.

دراسات متباينة

تتفق نتائج الدراسة مع ما انتهت إليه ورقة علمية شملت 4520 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 8 أعوام و11 عامًا في 20 موقعًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة؛ إذ أكد الباحثون أن قضاء الأطفال أكثر من ساعتين يوميًّا أمام الشاشات يُضعف نموهم المعرفي.

كما أظهرت دراسة أجراها باحثون من معاهد الصحة الوطنية الأمريكية أن الأطفال الذين يستخدمون الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وألعاب الفيديو أكثر من سبع ساعات يوميًّا أظهروا "ترقُّقًا مبكرًا في القشرة المخية"، وهي علامة تشير إلى الشيخوخة المبكرة للدماغ.

في المقابل، أظهرت دراسة أجراها معهد أكسفورد للإنترنت، استنادًا إلى بيانات أكثر من 35 ألف طفل أمريكي ومقدمي الرعاية لهم، وجود "ارتباط إيجابي" بين الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام التلفزيون والوظائف النفسية المعرفية، مشيرةً إلى أن "قضاء الطفل ما بين ساعة إلى ساعتين يوميًّا قد يكون له تأثير إيجابي على رفاهية الأطفال وصحتهم العقلية".

توخي الحذر

من جهتها، تشير نهال لطفي -مدرس علم النفس التربوي بكلية التربية في جامعة قناة السويس- إلى أن "معظم الدراسات تعاني من تحيزات منهجية؛ إذ تعتمد بشكل خاص على التقدير الشخصي لوقت الشاشة، خاصةً أن بعض المشاركين لا يقدمون بيانًا دقيقًا لعادات أطفالهم فيما يخص التعرض للوسائط الرقمية".

تقول "لطفي" في تصريحات لـ"للعلم": من الضروري أن يتوخى الباحثون الحذر الشديد بشأن الاستنتاجات النهائية؛ إذ إن وقت الشاشة مقياس سهل للقياس، ولكنه لا معنى له تمامًا وليس المقياس الوحيد؛ فعلى سبيل المثال، فإن ممارسة الألعاب التعليمية أو التفاعلية لا يجب أن تُعامل بطريقة مشاهدة الرسوم المتحركة التي تحدث بشكل سلبي دون تفاعُل من قِبل الطفل.

وسائل بديلة

في ظل هذا اللغط، تقدم "راديسكي" بعض المقترحات لتعويد الأطفال على إدارة انفعالاتهم السلبية بعيدًا عن الأجهزة، مثل التأرجح، والاحتضان، والقفز على المنطات، والاستماع إلى الموسيقى، وتصفح الكتب.

تقول "راديسكي": إذا رأيت طفلك يشعر بالضيق، وجِّه هذه الطاقة إلى حركات الجسم أو الأساليب الحسية، وينبغي على الكبار مساعدة الطفل على ربط حالته العاطفية بألوان، بحيث يُشير اللون الأزرق -مثلًا- إلى الملل، والأخضر إلى الهدوء، والأصفر إلى القلق، والأحمر إلى الانفجار، بما يسهل على الأطفال فهم هذه المشاعر وتحويلها إلى دليل مرئي محفوظ في الذاكرة، ومساعدة الأطفال الصغار على رسم صورة ذهنية حول الكيفية التي تشعر بها أدمغتهم وأجسادهم، ويمكن للوالدين استخدام مناطق الألوان هذه في الأوقات الصعبة، كأن يقولوا للطفل: أنت تتلوى وأنت في المنطقة الصفراء.. ما الذي يمكنك فعله للعودة إلى اللون الأخضر؟

وتتابع: تساعد هذه الحلول الأطفال على فهم أنفسهم على نحوٍ أفضل والتمتع بمزيد من الكفاءة في التعامل مع مشاعرهم، لكن الأمر يتطلب تكرار ذلك من مقدمي الرعاية الذين يجب عليهم أيضًا الحفاظ على الهدوء وعدم المبالغة في ردود أفعالهم تجاه مشاعر الطفل، ومساعدته في تطوير مهارات لتنظيم المشاعر التي تدوم مدى الحياة.

اضف تعليق