q
كان الكون في أعقاب الانفجار الكبير ساطعًا إلى حد يُغشي الأبصار. وكانت الحرارة التي خلفها هذا الانفجار هائلة، إلى حد حال دون ارتباط الإلكترونات بالبروتونات لتشكيل الذرات، وإنما كان الكون يشبه فورة من البلازما، أو غاز متوهج كثيف من جسيمات ذات شحنات كهربية (مؤينة) تشتت الضوء...
بقلم: شانون هال

باستخدام «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» James Webb Space Telescope (JWST)، اكتشف فريق بحثي من علماء الفلك ثلاث مجرّات صغيرة، ربما تكون قد ساعدت في إطلاق شرارة أحد أعظم التحولات في التاريخ الكوني.

فنتائج أرصاد التلسكوب التي عرضها الفريق البحثي في اجتماع «الجمعية الفلكية الأمريكية» American Astronomical society (AAS) في سياتل، واشنطن، ونشرها في الثالث من يناير الماضي1، قد تقدم تفسيرًا للسبب وراء حقبة إعادة التأيّن، وهي الفترة التي شق فيها إشعاع قوي ضبابًا من ذرات الهيدروجين التي حامت في سماء الكون، ليتيح رؤية النجوم و المجرّات للمرة الأولى.

إذ كان الكون في أعقاب الانفجار الكبير ساطعًا إلى حد يُغشي الأبصار. وكانت الحرارة التي خلفها هذا الانفجار هائلة، إلى حد حال دون ارتباط الإلكترونات بالبروتونات لتشكيل الذرات، وإنما كان الكون يشبه فورة من البلازما، أو غاز متوهج كثيف من جسيمات ذات شحنات كهربية (مؤينة) تشتت الضوء، وتبعثه على نحو يشبه إلى حد كبير ضوء مصباح فلوري.

وبعد حوالي 380 ألف عام، انخفضت حرارة الكون الآخذ في التمدد والاتساع بما يكفي لتشكيل ذرات الهيدروجين. وفي نهاية المطاف، التحم بعض هذه الذرات ليشكل أولى النجوم والمجرّات. بيد أن غلاف الهيدروجين المحيط بهذه الأجرام، امتص ضوءها، على غرار الكيفية التي يمكن بها لضباب كثيف أن يحجب ضوء المصابيح الأمامية لسيارة.

وفي نهاية المطاف، انتهى عصر الظلام الكوني. إذ أدى إشعاع نّشط إلى تكسير ذرات الهيدروجين بين المجرات، وفصلها عن بعضها البعض، وتحويلها مرة أخرى إلى بروتونات وإلكترونات مُفردة، في عملية تسمى بإعادة التأيّن. على أن تأيُّن المادة بين المجرات كافة من شأنه أن يتطلب قدرًا هائلاً من الطاقة. ولطالما اختلف علماء الفلك في تحديد ما تسبب في هذا الحدث الفلكي. فربما كان السبب ضوء النجوم المنبعث من مجرات أقدم، أو لعل هذا الحدث قد نتج عن ثقوب سوداء هائلة الحجم تجذب المواد باتجاهها، وتُسخِّنها.

في ذلك الصدد، يقول ترين توان، وهو عالم فلك من جامعة فيرجينيا في شارلوتسفيل: "يُعد السبب وراء حقبة إعادة التأيُن من أهم الألغاز الكونية".

من هنا، في الحادي عشر من يوليو عام 2022، أي بعد حوالي ستة شهور من إطلاق «تلسكوب جيمس ويب الفضائي»، قَدّم المرصد أدق صورة لأبعد نقطة رُصدت إلى اليوم من فضاء الكون السحيق. وتشمل الصورة، التي تركز على عنقود من المجرّات يُسمى SMACS 0723، آلاف المجرّات، الأكثر خفوتًا من أي مجرات رُصدت من قبل. وقد تمكن «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» من التقاطها بفضل تحليله لضوء الأشعة تحت الحمراء. فمع تمدد الكون، يبدو أن ضوء المجرّات الأبعد ينتقل من الجزء المرئي من الطيف الكهرومغناطيسي إلى طيف الأشعة تحت الحمراء. ومن بين آلاف المجرّات التي رصدتها هذه الصورة، المعروفة باسم SMACS 0723، قرر الباحثون متابعة الرصد والتحليل الطيفي للضوء المنبعث من ثلاثة منها، بدت بعيدة للغاية.

وعند رصد أطياف المجرات الثلاثة لأول مرة، أدرك جيمس رودس، عالم الفلك من مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة «ناسا» في مدينة جرين بيلت بولاية ميريلاند الأمريكية، مع فريقه البحثي، أن المجرّات تُشبه أجرامًا توجد عادةً على مقربة منا؛ إذ شابهت إلى حد عجيب مجرّات «البازلاء الخضراء»، وهي أجرام غريبة رصدها لأول مرة مشروع يتبنى فكرة البحث العلمي القائم على التعهيد الجماعي، انطلق تحت اسم «حديقة المجرّات» Galaxy Zoo، وأعلن عن اكتشاف هذه الأجرام في عام 2009.

وقد سُميت مجرّات «البازلاء الخضراء» بهذا الاسم بسبب لونها وصغر حجمها. ويضاهي حجمها 5% فقط من حجم مجرّة «درب التبانة»، و1% من كتلتها. إلا أنها تكوِّن النجوم بمعدل هائل، يقارب 100 ضعف المعدل الذي قد يتوقعه علماء الفلك نسبة إلى إلى كتلتها. كما يبدو أنها تحتوي على عدد قليل نسبيًا من العناصر الثقيلة. وتتصف بلونها الأخضر الناتج عن وهج الأكسجين المتأيّن (وهو عنصر خفيف نسبيًا)، الذي تسخنه النجوم حديثة النشأة.

وقد أثارت مجرّات «البازلاء الخضراء» دهشة علماء الفلك، لأنه على الرغم من أنها لم تُشاهد إلا في فضاء الكون القريب، فخصائصها تشبه تلك المتوقعة في أولى المجرات. على سبيل المثال، يعتقد العلماء أن المجرات الأولى لا تحتوي إلا على عناصر خفيفة، لأن العناصر الثقيلة تحتاج إلى وقت لتتكون. وقد أوضحت سانجيتا مالهوترا، وهي متخصصة في علم الفلك من مركز جودارد لرحلات الفضاء، ذلك مازحةً في اجتماع انعقد في الثاني عشر من يناير الماضي لـلجمعية الفلكية الأمريكية، واصفةً هذه المجرات بأنها «مجرات بيتر بان»، لأنها غير مكتملة التكوين ولم تنضج بعد.

من هنا، تحمس رودس ومالهوترا وأفراد فريقهما البحثي لتحليل أطياف المجرات الثلاثة باستخدام «تلسكوب جيمس ويب الفضائي»؛ إذ يعود تاريخ هذه المجرات إلى فجر الكون، لكنها تشبه مجرّات «البازلاء الخضراء» القريبة منا. حول ذلك، يقول رودس: "فطننا فور مشاهدتنا لهذه المجرات إلى أن أطيافها تشبه تلك المميزة لمجرات «البازلاء الخضراء»".

وتتسم المجرات الثلاث بأنها صغيرة الحجم، وتبعث أشعة طيفية قوية، كمجرّات «البازلاء الخضراء»، وهو ما يعني أنها تكّون النجوم سريعًا. كما أنها، بالمثل، تحتوي على نسبة منخفضة من العناصر الأثقل من الهيدروجين والهيليوم. بل في الواقع، تحتوي المجرة الأبعد بين الثلاث على نسبة تقارب 2% من الأكسجين الموجود بمجرّة «درب التبانة». ويُحتمل أن هذه الكمية هي الأدنى بين ما رُصد إلى اليوم من هذا الغاز في أي مجرة.

ويضيف توان أنه "ذُهل" عندما لاحظ الشبه بين الأطياف التي رصدها «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» لهذه المجرّات، وتلك المنبعثة من مجرات «البازلاء الخضراء»، التي كان قد درسها لفترة طويلة.

وليس هناك مجال كبير للشك في أن المجرات الثلاث تنتمي للنوع نفسه من الأجرام الذي تُنسب إليه مجرات «البازلاء الخضراء». في ذلك الصدد، يشير دانيال شيرار، اختصاصي علم الفلك من جامعة جينيفا في سويسرا، إله أنه قبل وجود «تلسكوب جيمس ويب الفضائي»، كان باحثون قد أخذوا عدة قياسات لعدد من مجرات «البازلاء الخضراء»، التي يعود تاريخها إلى عشرة مليارات سنة بعد الانفجار العظيم، لكن، على حد قول شيرار: "الآن، فجأة، صار بإمكاننا القيام بالمثل مع مجرات يعود تاريخها إلى 700 مليون سنة فقط من الانفجار العظيم. وهو إنجاز لا يصدقه عقل".

كذلك يبعث على التشويق اكتشاف آخر، يعود إلى عام 2016، أفاد به فريق من علماء الفلك من بينهم توان، وأشار إلى رصد واحدة من مجرات «البازلاء الخضراء»، تنفث أعدادًا كبيرة من الفوتونات المؤينة بين المجرّات2، وهو ما لا تفعله معظم المجرّات القريبة منا. وفي ضوء وجود العديد من النجوم في الحيز الصغير الذي يميز مجرات «البازلاء الخضراء»، فربما يمكن لهذه المجرات اختراق الوسط بين النجمي، بإشعاع نشط يشق طريقه هروبًا خارج هذا الوسط.

وقد يدل ذلك على أن أجرامًا مثل تلك المجرات الثلاثة التي تعود إلى فجر الكون قد أنتجت الطاقة اللازمة لتحرير الكون من حقبة الظلام الكوني. ويرى ثوان أن نتيجة كتلك منطقية، فيقول "صرت الآن أعتقد حقًا أن هذه المجرّات القزمة المُكوّنة للنجوم هي العامل الذي يقف وراء نشأة حقبة إعادة التأيّن".

اضف تعليق