q
إنسانيات - تاريخيات

ثمن الولاء

مقتطفات حول ظلامة الشيعة عبر التأريخ

لا يشك فيما جرى على هذه الفرقة على مرور الزمان من مصائب وقتل وحرق وإبعاد، وهذا ضريبة ولائهم لأهل بيت نبيهم والتاريخ قبال الشيعة وقف وقفة تخاذل وإجحاف، فالصفحات المشرقة بدلها بصفحات مظلمة، ونقلها إلى المجتمع مع تزوير وبهتان والمنصف من المؤرخين من نقل شيئاً يسيراً من الحقائق...

بين الفترة والأخرى تصبّ على الشيعة في العالم مآسي جديدة تمضّ القلوب وتصدع النفوس، فمن قتل الأبرياء وهتك الأعراض إلى التجاسر على حرمة المقدّسات والتجاوز على العقائد حتى صار الشيعي يُقتل على الهويّة والاسم.

كل ذلك يجري والعالم ينظر ويرى ولا ينبس ببنت كلمة، والمؤلم حقّاً أنّ بعض الشيعة لزموا الصمت أيضا إزاء ما يجري على إخوانهم في العالم -سواء أكانوا في العراق أم باكستان أم أفغانستان أم لبنان أم غيرها من البلاد- ممّا يُثير الدهشة والتعجّب وذلك إمّا جهلاً منهم، أو خشية من سطوة السلطات الجائرة، أو لعدم مبالاتهم بما يجري على إخوانهم الشيعة في العالم.

وحقيقة أنّ مثل هذا السكوت والوجوم من العالم إزاء ما يجري على الشيعة من مآسي وويلات في مختلف أنحاء العالم عبر العصور هو الذي دفعني إلى كتابة هذا البحث واستعراض هذه الظلامات التي جرت على الشيعة عبر التأريخ، فأقل مسؤولية إزاء هذه المآسي هو التظلّم والسعي لإيصال صوت مظلوميتنا إلى العالم علنا نوفّق لرفع هذه الغمة عن محبّي أمير المؤمنين (عليه السلام) في مختلف أنحاء العالم.

الغريب في الأمر أني لم أجد من تصدّى واستقصى وجمع ظلامة الشيعة في بحث مستقل، بل كل من كتب أشار إلى بعض الظلامات المتفرّقة في بعض العصور فقط، فمن كلام للعلامة المحقق السيّد جعفر مرتضى العاملي في كتابه (صراع الحريّة في عصر المفيد) حول الظلامات التي جرت في عهد الشيخ المفيد (رحمه الله)، قال: كنّا نرغب لو يفسح لنا المجال لكتابة كل ما جرى على الشيعة من مصائب وبلايا، وكوارث ورزايا، طيلة القرون التي خلت، ولكن من الواضح أن ذلك بالإضافة إلى أنه يستغرق عدة مجلدات، فإنه يحتاج إلى توفر تام، وجهد كبير، الأمر الذي يحتم علينا الاعتذار عن التصدّي لمثل هذا الأمر فعلاً. صراع الحرية في عصر المفيد: 42.

وقال المحقّق الشيخ فارس الحسون (رحمه الله) في كتابه (المجازر والتعصّبات الطائفية في عهد الشيخ المفيد (رحمه الله): ولا يشك الناظر في التاريخ أنّ لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) اليد الطولى في ارتقاء الدرجات العليا في أكثر المجالات، وبهذا بيّضوا صفحات التاريخ ونوروها.

ولا يشك أيضا فيما جرى على هذه الفرقة على مرور الزمان من مصائب وقتل وحرق وإبعاد، وهذا ضريبة ولائهم لأهل بيت نبيهم صلوات الله عليهم أجمعين.

والتاريخ قبال الشيعة وقف وقفة تخاذل وإجحاف، فالصفحات المشرقة بدلها بصفحات مظلمة، ونقلها إلى المجتمع مع تزوير وبهتان!

والمنصف من المؤرخين من نقل شيئاً يسيراً من الحقائق مع الغمز والتشكيك فيها.

ومنذ مدة غير قريبة عزمنا على تأليف كتاب يجمع بين دفتيه ما جرى على الشيعة من مصائب وطرد وإباحة من الصدر الأول إلى يومنا الحاضر، سواء في ذلك من قبل الحكام أم الناس. المجازر والتعصّبات الطائفية في عهد الشيخ المفيد: 21-22.

ومع الأسف أيضا لم يوفق هو الآخر لكتابة هذا البحث علما أني دعوته لتكملة بحثه حول ظلامة الشيعة في عهد الشيخ المفيد ويكتب ظلامتهم في سائر العصور إلا أنه كان يعتذر عن ذلك بكثرة المشاغل التي منعته عن مواصلة هذا الموضوع المهم.

من هنا وجدت من الضروري والواجب علي أن أتصدى لكتابة هذا البحث الذي يمثل صرخة وتظلم لما جرى ويجري على الشيعة منذ عهد مولى الموحدين وإمام المتّقين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى العصور المتأخرة داعيا أهل الانصاف والفكر إلى التأمل في هذه الظلامة والسعي إلى نشرها في العالم علنا نرفع شيئا منها ونخفّف العبء عن كاهل الشيعة المستضعفين الذين ذاقوا الويلات على مر العصور، وقد أسميت هذا البحث بـ (ثمن الولاء) إشارة إلى أن ما جرى على الشيعة عبر العصور هو ثمن ولائهم لأمير المؤمنين (عليه السلام)، علماً أنه لو قطّع الشيعة إرباً إربا وأُحرقوا في النار ونُسفت ذرّاتهم في الريح الهشيم ألف مرّة لم يكن ذلك ثمناً لولائهم لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ولكني عبّرت بالثمن من باب المسامحة والتجاوز.

وقفة مع كتّاب التاريخ

قبل أن نشرع في بيان سر ظلامة الشيعة المتمثّل في محبتّهم لأمير المؤمنين وذريته الأطهار (عليهم السلام) ينبغي أن نقف وقفة عابرة عند صفحات التاريخ ونشير إلى حقيقة بالغة في الأهمية ألا وهي ضياع معظم الحقائق التاريخية ودور كثير من المؤرخين في ذلك، وكيف أنّ كثيراً من الظلامات ضاعت وغُمرت وأكل عليها الدهر وشرب جراء تحيّز المؤرخين إلى الحكام وخوفهم من ذكر الحقائق وتدوينها أو لتأثير أهوائهم وميولاتهم على كتاباتهم.

فمن كلام للمدائني عن عصر معاوية قال: وظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجلسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الاخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها، وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها. شرح نهج البلاغة: 3/15.

وقال ابن أبي الحديد: وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي.. أنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي (عليه السلام) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.شرح نهج البلاغة: 4/63.

وقال العلامة السيّد شرف الدين (رحمه الله) في كتابه (صلح الإمام الحسن (عليه السلام): وقد خسر تاريخ هؤلاء الشيعة انصاف المؤرخين بعد ذلك، ولعب التعصب الذميم دوره المهم في طمس معالم هذا التاريخ أحفل ما يكون بالقضايا البارزة التي كان من حقها أن تأخذ مكانها من عبرة الأجيال.

وكان للسلطات الحاكمة عملها في توجيه ما يكتب للتاريخ أو يملى للحديث، حتى فيما يتناول أئمة الشيعة فضلا عن زعمائهم أو سوادهم.

روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا المقام، قال: إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنّون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم!. شرح نهج البلاعة: 3/15.

تحريف التأريخ

مسألة تحريف التأريخ ليست من المسائل العابرة التي يمر عليها الإنسان مرور الكرام ولا يوليها أي اهتمام بل هي مسألة حسّاسة ومصيرية ترتبط بكثير من الأمور في مصير الشعوب والأمم، ومن هنا وجدت من اللازم أن نقف عندها قليلاً لنسلّط الأضواء على العوامل التي قادت بعض المؤرّخين إلى طمس الحقائق وتهميش الكثير من الوقائع البالغة الأهميّة ومنها مسألة مآسي الشيعة التي ضيّعها كثير من المؤرّخين ممّن قادتهم الأطماع والأهواء وغيرها إلى تضييعها بل وطمسها.

يقول العلامة السيّد جعفر مرتضى العاملي (رحمه الله) حول هذا الموضوع: ولكنّنا في الوقت الذي نملك فيه أغني تاريخ عرفته أمة، لا نملك من كتب التاريخ والتراث ما نستطيع أن نعوّل عليه في إعطاء صورة كاملة وشاملة ودقيقة عن كل ما سلف من أحداث، لأنّ أكثر ما كتب منه تتحكم فيه النظرة الضيقة، ويهيمن عليه التعصب والهوى المذهبي، ويسير في اتجاه التزلف للحكام... إن ما لدينا هو -في الأكثر- تاريخ الحكام والسلاطين، وحتى تاريخ الحكام هذا، فإنه قد جاء مشوهاً وممسوخاً، ولا يستطيع أن يعكس بأمانة وحيَدَة الصورة الحقيقية لحياتهم ولتصرفاتهم ومواقفهم، لأنّ المؤرخ كان يسجل إلا ما يتوافق مع هوى الحاكم، وينسجم ميوله، ويخدم مصالحه، مهما كان ذلك مخالفاً للواقع، ولما يعتقده المؤرخ نفسه ويميل إليه.

ومن هنا فإنّنا لا نفاجأ إذا رأينا المؤرّخ يهتم بإمور تافهة وحقيرة، فيسهب القول في وصف مجلس شراب، أو منادمة لأمير أو حاكم، أو يختلق أحداثا أو شخصيات لا وجود لها، ثم يهمل أحداثا خطيرة، أو يتجاهل شخصيات لها مكانتها وأثرها العميق في التاريخ، وفي الأمة. الصحيح من سيرة النبي الأعظم: 1/10-11.

بالطبع هناك عدّة عوامل قادت بعض المؤرّخين إلى تزييف وتحريف حقائق التأريخ ومنها:

العقيدة الفاسدة

قال العلامة المحقّق الشيخ محمد رضا المظفر (رحمه الله) في كتابه (السقيفة) حول تأثير العقيدة على المؤرّخ: من أشقّ الفروض على المؤرّخ أن نفض عن ردائه غبار التعصّب لنزعاته الشخصيّة من دينيّة أو قوميّة أو وطنيّة ونحوها، بل لعلّه من شبه المستحيل أن ينزع من قلمه لحاء عقائده وأهوائه، فإنّ النفس تلهم عقل صاحبها التصديق بميولها وعواطفها، وكثيراً ما تقف سدا منيعا بين بصيص عقله والحقيقة، وإن حاول أن يخرج من نفسيته التي ورثها ونشأ عليها، ويتحلّل فكره من أسرها وسجنها ليحلّق في جو الحق الطليق.

وإذا رأيت طائراً أسعده الحظّ فتحرّر من سجنه فالحقه إذا كنت حراً مثله، فستجد أنّ جناحه مثقل السجن، وأرجله لا تزال متأثّرة بالقيود، فيختلج في رفيفه ويتثاقل في طيرانه، وقد يهوي أحياناً إلى الهوة غير مختار.

هذا من حاول أن يتحرّر من شخصيته الاعتقادية وتأثيرها عليه، أمّا من يؤرّخ لأجل غذاء عقيدته، أو يؤلّف إرضاء نفسه أو محيطه، فاقرأه ألف سلام!

وأرجو من الله تعالى أن يوفّقني لئلا أكونه وأظنّني غير مبالغ إذا قلت: إنّ المؤرّخين من السلف على الأكثر – وأقول: على الأكثر إذا أردت الاحتياط في القول كانوا من النوع الثاني.

بل حتى المؤرخين في عصرنا لا يخرجون عن هذه الطريقة على الغالب، وإن تظاهروا بحرية الرأي وإنصاف الواقع والحق، فظهر جلياً -بالرغم على المؤرّخ- نزعته على قلمه ويتماشى تأريخه وتأليفه مع الروح التي يحملها، فيختار من الأحاديث ما لا يفسد عليه رأيه، ولا يصدق إلا بما يجري على هواه. فكم يكون الرجل عنده كذابا وضاعا، لأنه نقل ما لا يتفق ومبادءه، وكم يكون ثقة صدوقا لأنه لم يرو إلا أحاديث تؤيد طريقته. السقيفة ص16-17.

الأهواء الشخصية

ساهمت الأهواء الشخصية والميول الذاتية بشكل كبير في تزييف التأريخ وتحريف حقائقه حيث استسلم كثير من كتّاب التأريخ لأهوائهم ومصالحهم وزيفوا الحقائق التي كان من المفترض عليهم نقلها بأمانة ودقة للأجيال عبر العصور المختلفة.

وكمثال على ذلك فقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه -وهو من أكابر المُحدّثين وأعلامهم- أنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اُفتعلت في أيام بني أميّة تقرّباً إليهم بما يظنّون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم. شرح نهج البلاعة: 3/15.

وقد ذكر ابن أبي الحديد قضية غريبة جداً تبيّن كيف لعبت الأهواء الشخصية في تزييف الحقائق، وهي قضية كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر، قال: (أنّ علياً (عليه السلام) لمّا كتب إلى محمد بن أبي بكر هذا الكتاب، كان-أي محمد بن أبي بكر- ينظر فيه ويتأدب بأدبه، فلمّا ظهر عليه عمرو بن العاص وقتله، أخذ كتبه أجمع، فبعث بها إلى معاوية، فكان معاوية ينظر في هذا الكتاب ويتعجّب منه، فقال الوليد بن عقبة، وهو عند معاوية، وقد رأى إعجابه به: مُر بهذه الأحاديث أن تُحرق، فقال معاوية: مه، لا رأى لك!

فقال الوليد: أفمن الرأي أن يعلم الناس أن أحاديث أبى تراب عندك تتعلّم منها؟!

قال معاوية: ويحك أتأمرني أن أحرق علما مثل هذا؟! والله ما سمعت بعلم هو أجمع منه ولا أحكم. فقال الوليد: إن كنت تعجب من علمه وقضائه فعلام تقاتله؟!

فقال: لولا أنّ أبا تراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا عنه.

ثم سكت هنيهة، ثم نظر إلى جلسائه، فقال: إنا لا نقول: إنّ هذه من كتب علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكن نقول: هذه من كتب أبى بكر الصدّيق، كانت عند ابنه محمد فنحن ننظر فيها، ونأخذ منها.

قال: فلم تزل تلك الكتب في خزائن بنى محمد فنحن ننظر فيها، ونأخذ منها.

قال: فلم تزل تلك الكتب في خزائن بنى أميّة حتى ولى عمر بن عبد العزيز، فهو الذي أظهر أنها من أحاديث علي بن أبي طالب. شرح نهج البلاغة: 6/72.

وروى ابن خلكان عن سبب تقريب هارون العباسي لأبي يوسف قاضي القضاة، فقال: (دخل القائد يوماً على الرشيد فوجده مغموماً، فسأله عن سبب غمه؟

فقال: شيء من أمر الدين قد حزنني، فاطلب فقيهاً كي أستفتيه، فجاءه بأبي يوسف.

قال أبو يوسف: فلما دخلت إلى ممرّ بين الدور رأيت فتىً حسناً عليه أثر الملك وهو في حجرة محبوس، فأومأ إلي بأصبعه مستغيثاً، فلم أفهم منه إرادته وأُدخلت إلى الرشيد، فلما مثلت بين يديه سلّمت ووقفت، فقال لي: ما اسمك؟

فقلت: يعقوب أصلح الله أمير المؤمنين.

قال: ما تقول في إمام شاهد رجلاً يزني، هل يحدّه؟

قلت: لا، فحين قلتها سجد الرشيد، فوقع لي أنه قد رأى بعض أهله على ذلك وأنّ الذي أشار إلي بالاستغاثة هو الزاني.

ثم قال الرشيد: من أين قلت هذا؟

قلت: لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: ادرأوا الحدود بالشبهات، وهذه شبهة يسقط الحد معها.

قال: وأي شبهة مع المعاينة؟

قلت: ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى والحدود لا تكون بالعلم وليس لأحد أخذ حقّه بعلمه، فسجد مرة أخرى وأمر لي بمال جزيل، وأن ألزم الدار فما خرجت حتى جاءتني هدية الفتى وهدية أمّه وجماعته وصار ذلك أصلاً للنعمة ولزمت الدار فكان هذا الخادم يستفتيني وهذا يشاورني ولم يزل حالي يقوى عند الرشيد حتى قلّدني القضاء. وفيات الأعيان: 6/381.

أطماع المؤرخين

تدخّلت الاطماع في تحريك أقلام الكثير من مؤرخي التأريخ وأصحاب الفتاوى والرأي وغدو يكتبون ويفتون بما يُرضي الحكام والسلاطين الجائرين.

يقول عبدالرحمن الشرقاوي: وكان بعض المنتسبين الى الفقه والثقافة وعلوم الدين قد صانعوا حكام بني اُمية وزيّنوا لهم الاستبداد، وأفتوا لهم بأنهم ظل الله في الأرض، وأنهم لا يُسألون عما يفعلون.. وفي الحق أن الحكام الاُمويين كانوا يحسنون مكافأة هؤلاء المتملقين فيجزلون لهم العطاء، ويولّون بعضهم. أئمة الفقه التسعة: 43.

وروي أنّ الحجاج لمّا ولي تقرّب إليه أهل النُسك والصلاح والدين ببغض علي ومولاة أعدائه وموالاة من يدّعي من الناس أنهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغض من علي (عليه السلام) وعيبه والطعن فيه والشنآن له حتى أنّ إنساناً وقف للحجاج – ويقال: إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب - فصاح به: أيها الأمير، إنّ أهلي عقّوني فسمّوني علياً، وإنّي فقير بائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج فتضاحك له الحجاج، (وقال) للطف ما توسلت به فقد ولّيتك موضع كذا. شرح نهج البلاغة: 11/46.

الخوف من الحكومات الجائرة

كثير من المؤرخين كانوا يخشون على أنفسهم من الحكومات الجائرة والسلاطين الظلمة الذين كانوا يحاسبونهم أشد الحساب إن نقلوا فضائحهم في مؤرخاتهم.

وبلغ الأمر بالبعض أنه يراعي الجو العام ويكتب خلاف عقيدته مماشاة للعُرف السائد حتى لو كانت عقيدته على خلاف ذلك العرف، وكمثال على ذلك فقد أثبت محمد حسين هيكل حديث الدار في الطبعة الأولى من كتابه -حياة محمد – ص (104) ذكر حديث الدار وفيه عبارة: إنّ هذا أخي ووصييّ وخليفتي فيكم، وفى الطبعة الثانية وما بعدها من طبعات الكتاب حُذفت هذه الجملة كامله من النص. المراجعات: 189.

صور من تزييف التأريخ

لقد كان لباعة الضمير الدور الكبير في تشويه الحقائق وتزيف التاريخ، حتى بلغ بهم الأمر أنهم للحصول على المزيد من الدراهم والدنانير أخذوا يختلقون الأحاديث وينسبونها تارة للنبي (صلى الله عليه وآله) وأخرى لأحد الصحابة وثالثة لنفسه، وقد صرّح بذلك ابن تيمية على تعصّبه، فقال في منهاجه: وطائفة وضعوا لمعاوية فضائل، ورووا أحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك كلّها كذب. منهاج السنة: 2/207.

وقال العيني في (عمدة القاري): فإن قلت: قد ورد في فضله - يعني معاوية - أحاديث كثيرة، قلت: نعم، ولكن ليس فيها حديث صحيح يصحّ من طرق الإسناد. عمدة القاري: 16/248.

وقال حمّاد بن زيد: وضعت الزنادقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أربعة عشر ألف حديث. الموضوعات لابن الجوزي: 1/38.

وقال أحمد أمين في (ضحى الإسلام) مؤكداً هذه الحقيقة: أنّ الأمويين قد وضعوا ووضعت لهم أحاديث تخدم سياساتهم من نواحي متعددة، منها أحاديث في زيادة مناقب عثمان إذ كان هو الخليفة الأموي من بين الخلفاء الراشدين وهم به أكثر اتصالا من غيره، مثل حديث: أنّ عثمان تصدق بثلاثمئة بعير بأحلاسها وأقتابها في جيش العسرة، فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذا اليوم. ضحى الإسلام: 2/123.

ومن مصاديق التزييف وتحريف الحقائق ما قام به معاوية في قتل عمار بن ياسر الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّه: ياعمار تقتلك الفئة الباغية.

ولما استشهد عمار في معسكر أمير المؤمنين (عليه السلام) حدثت ضجة في معسكر معاوية، فابتدع عمر بن العاص ألعوبة قال فيها: إنا نحن لم نقتل عماراً: وإنما قتله أصحابه الذين أثوابه.

فقام ذلك في عقول أهل الشام، واتصل قوله بعلي صلوات الله عليه، فقال: لعن الله عمراً، يا لها من عقول!! إن كنّا نحن قتلنا عماراً، لأنا جئنا به، وكان معنا! فرسول الله صلوات الله عليه وآله وأصحابه قتلوا من استشهد فيهم من المسلمين. شرح الأخبار: 1/408.

وذكر ابن عدي في الكامل عند ذكر عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي قتل في زمن المهدي العباسي، وأنه أخذ لتضرب عنقه قال: وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام. ميزان الاعتدال: 2/644.

وقال العقيلي في الضعفاء الكبير بسنده عن غندر، قال: (رأيت شعبة راكباً على حمار، فقيل له: أين تريد يا أبا بسطام؟

قال: أذهب أستعدي على هذا - يعني جعفر بن زبير - وضع على رسول الله أربعمائة حديثاً كذباً. ضعفاء العقيلي: 1/118.

بل وكما في التاريخ أنّ المهدي العباسي المغرم بلعب الحمام دفع عشرة آلاف درهم إلى من يصحّح له لعبه بدليل من السنة يضعه له فقيه، فزاره غياث بن إبراهيم وروى له قول النبي (صلى الله عليه وآله): لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح، بإضافة لفظ الجناح إلى الحديث الشريف ليصحّح له لعبته ويحظى بالجائزة.

وقد أقرّ المهدي نفسه كذب هذا الوضّاع، فقال بعد رحيله: أشهد أنّ قفاك قفا كذّاب على رسول الله، ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) جناح، ولكنّه أراد أن يتقرّب إلينا. تاريخ بغداد: 12/220.

وروى أنّ خالد القسري- أحد ولاة بني أُمية - طلب من أحدهم أن يكتب له السيرة، فقال الكاتب: فإنّه يمرّ بي الشيء من سير علي بن أبي طالب، فأذكره؟

فقال خالد: لا، إلا أن تراه في قعر الجحيم. الأغاني: 59/19.

وروى عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليّي الله وصالح المؤمنين. شرح نهج البلاغة: 4/64.

وروى الزهري أنّ عروة بن الزبير، قال: حدّثتني عائشة، قالت: كنت عند رسول الله إذ أقبل العباس وعلي (عليه السلام)، فقال (صلى الله عليه وآله): يا عائشة، إنّ هذين يموتان على غير ملّتي ـ أو قال: على غير ديني؟!. شرح نهج البلاغة: 4/63-64.

و لمن أراد الإطلاع أكثر على نماذج كهذه فليراجع كتاب (العلل المتناهية في الأحاديث الواهية) و (الموضوعات) لابن الجوزي والذي لخّصه السيوطي في كتابه (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة).

ماذا عن مؤرّخي الشيعة؟

قد يتساءل البعض ويقول: لماذا لم يحفظ مؤرّخو الشيعة تراثهم وينقلوا للأجيال ما جرى عليهم من مآسي وويلات عبر العصور؟

وهل يتوقّع الشيعة من الخصم أن ينقل مثالب نفسه للأجيال ويطلعهم على سيئاته؟

الجواب: أنّ كثيراً من مؤرخي الشيعة وللأسف الشديد لم يوفّقوا لكتابة تاريخهم لأمور:

1- الخوف من جور الحكام الذين كانوا يتعقّبونهم ويترصّدونهم.

2-أنهم كتبوا ولكن مصنّفاتهم تلفت مع التراث الشيعي العظيم الذي أتلف وهو الأرجح، وكشاهد على اتلاف التراث الشيعي ننقل مانقله ابن الجوزي في (المنتظم) في أحداث سنة (420) قال: وحوّل- السلطان محود الغزنوي- من الكتب خمسين حملاً ما خلا كتب المعتزلة والفلاسفة والروافض فإنها أحرقت تحت جذوع المصلوبين إذ كانت أصول البدع. المنتظم: 4/349.

وسنفرد لظلامة إتلاف التراث الشيعي بحثاً مستقلاً بحول الله في المستقبل، ولكنّنا نقول: هذا ليس غريب على الشيعة الذين ألفوا ظلامات كهذه منذ ضاع الحق وزوي عن أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) حيث أُحرقت دار العلم وتركوا باب مدينة العلم جليس الدار حتى أنهم استغنوا عن قرآنه الذي خطّه بيده المباركة.

خلاصة القول: إنّ مؤرّخي الشيعة رغم ظروفهم الحالكة لم يقصروا عن حفظ التراث وتدوينه، ولكن محاربة الحكومات الجائرة عبر التاريخ لهذا التراث وتحريضهم للمتزلّفين كي يكتبوا المزيّفات ويدونوها كتاريخ يتناقل للأجيال عبر العصور ضيّقا علينا خناق العثور على الحقائق المهمّة، ولو أردنا ذكر الشواهد على حرص الشيعة في حفظ التراث لطال المقام بنا، ولكن يكفي في ذلك مراجعة كتب التراجم وكتابي (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) للطهراني (رحمه الله)، و (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) للسيد حسن الصدر (رحمه الله).

وبالرغم من ذلك كلّه ولكي نوصل الظلامة للعالم الأكبر فإننا سنتصيّد مابين السطور ونجمع الفلتتات والشقشقات التي بدرت من المؤرّخين لنعكس صور المظلومية التي صبّت على الشيعة عبر العصور.

كتبوا حول ظلامة الشيعة

من يراجع التأريخ يجد أنّ ظلامة الشيعة لم تعط حقّها ولم تستوف أهميّتها بالشكل المناسب الأمر الذي أدّى إلى ضياع تلك الظلامة العظيمة التي لا تضاهيها ظلامة أخرى جرت على الأمم والطوائف الأخرى.

بالطبع عدم تسليط الضوء على ظلامة الشيعة سببه أمور:

الأول: جور السلاطين وتلاعب العديد من المؤرّخين ممّن باعوا ضمائرهم لقاء فتات الدنيا وحطامها.

الثاني: تقصير وقصور الشيعة الذين استسلموا للأمر الواقع وتقبّلوا الظلامة التي جرت عليهم ولم يوصلوا ظلامتهم للعالم الأكبر.

الثالث: جهل كثير من الشيعة بما جرى على أسلافهم وعدم اعتقادهم بجدوائية تدوين الظلامة في رفع الظلم والجور عنهم.

نعم هناك بعض الكتابات المبعثرة هنا وهناك حول ظلامة الشيعة وماجرى عليهم من مآسي وويلات ولكن هذه الكتابات لا تخلو من بعض الملاحظات ومنها:

1- أنّ بعض المؤرّخين أشاروا إلى بعض ما جرى على الشيعة ولكن مع التحامل عليهم والحرص على تصويرهم على أنّهم هم السبب في مالاقوه من ظلامات، والتعمّد في تبرئة ساحة الحكام الظالمين الذين كانوا يتفنّون في ظلم الشيعة، وكانت تلك الكتابات بمثابة (فلتات الأقلام) المختصرة.

2- كتب البعض حول ظلامة طوائف من الشيعة ولكنه لم يعط البحث حقّه واقتصر على بُعد خاص من الظلامة، وعلى سبيل المثال فقد كتب أبو الفرج الأصفهاني كتابه المعروف (مقاتل الطالبيين) الذي استقصى فيه مجموعة من الظلامات التي جرت على الطالبيين خاصة ولم يتعرّض إلى ما جرى على عامّة الشيعة.

وفي العصور الأخيرة كتب العلامة الأميني (رحمه الله) كتابه المعروف (شهداء الفضيلة) وتعرّض فيه إلى بعض الشهداء من علماء الشيعة.

وكتب بعض المعاصرين موسوعة باسم (موسوعة العذاب) تعرض فيها أنواع العذاب ومن ضمنها العذاب الذي لاقاه بعض الشيعة عبر العصور.

وعلى أيّ حال فإنّ ظلامة الشيعة لم تعط حقّها ولم تسلّط الأضواء عليها بالشكل المناسب، ولذا وجدت من الجدير أن أكتب شيئاً من هذه الظلامة-رغم قلّة بضاعتي وكثرة انشغالاتي وضخامة المشروع وعظم المسؤولية- ليكون ذلك بمثابة الهمسة في أُذن الشيعة المظلومين لعل أحدهم يتصدّى لهذا الموضوع البالغ في الأهميّة فيعطيه حقّه ويستقصي هذه الظلامة العظيمة ويوصلها إلى العالم الأكبر.

اضف تعليق