q
تأثير الاستعمار الأوروبي، مثل تحديا وجوديا خطيرا ومتعاظما في المنطقة العربية والإسلامية في العصر الحديث، ووضع مصير هذه المنطقة على محك الوجود والبقاء، وأصبحت هوية الأمة أمام تهديد هو الأخطر من نوعه على الإطلاق، فقد ظلت تتعرض لكل أشكال وأنماط وسياسات المسخ والتمزق والتدمير والتذويب والاستتباع...

في المجال العربي الحديث والمعاصر هناك بعض المحطات التي يمكن أن يؤرخ لها بوصفها المحطات الأهم في تاريخ تطور وتجدد الجدل والنقاش حول فكرة الهوية، وتحددت هذه المحطات بصورة رئيسة في خمس محطات، هي:

المحطة الأولى:

حصلت هذه المحطة في ظل تأثير الاستعمار الأوروبي، الذي مثل تحديا وجوديا خطيرا ومتعاظما في المنطقة العربية والإسلامية في العصر الحديث، ووضع مصير هذه المنطقة على محك الوجود والبقاء، وأصبحت هوية الأمة أمام تهديد هو الأخطر من نوعه على الإطلاق، فقد ظلت تتعرض لكل أشكال وأنماط وسياسات المسخ والتمزق والتدمير والتذويب والاستتباع.

وقد أحدث الاستعمار الأوروبي شرخا في الهوية وتمزقا، ما زالت آثاره وتداعياته باقية وموجودة إلى اليوم، وتظهر تجلياته في ميادين عدة منها ميادين اللغة والتعليم والثقافة، وحتى في أنظمة السلوك الفردي والاجتماعي، وفي أنماط العيش، وطرق إدارة الحياة.

ويكفي للدلالة على ذلك، الجدل المستمر حول الهوية في مثل هذه المجتمعات، على صورة ما حصل ويحصل في مصر والجزائر وتونس والمغرب وغيرها من الدول المستعمرة.

المحطة الثانية:

حصلت هذه المحطة مع انسلاخ تركيا عن المحيط الإسلامي، والتحاقها بالمحيط الأوروبي في العقد الثالث من القرن العشرين، الحدث الذي كان له وقع الصدمة، وترك ارتدادات واسعة وكبيرة في المنطقة العربية والإسلامية، وذلك بحكم زعامة تركيا للعالم الإسلامي في ظل الخلافة العثمانية.

هذا الحدث الذي قلب صورة العالم الإسلامي، وحوله إلى أجزاء مفككة، كان وثيق الصلة بفكرة الهوية، ويمكن اعتباره أهم حدث له علاقة بفكرة الهوية حصل في المجال الإسلامي الحديث، فقد اندفعت تركيا بمغامرة كبيرة وغير محسوبة نحو تغيير صورتها، والانسلاخ عن هويتها، من الصورة التي تجعلها قريبة ومتناغمة مع المجال الإسلامي الذي كانت في قلبه ومركزه، إلى الصورة التي جعلتها قريبة ومتناغمة مع المجال الأوروبي، الذي كانت في طرفه وهامشه.

وترتب على هذا التحول، تبني سياسات لغوية وثقافية واجتماعية جاءت سريعة وصارمة، ولها علاقة بفكرة الهوية، كان أشدها حساسية وخطورة تحويل اللغة التركية من استعمال الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، وذكرت بعض المصادر في هذا الشأن أنه قد تم تشكيل هيئة خاصة باللغة مهمتها تنقية اللغة التركية من الكلمات والتعابير والاصطلاحات العربية والفارسية، واستبدالها بأخرى يتم اشتقاقها من اللغة التركية الأم القديمة، التي كانت تتحدث بها القبائل التركية قبل الإسلام، وتنشد بها أغانيها الشعبية، وتردد الأمثال المتوارثة.

لكن الذي لم يكن في البال، أن تركيا أدخلت نفسها في مشكلة مع الهوية، ولم تستطع الخروج منها، وبقيت في نزاع مستمر معها لم ينقطع أو يتوقف، وظل هذا النزاع ينبعث ويتجدد من وقت لآخر، حتى أصبحت تركيا تمثل أفضل نموذج سهل ومهم لمن يريد دراسة مشكلة الهوية في المجال الإسلامي الحديث، وفي أكثر تجلياتها وضوحا وظهورا، خاصة أن تركيا اليوم تظهر وكأنها ترتد إلى هويتها الإسلامية، التي طالما جاهدت وكابدت في سبيل الاقتلاع منها، والانقطاع عنها.

المحطة الثالثة:

حصلت هذه المحطة بتأثير ما عرف بتحدي الحداثة، التي اتخذت من الثقافة الأوروبية مرجعية لها، تستند إليها، وترتكز عليها، وتتحصن بها، وتتفاعل معها على طول الخط، وحسب رأي الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (التراث والحداثة)، أن الحداثة في الفكر العربي المعاصر تستوحي أطروحاتها، وتطلب المصداقية لخطابها من الحداثة الأوروبية، التي تتخذها أصولا لها.

هذه الحداثة بالاندفاع الذي كانت عليه، وجدت في الهوية عقبة مانعة أمام تمددها وتقدمها وانتشارها في الميادين كافة، الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، وبهذه الطريقة تكون الحداثة قد وضعت نفسها وجها لوجه أمام الهوية، وتعاملت معها بنوع من التعالي والفوقية، وظلت تسلب منها مزاياها ومحاسنها، وتنعتها بأوصاف من قبيل التقليدية والماضوية والبالية والجامدة، وبكل النعوت الأخرى التي تقابل وتباعد معها.

والحاصل أن أهل الحداثة وجدوا في الهوية عقبة ومانعا، في المقابل وجد أهل الهوية في الحداثة اختراقا واستلابا، وكان موقف أهل الحداثة يتسم بحالة الاندفاع، بينما اتسم موقف أهل الهوية بحالة الدفاع.

وبحسب هذا الحال فإن الحداثة هي التي تسببت في إجهاض مهمتها، وذلك بالطريقة التي تعاملت بها مع فكرة الهوية في الأمة، الطريقة التي دفعت بالهوية نحو التحصن، واتخاذ موقف الممانعة، واستشعار حالة الخطر، والهويات في مثل هذه الحالة، عادة ما تكون عصية على القهر أو الغلبة أو الاختراق.

المحطة الرابعة:

حصلت هذه المحطة في مصر، في أزمنة متفرقة لكنها اشتدت وتصاعدت في ثلاثينات القرن العشرين، ويعد الدكتور طه حسين (1306-1393هـ/1889-1973م)، أحد أكثر الأدباء المصريين آنذاك إثارة للجدل والنقاش حول فكرة الهوية في مصر، واستطاع أن يفجر معارك فكرية وصفت بالحادة والساخنة، تجاوزت حدود مصر، وامتدت إلى مناطق عدة في العالم العربي، الذي كان يتأثر بكل ما يجري في مصر من أحداث سياسية وأدبية وثقافية.

هذا الجدل والنقاش الذي أثاره الدكتور طه حسين حول فكرة الهوية، حصل في فترتين من حقبة ثلاثينات القرن العشرين، الفترة الأولى خلال النصف الأول من تلك الحقبة، مع المقالة التي نشرها في صحيفة (كوكب الشرق) سنة 1933م، والفترة الثانية خلال النصف الثاني من تلك الحقبة، مع صدور كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر) سنة 1938م.

في مقالة صحيفة (كوكب الشرق)، وضع طه حسين العرب إلى جانب الفرس واليونان والترك والفرنسيين الذين أذاقوا المصريين ألوانا من البغض والعدوان، وحسب قوله: (إن المصريين قد خضعوا لضروب من البغض، وألوان من العدوان، جاءتهم من الفرس واليونان، وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين).

وحين يصف المؤرخون المعاصرون ما أحدثته هذه المقالة من أثر آنذاك، يقولون: لقد هبت العاصفة بعد هذه العبارة، واستمرت أكثر من ثلاثة شهور وقود الصحف، لم يتوقف على اختلاف ألوانها في مصر والبلاد العربية.

وفي 7 سبتمبر 1933م ذكرت صحيفة (المقطم) (1306-1371هـ/1889-1952م) المصرية، أن بعض الجمعيات الثقافية والأدبية بدمشق قررت على أثر تلك المقالة أن تنتهج حيال كتب الدكتور طه حسين، نهج النازي الألماني تجاه الكتب المعاكسة للقومية، وأنهم قرروا دعوة الجمعيات الأدبية والسياسية في العراق وفلسطين، وجميع الأقطار العربية إلى مقاطعة كتب طه حسين، وإن هذه الطريقة ستتبع مع كل كاتب مصري يطعن في القومية العربية، ويشجع الروح الشعوبية.

وكتبت صحيفة (فتى العرب)، أن قرار الجمعيات الثقافية والأدبية في دمشق، سينفذ في البلاد العربية كافة، ويهدف إلى إخراج مؤلفات طه حسين من المكاتب، واعتبارها ممنوعة التداول في البلاد العربية، لمخالفتها روح القومية المنتشرة في بلاد العرب، وتهجم صاحبها على حرمة التاريخ.

وفي كتاب (مستقبل الثقافة في مصر)، دعا طه حسين إلى ربط مصر بحضارة البحر الأبيض المتوسط، لتكون قطعة من أوروبا، وحسب قوله: إن السبيل واضحة وبينة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي واحدة فذة ليس لها تعدد، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب.

ويعد هذا الكتاب، أحد أهم المؤلفات الحديثة التي ناقشت فكرة الهوية في مصر، وفتح في هذا النطاق جدلا وسجالا حادا، فهناك من وجد فيه أنه ينزع صراحة نحو تغريب هوية مصر، وفصلها عن هويتها العربية والإسلامية، وربطها بهوية البحر الأبيض المتوسط الأوروبية، ومن هذه الجهة يرى الدكتور محمد عمارة في كتابه (أزمة الفكر الإسلامي المعاصر) أن هذا الكتاب حوى أشد أراء الدكتور طه حسين المتغربة استفزازا للعقل المسلم، وعبرت بعض صفحاته عن أكثر أصوات التغريب علوا وصراحة بعد كتابات سلامة موسى.

في المقابل هناك من وجد في هذا الكتاب، أنه يقدم تصورا إنسانيا منفتحا لهوية مصر، ويضع مصر على طريق التفاعل الثقافي والإنساني، رابطا مستقبلها الثقافي بثقافة البحر الأبيض المتوسط، وفي ظن الدكتور جابر عصفور في كتابه (الهوية الثقافية والنقد الأدبي) أنه ليس هناك مفكر عربي استطاع أن يصوغ نظريا، نموذجا مفهوميا متكاملا عن الهوية الثقافية المنفتحة مثل طه حسين في كتابة (مستقبل الثقافة في مصر).

المحطة الخامسة:

حصلت هذه المحطة بتأثير تحدي العولمة، وحصل فيها ما يشبه الانقلاب الجذري في تطور وتجدد الجدل والنقاش حول فكرة الهوية في المجال العربي الحديث.

هذه لعلها هي أبرز المحطات، التي حصل فيها تطور وتجدد الجدل والنقاش حول فكرة الهوية في المجال العربي الحديث، وبلغت ذروتها في ما نعاصره اليوم، وذلك بتأثير موجة العولمة، التي جعلت العالم برمته يتحسس هم الهوية، وتحولت من كونها تمثل هما خاصا، إلى كونها تمثل هما عاما عابرا بين المجتمعات الإنسانية كافة.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

اضف تعليق