q
مع أحداث بهذا الحجم الهائل من الدمار.. نتوقع الكثير من التصورات الخطأ، فالناس عادةً ما يقعون تحت طائلة ما يسميه علماء النفس "تحيُّز التناسب".. الذي يعني تصور أن الأحداث الكبرى مثل الوباء أو الزلزال لها مسببات كبرى وليست مجرد عمليات طبيعية تحدث من حينٍ إلى آخر...
بقلم: شادي عبد الحافظ

منذ اللحظة الأولى التي أُعلنَ فيها عن تعرُّض جنوبي تركيا وشمالي سوريا لزلزال بمقياس 7.8 درجات، ثم آخر بعد تسع ساعات فقط بمقياس 7.5 درجات، انتشرت آلاف الخرافات والشائعات عن الزلازل في كل مكان بالعالم العربي، بقي بعضها في نطاق الفهم الخطأ الشائع للظواهر الطبيعية، وتخطى البعض الآخر حاجز المنطق قافزًا إلى عالم الخرافات ونظريات المؤامرة.

لكن قبل الخوض في استعراض تلك النقاط، نبدأ أولًا بفهم ماذا نعني بالزلزال، ما يحتاج منا أن نسافر إلى باطن الأرض التي تتكون من عدة طبقات أشبه بثمرة البصل، إلا أنه على عكس ثمرة البصل، فإن طبقات الأرض متفاوتة السماكة، وأرق هذه الطبقات القشرة التي يبلغ سُمكها حوالي 40 كيلومترًا في المتوسط، إذ تزيد عن هذا في مناطق وتنقص في أخرى.

قوة ضاربة من باطن الأرض

تتكون القشرة التي تغلف الأرض من عدة قطع متداخلة فيما بينها (الصفائح) مثلما تتداخل قطع الأحجية الورقية، وهي غير ثابتة، بل تسبح على الطبقة التي تقع أسفلها (الوشاح)، وبالفعل تتحرك كل عام عدة سنتيمترات، الأمر الذي يكون بطيئًا جدًّا فلا نشعر به، قد تتقارب تلك الصفائح أو تتباعد، وقد تلتحم وتنزلق أطرافها ببطء وسلاسة بعضها قبالة بعض بصور مختلفة.

إلا أن ذلك لا يحدث طوال الوقت، ففي أحيان أخرى قد تلتحم بدرجة من القسوة الشديدة إلى درجة تحطُّم الصخور تحت سطح الأرض، ما يخلق قدرًا من الطاقة يعادل عشرات الآلاف من الأطنان من مادة ثلاثي نترو التولوين (TNT) المتفجرة، وهذا هو سبب وقوع معظم الزلازل، مثل زلزال تركيا وسوريا، والواقع أن هذه المنطقة تحديدًا من العالم توجد في نقطة تلتقي فيها أربع صفائح تكتونية، فتركيا تقع على صفيحة الأناضول التي تتأثر بضغط مستمر من الصفيحة الأوراسية التي تحيطها من الشمال والشرق، والصفيحة العربية من الجنوب وكذلك الصفيحة الأفريقية، ما يتسبب في حدوث زلازل كبرى من هذا النوع من حينٍ إلى آخر.

إلا أن هذا تحديدًا كان الزلزال الأكبر منذ زلزال أرزنجان الذي ضرب شرقي تركيا في 27 ديسمبر عام 1939، بمقياس 7.8 درجات، مسببًا مقتل حوالي 33 ألف إنسان، في حين تجاوزت أعداد قتلى الزلزال الحالي -حتى لحظة كتابة هذه الكلمات- 50 ألف إنسان.

كيف تقاس قوة الزلازل؟

ولفهم حجم تلك الكوارث يمكن أن نتعرف إلى طبيعة مقياس الزلزال، إذ استُخدم "مقياس ريختر" في السابق، لكن العلماء الآن يستخدمون "مقياس العزم الزلزالي"، وكلاهما متقارب، لكن الأخير أدق، خاصةً في الزلازل الكبرى، ويشير مقياس الزلزال بشكل عام إلى قدر الطاقة التي تُطلق في أثناء حدوث الزلزال، لكن هناك ملحوظة مهمة، وهي أن تصاعُد مقاييس الزلازل يكون عادةً لوغارتميًّا، أي أن صعود مقياس زلزالٍ ما من 5 إلى 6 إلى 7 لا يعني انتقالًا مثل درجات السلم، بل قفزات تتسع كلما صعدنا إلى الأعلى، فالزلزال بمقياس 7 درجات أكبر بعشرة أضعاف من زلزال بمقياس 6 درجات، وأكبر بمئة ضعف من زلزال بمقياس 5 درجات!

يوضح ذلك أن كل كسر عشري بسيط في مقياس الزلزال يعني قفزةً هائلةً في حجم الكارثة، وبشكل عام تُعد الزلازل فوق 7 درجات شديدة إلى كارثية، يمكنها أن تدمر البنايات، أما الزلازل من 6 درجات إلى 7 فتُعد قويةً ويمكنها إحداث الأضرار لكن ليس بمستوى جذري، ولكن الزلازل تحت 6 درجات عادةً ما لا تؤثر بشكل كبير في البنية التحتية، لكن يظل من الممكن للناس أن يستشعروا أثرها.

وعادةً ما يختبر السكان في المنطقة التي تقع أعلى بؤرة الزلزال أكبر ضربةٍ منه، وتسمى تلك المنطقة بمركز الزلزال السطحي، بينما تتناقص قوة الزلزال كلما ابتعدنا، في حالة زلزال تركيا وسوريا كان المركز السطحي للزلزال بين مدينتي غازي عنتاب وقهرمان مرعش التركيتين، وهي للأسف المناطق التي تلقت أسوأ الضربات، وهناك أحياء كاملة سُويت بالأرض.

أحداث كبرى ومفاهيم مغلوطة

ومع أحداث بهذا الحجم الهائل من الدمار يمكن أن نتوقع الكثير من التصورات الخطأ عن العلم الخاص بها، يحدث هذا بشكل دائم، فالناس عادةً ما يقعون تحت طائلة ما يسميه علماء النفس تحيُّز التناسب، الذي يعني تصوُّر أن الأحداث الكبرى مثل الوباء أو الزلزال لها بالضرورة مسببات كبرى، وليست مجرد عمليات طبيعية تحدث من حينٍ إلى آخر.

يميل الناس مثلًا إلى تصور أن الزلازل تميل إلى الحدوث صباحًا، لكن ذلك -وفق الدراسات الإحصائية التي جمعتها جهات مختصة مثل هيئة المسح الجيولوجية الأمريكية- غير صحيح، ويمكن أن يكون السبب الذى يقف وراءه أن الناس عادةً يميلون إلى التأثر بشكل أكبر بالزلازل التي تحدث بينما الضحايا نائمون، إذ تكون بالفعل ذات أثر أكبر، الأمر الذي يلفت انتباه الناس حول العالم أكثر من أي شيءٍ آخر، وإلى جانب ذلك فإننا عادةً ما نميل إلى تكبير شأن الأحداث التي وقعت ونحن نائمون؛ إذ نستيقظ وقد تغير العالم من حولنا.

ويجري ذلك على أشياء مثل الطقس، فيميل الناس إلى تصور وجود ارتباط بين الطقس الغائم أو البارد وحدوث الزلازل، إلا أن ذلك أيضًا غير صحيح، لكن في هذه النقطة تحديدًا أشارت بعض الدراسات إلى أن هناك صلة محتملة بين بعض الظواهر المناخية مثل الأعاصير أو الأمطار الشديدة أو الجفاف الشديد وحدوث الزلازل، لكن إلى الآن فإن هذا الرابط غير مؤكد، إلى الآن تقول البيانات الإحصائية إن الزلازل تميل إلى الحدوث في الصيف وكذلك الشتاء، وفي كل ظروف الطقس.

بين الحيوانات والبشر

وينتقل الأمر إلى خرافات أكثر تعقيدًا، فمثلًا يتصور البعض أنه يمكن لأحدهم أن يصاب بالغثيان أو الصداع أو طنين الأذن أو حتى الرؤى أو الأحلام المرعبة قبيل حدوث الزلزال، وهو ما يسمى بـ"الحساسية للزلازل"، وهو الاصطلاح الذي ظهر قبل عدة عقود للتعبير عن أناس ذوي قدرة على استشعار قرب الزلازل، لكن ذلك أيضًا يظل علمًا زائفًا لا يقوم على دلائل تؤكد صحته.

إلا أن الأمر بالنسبة للحيوانات مختلفٌ قليلًا، فهناك مشاهدات موثقة بالفعل من قبل آلاف السنوات على سلوك غريب لبعض الطيور والحيوانات قبيل حدوث الزلازل، في الواقع لقد فحصت دراسة نُشرت في يوليو 2020 بدورية "إيثولوجي" هذه الظاهرة، إذ ربط فريق -بقيادة علماء من معهد ماكس بلانك لدراسة سلوك الحيوان في مدينة رادولفتسل الألمانية- أطواق استشعار تقوم بحساب حركات الأغنام والكلاب والأبقار في مزرعة إيطالية توجد في منطقة معرضة للزلازل لعدة أشهر، حيث شهدت المنطقة أكثر من عشرة زلازل بقوة 4.0 درجات، أفادت نتائج الدراسة بأن الحيوانات أظهرت سلوكيات حركية ليست معتادة استمرت لمدة ثلاثة أرباع الساعة، وبدأت قبل حدوث الزلزال بـ20 ساعة كاملة.

الدراسات في هذا النطاق لا تزال أوّلية، ولا يمكن للعلماء إعطاء تأكيدات بعد، لكن في هذا السياق نقطة مهمة، وهي أنه حتى مع هذه الأرصاد فلا يمكن استخدام الحيوانات للتنبؤ بحدوث الزلازل، ببساطة لأنه لا يمكن تكرار نتائج استشعارها بقرب الزلزال، بمعنى أن مجموعة من الحيوانات قد يتغير سلوكها قبيل حدوث زلزالٍ ما، لكنها لا تتصرف بشكل مختلف قبيل حدوث زلزالٍ آخر، كما أن سلوكها يمكن أن يتغير في حالة عدم وجود زلزال على الإطلاق.

تقع المنطقة التى حدث فيها الزلزال في نقطة إلتقاء أربع صفائح تكتونية، فتركيا تقع على صفيحة الأناضول التي تتأثر بضغط مستمر من الصفيحة الأوراسية التي تحيطها من الشمال والشرق، والصفيحة العربية من الجنوب وكذلك الصفيحة الأفريقية، ما يتسبب في حدوث زلازل كبرى من هذا النوع من حينٍ إلى آخر. Credit: Public Domain

التنبؤ بالزلازل

في الواقع، فإن العلماء لا يمتلكون حتى لحظة كتابة هذه الكلمات أي أدوات أو نماذج نظرية يمكن لها التنبؤ بالزلازل، الأمر الذي يعني أن يتمكن أحدهم من تحديد الموعد الدقيق والمقياس والمكان الذي سيحدث فيه زلزالٌ ما.

السبب في ذلك أن وقوع زلزالٍ ما يتحدد بعدد كبير من المعايير التي لا يمكن للعلماء إحصاؤها في نموذج واحد، فمثلًا يمكن أن تتداخل الصفائح التكتونية بعنف في أي مكان على مدى عشرات الآلاف من الكيلومترات، ويمكن لهذا الاحتكاك أن يحدث في أي نقطة على ارتفاع القشرة الأرضية، ويتأثر الزلزال بطبيعة الصخور مثلًا، فقد تحتك الصخور معًا في باطن الأرض بعنف لكنها تكون رطبةً بما يكفي لتحمُّل الضغط، أما لو كانت جافة فستتحطم بصورة أسرع.

وإلى جانب ذلك فإن هناك معايير تتعلق باختلاف الجاذبية الأرضية من مكانٍ إلى آخر، وطبيعة طبقة الوشاح نفسها، وطبيعة حركة الصفائح التكتونية التي لا يفهمها العلماء بشكل واضح بعد، كل تلك العوامل تتداخل معًا لجعل التنبؤ بالزلازل أمرًا غير ممكن حتى اللحظة.

لكن العلماء لم ييأسوا، ولا تزال هناك محاولات جادة لتطوير قدرتنا على التنبؤ بالزلازل، على سبيل المثال لا الحصر، كانت دراسة قد نُشرت في 2019 بدورية "ساينس أدفانسيس"، أشارت إلى أنه بعد فحص الزلازل الكبرى في قواعد بيانات عالمية خلال عقدين مضيا، فإن هناك تغيرًا جيولوجيًّا واضحًا يسبق موجات الزلازل الكبرى (بمقياس 7 درجات فما فوق) بمقدار يصل إلى 15 ثانية، بطبيعة الحال هذا ليس كافيًا، لكنه يحسِّن يومًا بعد يوم آليات الاستجابة للزلازل.

الزلازل لا تحدث أكثر من أي وقت مضى

وإلى جانب ما سبق، يبقى أن أكثر الشائعات انتشارًا في مصر والعالم العربي حاليًّا هي تلك التي تتعلق بظن الناس أن أعداد الزلازل باتت في زيادة مؤخرًا، وبالفعل فإنك كثيرًا ما ستقرأ عن بيان من المعهد القومي للبحوث الفلكية والچيوفيزيقية في مصر عن زلزال من حينٍ إلى آخر، ولو أنك تأملت قوائم الزلازل العالمية فستجدها خلال العقود القليلة الفائتة أكبر مما سبقها، لكن ذلك لا يتعلق بأعداد الزلازل نفسها؛ فعددها مستقر إحصائيًّا وفق الدراسات في هذا النطاق، بل دقة أجهزة القياس وانتشار محطات رصد الزلازل، إذ يتعرض كوكب الأرض سنويًّا لأكثر من 500 ألف زلزال يمكن لأجهزة القياس التقاطها.

أضف إلى ذلك نقطةً أخرى تتعلق بالتطور الرقمي الذي يشهده العالم مؤخرًا، كل الهيئات الحكومية تقريبًا لها منصة على الإنترنت وصفحة على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي تنتشر أخبار الزلازل سريعًا، ويعرف كل شخص أن ما شعر به قبل عدة ساعات من اهتزاز لم يكن من بناء خيالاته، بل هو زلزال خفيف، وبالتبعية يكتب عن الأمر في تغريدة أو يتحدث عنه في مقطع فيديو قصير على إنستجرام، وينتشر الأمر، يعني ذلك أن ما ارتفع ليس أعداد الزلازل، بل وعينا بها.

الزلازل الكبرى

لكن ما سبق لا يعني أن الزلازل الكبرى تحدث بمعدلات كبرى، في الواقع فإن الأرض قد اختبرت في عام 2021 مثلًا حوالي 2200 زلزال فوق مقياس 5، لكن أقل من 20 منها فقط كانت بمقياس 7 فأعلى، تنخفض احتمالات الزلازل كلما كانت أقوى، وإلى الآن سجل أقوى زلزال في العالم بمقياس 9.5 درجات في 22 مايو 1960 بفالديفيا في دولة تشيلي، تسبب هذا الزلزال في موجات تسونامي عبرت المحيط الهادي إلى أستراليا واليابان.

لكن على عكس الشائع بين الناس، فإن العلماء في هذا النطاق لا يعتقدون أن الزلازل بمقياس 10 أو أكبر يمكن أن تحدث؛ لأن قوة الزلازل عادةً ما تتعلق بطول الصدوع التي تسببت فيها، ولا يمكن أن يكون هناك صدع بطول يكفي لحدوث زلزال بهذا الحجم، لكن لو ظهر أن العلماء كانوا مخطئين وحدث هذا الزلزال يومًا ما، فإنه سيهز كامل الكرة الأرضية!

يعني ذلك أن الزلازل الغارقة في كمٍّ هائل من الإثارة، والتي تعرضها الأفلام السينمائية غير محتملة، والواقع أن السينما بشكل عام قد أخطأت في الكثير مما قدمته عن الزلازل، لكن أشهرها لا شك هو تسبُّب الزلازل في انشقاقات أرضية يمكن أن تبتلع منازل بل ومدنًا كاملة، لكن في الواقع فإن الزلازل لا تخلق شقوقًا بهذا الشكل في القشرة الأرضية، وإن فعلت فستكون شقوقًا ضحلة وبسيطة.

مؤامرات هارب

وقد يتطور الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ يظن البعض أن زلازل بهذا الحجم يمكن أن تكون مفتعلة، وقد دار بالفعل نقاش على وسائل التواصل الاجتماعي العربية عن مشروع هارب الأمريكي، الذي يُعد أكبر أجهزة الإرسال حول العالم من حيث الطاقة والتردد، ويتكون من مصفوفة من 180 هوائيًّا قادرة على إشعاع 3.6 ميغاواط من الطاقة في الغلاف الجوي العلوي.

لكن هارب بالأساس هو مشروع لدراسة طبقة الأيونوسفير من الغلاف الجوي، حيث توجد إلكترونات وأيونات حرة يمكن أن تتفاعل معها موجات الراديو القادمة من هارب، ولا يتعلق الأمر بالزلازل التي تتعلق بعمليات جيولوجية تقع أسفل الأرض.

مشروع هارب تحديدًا لاقى الكثير من الاتهامات المتعلقة بنظرية المؤامرة منذ عقود، ظن الناس أنه مركزٌ للتحكم في الطقس والحرب وسلوكيات البشر والزلازل والبراكين والأعاصير، لكن في الحقيقة فإن المشروع ليس سريًّا، ويمكن لأي شخص تحديد موعد قبل زيارته، سواء كان هذا الشخص مواطنًا عاديًّا أو عالِمًا، كذلك فإن هارب ليس الوحيد، الصين لديها مشروعٌ شبيه، وكذلك دول الاتحاد الأوروبي، وروسيا لها مشروع شبيه وتتعاون مع الصين.

في النهاية فإن الكوارث تحدث، يتعرض العالم سنويًّا لكوارث من هذا النوع، وخلال كل عدة عشرات من السنوات يلاقي جائحة مُميتة، وحتى مدار الأرض نفسه وحركته في الفضاء تتغير كل عدة عشرات من الآلاف من السنوات لتحدث تغيرات مناخية جذرية، إنها فقط طبيعة كوكبنا، وقد برعنا في التكيف، والتعامل بذكاء معها على مدى مئات الآلاف من السنين.

اضف تعليق