q
ولكي تزدهر الديمقراطية، تحتاج إلى مساحات مفتوحة حيث يمكن للناس التحدث والاختلاف والتناقض مع بعضهم البعض وإيجاد حلول مشتركة. وفي الماضي، كان لدينا ساحات عامة وغرف منتخبة وجامعات ومقاهي. وعندما ظهر الإنترنت لأول مرة، كان يحمل وعدًا بتوسيع هذه المنتديات على المستوى العالمي. ولكن صعود المنصات الكبرى أعاق الطريق...
بقلم: مارغريت فيستاجر

بروكسل- خلال الأشهر المقبلة، ستدخل قوانين جديدة -هي الأولى من نوعها في أي مكان في العالم- حيز التنفيذ في أوروبا لِمساءلة شركات التكنولوجيا الكبرى إزاء المجتمعات حيث تمارس نشاطها. وحتى الآن، سمعنا جميعًا عن المخاطر التي تشكلها المنصات الشبكية الكبرى على حياتنا، وديمقراطياتنا، وصحة أطفالنا العقلية، والمنافسة الاقتصادية. والآن، يتخذ الاتحاد الأوروبي بعض الإجراءات حيال ذلك.

وتُتبع نفس المناهج الأساسية لإثارة كل هذه المخاطر. إذ تضيق الخوارزميات نطاق المحادثات لتقتصر على مجموعات صغيرة من "الأصدقاء" الذين حُددت بياناتهم، بينما يقوم "حراس البوابة" بتضييق نطاق الأسواق الشبكية لمصلحتهم. ومع هذا التضييق من المحتمل أن نفقد المسار نحو سائر أنحاء العالم والأسواق الأوسع طاقا من حولنا.

ومنذ عقود مضت، غالبا ما كانت المنصات التكنولوجية تتمتع بحرية التصرف، ولم تكن تخضع لقوانين تشريعية تحد من حريتها حيث كانت تسيطر بصورة متزايدة على قنوات المعلومات العالمية. ولكن ذلك بدأ يتغير منذ بضع سنوات، عندما قاد الاتحاد الأوروبي جهدًا عالميًا لاستعادة بعض التوازن للاقتصاد الرقمي، من خلال ضمان العدالة والحماية الأساسية للأشخاص.

وكانت الخصوصية هي أكثر ما يثير القلق. إذ نظرا لكون المنصات الرئيسية تزيد من عائداتها لتصل إلى مستويات قياسية من خلال جمع بيانات المستخدم، بدأ يتضح أن مفهومنا للخصوصية يحتاج إلى التحديث. وهكذا أصبحت الخصوصية حقًا لا يقبل التفاوض لكل فرد في أوروبا. وكمواطنين، فقط نحن- نضع الآن حدودًا لما نتقاسمه أولا نتقاسمه من المعلومات التي تتعلق بنا.

إن هذا الفهم للخصوصية على أنها حق أساسي مُكرس في اللائحة التنظيمية المتعلقة بحماية البيانات العامة للاتحاد الأوروبي لعام 2016. ومن خلال هذه اللائحة، كانت أوروبا تحدد مسارًا للديمقراطية حتى تواكب التكنولوجيا. واليوم، ليس هناك عودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل سن هذا القانون. فمنذ سنه، استلهمت ولايات قضائية أخرى حول العالم من هذا التشريع التاريخي للاتحاد الأوروبي لتضع أطرا مماثلة.

ومباشرة في أعقاب مبادرة خصوصية البيانات الأولية هذه، انكشفت فضيحة "كامبريدج أناليتيكا"، عندما علمنا أن فيسبوك قد شارك 87 مليون ملف تعريف مستخدم مع باحث قام بعد ذلك بتقديم هذه البيانات إلى شركة استشارية سياسية كانت تعمل من أجل حملة دونالد ترامب الرئاسية لعام 2016. وفجأة، بدأنا جميعًا نتساءل عما إذا كانت حياتنا الرقمية آمنة، وإلى أي مدى يتم مراقبتنا والتأثير علينا والتلاعب بنا عبر الإنترنت.

وشيئا فشيئا، بدأ ينهار جدار الحياد الزائف الذي كانت المنصات تختبئ خلفه- مدعية في كثير من الأحيان أنها مجرد "أنابيب" لنقل المعلومات. وأصبح يتضح أكثر فأكثر أن شركات التكنولوجيا الكبرى يجب أن تتحمل المسئولية عن المحتوى الذي تنشره هي وخوارزمياتها إلى الجسم السياسي. لقد استجبنا بتأكيد هذه المسؤولية بصوت عالٍ وواضح في قانون الخدمات الرقمية، الذي عرض لأول مرة في ديسمبر/ كانون الأول 2020.

إن قانون الخدمات الرقمية هو العنصر الأساسي في تشريعات الاتحاد الأوروبي الذي سينظم قريبًا كيفية التعامل مع المحتوى على المنصات الرقمية الرئيسية. إذ يتطلب من المنصات إزالة جميع المحتويات غير القانونية، مع ضمان عدم المساس بحرية مستخدميها في التعبير. كما ينظم أيضًا الطريقة التي تستخدم بها المنصات للخوارزميات لتحديد ما نفعله ولا نراه. ونحن حاليًا بصدد تحديد المنصات الكبرى ومحركات البحث التي ستخضع لأحكام قانون الخدمات الرقمية هذه قبل أن تدخل حيز التنفيذ في خريف هذا العام.

وآخر مشكلة رئيسية سيعالجها التشريع الرقمي الجديد للاتحاد الأوروبي هي عدم وجود منافسة سليمة في قطاع التكنولوجيا. فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، رفع المنظمون قضايا كبيرة ضد منصات شبكية كبرى، زاد بعضها من وعي عامة الناس بالقوة السوقية غير الضرورية للمنصات. ولكن نظرًا لأن الأسواق الرقمية زادت تعقيدًا، فقد احتجنا إلى أدوات نظامية جديدة لتكملة أدوات مكافحة الاحتكار المعتادة.

وصيغ قانون الأسواق الرقمية لتلبية هذه الحاجة. فهو يتضمن قائمة بـ "ما يجوز وما لا يجوز فعله" من أجل منع ما يسمى بمنصات "حراسة البوابة" من إساءة استغلال موقعها في الأسواق الرقمية، وإفساح المجال أمام الوافدين الجدد للتنافس مع الشركات القائمة على أساس الجدارة. وتمامًا كما سيوضح قانون الخدمات الرقمية مسئوليات المنصات تجاه مستخدميها، سيحدد قانون الأسواق الرقمية مسؤولياتها تجاه مشاركين آخرين في السوق- غالبًا أصغر. وسينتج عن ذلك سوق تكنولوجيا أكثر حيوية وابتكارًا وعدالة.

وأصدرنا هذا التشريع في وقت قياسي. وطوال مراحل العملية، تأكدنا من أن عملنا كان يسترشد بالقيم، وليس بالتكنولوجيا الأساسية. وهذه مسألة مهمة، لأنه في حين أن التكنولوجيا تتغير طوال الوقت، فإن القيم لا تتغير.

إننا فخورون بكون أوروبا أصبحت مهد التنظيم التكنولوجي على مستوى العالم. لقد كان من دواعي السرور أن نرى قوانين مماثلة تصاغ في البلدان التي تشاركنا قيمنا الديمقراطية والإنسانية، وما زلنا حريصين على تنسيق جهودنا التنظيمية ووضع القواعد مع الآخرين. وكان مجلس التجارة والتكنولوجيا المشترك بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، الذي أطلق في عام 2021، أحد الأمثلة المبكرة على كيفية تعميق التعاون الدولي لضمان استفادة الجميع من التكنولوجيا. لقد أقمنا الآن شراكات مماثلة مع الهند، واليابان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية.

ولكي تزدهر الديمقراطية، تحتاج إلى مساحات مفتوحة حيث يمكن للناس التحدث والاختلاف والتناقض مع بعضهم البعض وإيجاد حلول مشتركة. وفي الماضي، كان لدينا ساحات عامة وغرف منتخبة وجامعات ومقاهي. وعندما ظهر الإنترنت لأول مرة، كان يحمل وعدًا بتوسيع هذه المنتديات على المستوى العالمي. ولكن صعود المنصات الكبرى أعاق الطريق، مما أدى إلى تجزئة محادثاتنا إلى كوكبة من المساحات الغامضة المحاطة بالجدران، مما شكل تهديدًا لديمقراطيتنا.

إن مهمة المواطنين الآن في كل مكان هدم تلك الجدران.

* مارغريت فيستاجر، نائبة الرئيس التنفيذي للمفوضية الأوروبية.
https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق