q
ويوسَم كل من القواعد المكونِّة للحمض النووي - وهي الأدينين والثايمين والجوانين والسيتوزين - بلون فلوري محدد، ويقترن بمجموعة كيميائية تشكل مقطع «التسلسل الخاتم» من الحمض النووي، الذي يكبح تخليق الحمض النووي. وتميِّز تقنيات بصرية تتسم بالدقة القواعد النيوكليوتيدية المضافة من خلال الوميض الفلوري الناتج عن هذه العملية، بعد ذلك يُزال الوسم والتسلسل الخاتم...
بقلم: مايكل آيزِنشتاين

مع توفُر طيف شاسع ومحير من تقنيات تعيين تسلسل الحمض النووي، أصبح لزامًا على المختبرات البحثية المفاضلة بين هذه الخيارات، لاختيار المنصات والنظم الأنسب لإجراء مشروعاتها البحثية.

ذاعت المقولة القديمة التالية في أوساط المشتغلين بمجال التكنولوجيا: "لم يُفصل أحد قط من عمله لأنه ابتاع حاسوبًا من شركة «آي بي إم» (IBM)"، إشارة إلى آونة شهدت انتشارًا واسعًا لحواسيب هذه الشركة. فإذا استبدلنا بشركة «آي بي إم» شركة «إلومينا» Illumina، وهي شركة متخصصة في تقنيات البيولوجيا، ويقع مقرها في سان دييجو بولاية كاليفورنيا، فلعل المقولة نفسها تصح اليوم، فيما يخص مجال تعيين تسلسل الحمض النووي.

وترى معظم المختبرات البحثية أن شركة «إلومينا» هي "الرهان المضمون مقارنة بباقي الشركات"، حسبما يصرح كيث روبيسون، اختصاصي علم الأحياء الحاسوبية من شركة «جينكو بيووركس» Ginkgo Bioworks القائمة في مدينة بوسطن، بولاية ماساتشوستس الأمريكية. وهو يكتب كذلك عن تقنيات تعيين تسلسل الحمض النووي في مدونة تسمى «أوميكس! أوميكس!» Omics! Omics!. غير أن العصر الذي شهد هيمنة شركة «آي بي إم» على سوق الحواسيب قد ولى منذ زمن طويل. وبالمثل، تواجه شركة «إلومينا» حاليًّا العديد من الشركات المنافسة التي تسعى إلى منازعتها الهيمنة على سوق تقنيات تعيين تسلسل الحمض النووي، بل وربما طردها خارج المنافسة.

وبطبيعة الحال، يولي الباحثون اهتمامًا بساحة المنافسة تلك. ومن بينهم بيدرو أوليفيرا، الذي يرأس مختبر تعيين تسلسل الحمض النووي في المركز الوطني الفرنسي لتعيين تسلسل الحمض النووي، المعروف أيضًا باسم «جينوسكوب» Genoscope، ويقع مقره في مدينة إيفري الفرنسية. وقد دخل المختبر مؤخرًا في شراكة مع عدة مشروعات بحثية أوروبية ضخمة، من بينها مشروع «أطلس الجينومات المرجعية الأوروبية» European Reference Genome Atlas، وهو مشروع يتوقع أن يتأتى معه كم هائل من المهام التي يتطلبها تعيين تسلسل الحمض النووي لأربعة جينومات أسبوعيًّا. وفي سياق كهذا، من المتوقع أن تصبح إحدى أولويات المركز زيادة ذخيرته من الأدوات والأجهزة التي تنتجها شركة «إلومينا». بيد أن قائمة مشتريات المركز لن تقف عند هذا الحد، إذ يزمع أوليفيرا النظر في استخدام مجموعة متنوعة من الأجهزة الأخرى.

ويستعين بعض الأجهزة بأدوات إضافية تستحدث بيانات قراءة قطاعات طويلة من الحمض النووي، وتشتمل على معطيات حول آلاف القواعد النيوكليوتيدية، على العكس من بيانات "قراءة قطاعات قصيرة" منه، التي تستحدثها أجهزته من شركة «إلومينا»، وهي قطاعات يتراوح طولها عادةً بين 100 و200 قاعدة نيوكليوتيدية. إلا أن العام الماضي شهد كذلك إطلاق ما يقرب من ستة أجهزة منافسة من أنظمة استحداث بيانات قراءة قطاعات قصيرة من الحمض النووي، وكل منها جاء يروج لمزاياه من حيث الدقة، والكفاءة، فضلًا عن الجانب الأهم، ألا وهو التكلفة. ويعلق أوليفيرا على ذلك بقوله: "نشهد لحظة مشوقة تجسد فجر تقنيات تعيين تسلسل الحمض النووي زهيدة الثمن". على أن نطاق الخيارات المتاحة من هذه الأجهزة قد يبعث على الحيرة والرهبة، لا سيما أن معظم العلماء لا يزالون ينتظرون الاطلاع على البيانات الفعلية لعمليات فحص وتعيين التسلسل الجيني لقطاعات الحمض النووي، ولم يقيموا بعد مدى ملائمة تلك الأجهزة لمشروعاتهم البحثية.

رهان مضمون

دخلت شركة «إلومينا» سوق تقنيات تعيين تسلسل الحمض النووي عبر الاستحواذ على شركة كانت تُسمى «سوليكسا» Solexa في عام 2007. وقد اعتمدت شركة «سوليكسا» على تقنية "تعيين تسلسل الحمض النووي بتخليقه" والتي تسخر الآلية ذاتها المستخدمة في تصنيع الحمض النووي في الخلايا الحية، إذ يقرأ إنزيم بلمرة الحمض النووي النمط الأساسي لتسلسل شريط الحمض النووي، ثم يضيف النكليوتيدات المكملة للشريط على نحو متسلسل.

ويوسَم كل من القواعد المكونِّة للحمض النووي - وهي الأدينين والثايمين والجوانين والسيتوزين - بلون فلوري محدد، ويقترن بمجموعة كيميائية تشكل مقطع «التسلسل الخاتم» من الحمض النووي، الذي يكبح تخليق الحمض النووي. وتميِّز تقنيات بصرية تتسم بالدقة القواعد النيوكليوتيدية المضافة من خلال الوميض الفلوري الناتج عن هذه العملية، بعد ذلك يُزال الوسم و«التسلسل الخاتم»، وتتكرر دورة نسخ الحمض النووي. وتُجرى هذه العلمية بأكملها في خلية رقيقة لتدفق شرائط تسلسل الحمض النووي، تُصور أعدادًا هائلة من قطاعات الحمض النووي التي تستهدفها عملية نسخ الحمض النووي في آن واحد، وهو ما ينتج بيانات قراءة ملايين، بل مليارات، قطاعات الحمض النووي القصيرة مع كل دورة تشغيل.

وقد حققت هذه المقاربة نجاحًا مذهلًا؛ إذ يشير أحد التقديرات إلى أن 90% من بيانات تعيين تسلسل الحمض النووي التي جُمعت على مستوى العالم منذ عام 2022 أنتجتها أجهزة شركة «إلومينا» (انظر nature.com/3abj7ng). ومع أن عشرات من الشركات ظهر على مر السنين، وسعى إلى منافسة شركة «إلومينا»، فإن معظمها أخفق في هذا المسعى. وكثير منها مسجل في «مقبرة شركات تقنيات تعيين تسلسل الحمض النووي المستقبلية» NGS Necropolis (انظر go.nature.com/3xwvmkt). وتعزو كاثرين أكينو، التي تشرف على جهود استحداث بيانات قراءة قطاعات قصيرة من تسلسلات الحمض النووي في مركز الجينوم الوظيفي في زيورخ بسويسرا نجاح شركة «إلومينا» إلى ما تتمتع به الشركة من خبرات تقنية. وتستطرد قائلة: «لم تتمتع الشركات الأخرى بموثوقية كبيرة في مجالي استحداث مكتبة لبيانات الحمض النووي أو تعيين تسلسلات مقاطعه".

تشمل منتجات شركة «إلومينا» أجهزة مختبرية صغيرة الحجم تُستخدم لإجراء فحوص سريعة لأعداد قليلة من عينات الحمض النووي، مثل جهاز «آي سيك سيكوينسنج سيستم» iSeq Sequencing System، الذي يصل سعره إلى 20 ألف دولار. كما تنتج أجهزة أكثر تطورًا وأكبر حجمًا مثل جهاز «نوفا سيك 6000» NovaSeq 6000، الذي يناهز سعره المليون دولار، ويمكنه إنتاج بيانات ما يصل إلى 6 تريليونات قاعدة نيوكليوتيدية من تسلسلات الحمض النووي، أي ما يعادل تقريبًا ألفي ضعف طول جينوم بشري واحد كل يومين. أما مجموعة أجهزة «نوفا سيك إكس» NovaSeq X الجديدة عالية الإنتاجية، فتستخدم خلية تدفق معدلة التصميم، بحيث يمكنها استيعاب عدد أكبر كثيرًا من تفاعلات تعيين تسلسل الحمض النووي. وتشتمل تلك الأجهزة كذلك على مواد كيميائية معدلة تستخدم في عملية تعيين تسلسل الحمض النووي بتخليقه، بالإضافة إلى أدوات بصرية متطورة، حسبما يشير أليكس أرافينيس، مدير قسم التقنيات بالشركة. وتفيد الشركة بأن أجهزتها الجديدة، التي بدأت عمليات طرحها هذا العام، قادرة على إنتاج ثلاثة أضعاف البيانات التي كان ينتجها الجيل السابق من أجهزة «نوفا سيك 6000» في كل دورة تشغيل، وهو ما يؤدي إلى خفض تكلفة عملية تعيين تسلسل الحمض النووي الواحد لتقتصر على 200 دولار فحسب لكل جينوم بشري.

طيف شاسع من البدائل

بالإضافة إلى مشروعات تجميع الجينوم البشري وتحليل الطفرات، ظهرت مجالات جديدة أذكت الطلب على مزيد من التقنيات الأكثر كفاءة والأقل تكلفة لاستحداث بيانات مقاطع الحمض النووي القصيرة. وتدخل أطياف شتى في تلك المجالات، منها دراسات التغيرات فوق الجينية، والبِنى الكروموسومية، ودراسات البروتيوميات (دراسات مجموع البِنى البروتينية في الكائن الحي ووظائفها). وتقدر أكينو أن اليوم، 60% من أبحاث مختبرها في مركز الجينوم الوظيفي يتطلب تعيين تسلسل الحمض النووي الريبي على مستوى الخلية المُفردة. وهو ما يستلزم بدرجة كبيرة الوقوف على خصائص التعبير الجيني لآلاف أو ملايين الخلايا المفردة. ولسد هذا الارتفاع في حجم الطلب على هذه الأجهزة، انضمت شركات ناشئة وشهيرة إلى حلبة المنافسة.

وإحدى الشركات الشهيرة في هذا المجال هي شركة «إم جي آي تِك» MGI Tech، التي يقع مقرها في مدينة شينجِن الصينية، وهي منبثقة عن شركة «بي جي آي» BGI الصينية العملاقة المتخصصة في مجال أبحاث الجينوم. وقد أدخلت شركة «إم جي آي تك» بعض التعديلات الفريدة على منهجية مشابهة لمقاربة تعيين تسلسل الحمض النووي بتخليقه، التي تعتمد عليها شركة «إلومنيا»؛ فكلتا الشركتين تستخدمان عملية كيميائية حيوية لاستحداث نسخ متعددة من كل نمط شريطي لتسلسل الحمض النووي على سطح خلية التدفق، وهو ما يعزز الإشارة الفلورية المشعة. أما أنظمة «دي إن بي إس إي كيو» DNBSEQ التي تطرحها شركة «إم جي آي تك»، فتوظف نهجًا أقل تكلفةً، وإن كان يتطلب مزيدًا من الجهد البشري. وهو يعمل على تحويل أنماط تسلسل الحمض النووي إلى مصفوفات من "كرات الحمض النووي النانوية". وتعقيبًا على هذه الأنظمة، يقول يووانس راجوسيس، رئيس قسم علوم الجينوم من مركز ماكجيل لأبحاث الجينوم في مونتريال، كندا: "تكون البيانات الناتجة عالية الجودة، وربما يصبح هذا المنهج بديلًا أفضل على صعيد الجدوى الاقتصادية من النهج الذي تتبعه شركة «إلومينا»". وجدير بالذكر أن راجوسيس قد استخدم أنظمة «دي إن بي إس إي كيو» في مختبره.

ومن بين الأجهزة الجديدة في هذا المجال، جهاز «جي فور» G4 المختبري، وهو جهاز صغير الحجم تقدمه شركة «سينجيولار جينومكس» Singular Genomics الكائنة في مدينة سان دييجو الأمريكية. ويشبه كثيرًا أجهزة شركة «إلومينا». بيد أن جهاز «جي فور» يحتوي على خلية تدفق مصممة على نحو قد يسهّل إمكانية إجراء عدة تجارب لتعيين تسلسل الحمض النووي في آن واحد. وحول ذلك، تقول ستيفاني بوند، نائب رئيس التقنيات الناشئة من معهد أبحاث الجينوم التطبيقية في مدينة فينيكس بولاية أريزونا الأمريكية: "يستهدف الجهاز المشروعات الأصغر حجمًا، والأكثر مرونة". وقد أخضع المعهد الجهاز لاختبارات في عدة تجارب ميدانية أولية.

أما خلية التدفق التي تطرحها شركة «ألتيما جينومكس» Ultima Genomics، ومقرها مدينة نيوآرك في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، فتتمتع بعدد أكبر من المزايا؛ فبدلًا من استخدام خرطوشة مغلقة تحتوي على قنوات معقدة تعمل على تنظيم تدفق الكواشف، توضع الكواشف المُستخدمة في تعيين تسلسل الحمض النووي على سطح قرص دوار مكشوف، وتوزع قوة الطرد المركزي الناتجة عن دوران القرص هذه الكواشف على نحو متساوي فوق سطح القرص، وهو ما يقلل تعقيد تصميم خلية التدفق وكمية الكواشف المطلوبة أيضًا، ما يؤدي إلى خفض تكلفة كل دورة تشغيل. كذلك تقلل شركة «ألتيما» التكلفة عبر استخدام مزيج من القواعد النيوكليوتيدية الموسومة وغير الموسومة، بدلًا من استخدام القواعد النيوكليتيدية الموسومة فقط، وهو الخيار الأكثر تكلفةً1. وفي إحدى الدراسات، اختبرت مجموعة من المستخدمين بمعهد برود التابع لكل من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفرد بكامبريدج نموذجًا من الجهاز في تجارب أولية للوقوف على التعبير الجيني في خلايا مفردة2، وقد أفادت مجموعة المستخدمين بأن أداءه يضاهي بوجه عام أداء أجهزة «إلومينا».

وأخيرًا، نأتي على ذكر التقنية الكيميائية التي طورتها شركة «إليمنت بيوساينسيز» Element Biosciences، ومقرها مدينة سان دييجو، وتلك التي طورتها شركة «باسيفيك بيوساينسيز» (باك بيو) Pacific Biosciences (PacBio)، في مينلو بارك بولاية كاليفورنيا الأمريكية. إذ تعتمد كلتا الشركتين على نهج بديل للصور التقليدية من تقنية تعيين تسلسل الحمض النووي بتخليقه. ويقوم هذا النهج على مرحلتين، لا تُدمج فيهما القواعد النيوكليوتيدية التي تحمل واسمًا فلوريًا في شريط الحمض النووي المخلق حديثًا على نحو دائم، وإنما تُدمج مؤقتًا بهذا الشريط المُخلق. وفور تصويرها، تُزال وتحل محلها قواعد نيوكليوتيدية غير موسومة.

ويؤدي هذا النهج البديل إلى تخليق حمض نووي أقرب إلى الصورة الطبيعية له. كما يتيح تحسين وسم القواعد النيوكليتيدية بدقة. وكل من شركة «إليمنت» وشركة «باك بيو»، المعروفة بالفعل بأنظمتها المعقدة القادرة على قراءة مقاطع طويلة من الحمض النووي، تؤكدان على دقة المنهج الذي تتبعانه. ويعقب كريستوفر ماسون، الباحث في مجال علوم الجينوم من كلية طب ويل كورنيل في مدينة نيويورك على ذلك قائلًا: "لم تنفك هذه الأجهزة عن تزويدنا ببيانات تتسم بجودة فائقة"، وكان ماسون قد استخدم جهاز «أفيتي» AVITI، الذي تنتجه شركة «إليمنت»، لتوصيف تأثير الرحلات الفضائية على وظائف الأعضاء البشرية.

مفاضلة بين المزايا والعيوب

تندرج أجهزة تعيين تسلسل الحمض النووي بوجه عام ضمن فئتين: أجهزة تعيين تسلسل الحمض النووي عالية الإنتاجية، ومن أمثلتها جهاز «نوفا سيك» من شركة «إلومينا»، وأجهزة المختبرات الأصغر حجمًا، مثل جهاز «نيكست سيك» NextSeq من إنتاج الشركة نفسها. وفي الوقت الحالي، تدير شركة «إلومينا» وشركة «إم جي آي» فقط أنشطة لابتكار أجهزة تعيين تسلسل الحمض النووي بشتى مستويات إنتاجيتها، في حين تستهدف شركات أخرى لتقنيات قراءة بيانات مقاطع قصيرة من الحمض النووي مستويات معينة من الإنتاجية.

وتتسم الأجهزة عالية الإنتاجية بكبر حجمها وارتفاع أسعارها، لكن إنتاجيتها المرتفعة تُعد ضرورية لكثير من الدراسات الجينومية واسعة النطاق أو دراسات تعيين تسلسل الحمض النووي الريبي على مستوى الخلية المُفردة. وتشكل هذه الأجهزة عادةً الركيزة الأساسية التي تقوم عليها أنشطة أهم المرافق والهيئات المختصة بتعيين تسلسل الحمض النووي. وفي هذا السياق، تفيد ستايسي جابريال، مدير قسم علوم الجينوم من معهد برود بأن الغالبية العظمى من عمليات تعيين تسلسل الحمض النووي التي تجري في المعهد، وهو أحد أبرز المعاهد في مجال علوم الجينوم على مستوى العالم، تستخدم تلك الأجهزة، وتستطرد موضحةً: "لدينا 32 جهازًا من طراز «نوفا سيك»، ونشغلها بكثافة"، مضيفةً أن فريقها يعتزم التوسع في عملياته تلك عبر شراء أجهزة جديدة من طراز «نوفا سيك إكس».

تدخل شركة «ألتيما» أيضًا طرفًا في حلبة المنافسة تلك، عبر جهاز «يو جي 100» UG 100 الذي تنتجه، لكنها تهدف إلى تعويض ارتفاع تكلفة الجهاز عن طريق خفض تكاليف عمليات تعيين تسلسل الحمض النووي التي يجريها. وقد صرحت بأن جهاز «يو جي 100» قادر على استحداث بيانات تسلسلات الحمض النووي لجينوم بشري كامل بتكلفة تبلغ مائة دولار، أي نصف تكلفة تعيين التسلسل الجينومي باستخدام جهاز «نوفا سيك إكس». وكان معهد برود من بين أول مائة مستخدم لجهاز «يو جي 100». في ذلك الصدد، تشير جابريال إلى أنه رغم أن التقنيات التي يعتمد عليها الجهاز لا تزال قيد التطوير، إلا أنها ترى أن ثمة فرصة حقيقية لأن يشمله سير مهام المعهد المعنية بتحليل تسلسلات جينومية كاملة، وإجراء فحوص عالية الإنتاجية كتلك التي تتناول عمليات النسخ الجيني على مستوى الخلايا المفردة.

وفيما يخص القرار بشراء جهاز لتعيين تسلسل الحمض النووي، لا يقتصر حساب التكاليف على سعر الأجهزة والكواشف. إذ إن الأسعار المعلنة لتكلفة عمليات تعيين تسلسل الحمض النووي للجينوم الواحد لا تتضمن تكلفة العمالة ونفقات صيانة الأجهزة، وغير ذلك من مصروفات الدعم الفني. ويضيف راجوسيس أن المؤسسات البحثية قد تتوقع دفع 10% سنويًّا من التكلفة الأساسية لهذه الأجهزة نظير التعاقد على خدمات الصيانة. وهذه التكاليف الإضافية قد تجعل أسعار الأجهزة المختبرية متوسطة الثمن تفوق قدرة شراء العديد من المختبرات. والأهم من ذلك، أن الأجهزة عالية الإنتاجية لا تتيح جدوى اقتصادية أفضل مقارنة بالأجهزة المختبرية، إلا عندما تعمل بكامل قدرتها التشغيلية. وهو ما توضحه بوند قائلةً: "إما أن كثير من المشروعات البحثية لا يكون على الدرجة الكافية من الضخامة، أو يصعب بدرجة كبيرة توفير كم العمل اللازم لاستيفاء القدرة التشغيلية للأجهزة في المشروعات التجريبية". وتلك مشكلة قد تواجهها كذلك المختبرات التي تعمل على تجارب متعددة، لا يمكن إجراؤها في آن واحد على خلية تدفق واحدة.

وقد تكون أجهزة سطح المكتب المختبرية الخيار الأنسب في هذه الحالات التي تشكل المجال الذي تتنافس فيه شركات «إليمنت» وشركة «سينجيولار»، و«باك بيو» حاليًّا. وتتراوح تكلفة تلك الأجهزة بين 200 ألف و400 ألف دولار. من هنا، تحتدم المنافسة بين شركات إنتاجها على توفير أكبر قدر من بيانات تعيين تسلسل الحمض النووي بأقل سعر لكل مليار قاعدة نيوكليوتيدية. ويعقب ماسون على ذلك قائلًا: "لا تزال التكاليف أحد أهم الدوافع المحركة لهذا المجال. فرغم كل شيء، تمويل الباحثين من المنح البحثية محدود". ويضيف ماسون أن شركة «إم جي آي» تلعب على هذا الوتر الحساس كي تشجع الباحثين على اختيار منتجاتها، حتى إنها تقدم أجهزة مجانية لبعض المختبرات البحثية التي تبدي استعدادًا لإنفاق مبلغ محدد على شراء الكواشف بمعدل منتظم.

وتعد قضية الجودة مسألة جوهرية أخرى في هذه الاعتبارات. وفي هذا الإطار أيضًا أرست شركة «إلومينا» معايير مرتفعة لكفاءة أجهزتها. ففي معظم عمليات قراءة بيانات مقاطع الحمض النووي، تصيب أجهزة «إلومينا» في 999 مرة من كل ألف "الجزم" على نحو صحيح بالقواعد النيوكليوتيدية المكوِّنة للحمض النووي، ويطلق على معيار الدقة هذا «كيو 30» Q30. وفوق ذلك، تفيد الشركة بأن الجيل الأحدث من كاشفاتها الكيميائية، والذي تطلق عليه اسم XLEAP-SBS، من المتوقع أن يحسن هذا المستوى من الدقة بمقدار ثلاثة أضعاف. من جانب آخر، تزعم شركة «باك بيو» أن معدل الخطأ في نتائج جهازها الجديد «أونسو» Onso يبلغ خطًأ واحدًا لكل 10 آلاف قاعدة نيوكليوتيدية أو أقل (أي أن معيار دقته يبلغ «كيو 40»). ويشير ماسون إلى أن الاختبارات التجريبية التي أجراها باستخدام هذا الجهاز لدراسة عينات جينومية معتمدة قد أكدت صحة هذا الزعم. ويضيف: "في بداية قراءة بيانات مقاطع الحمض النووي، كان مستوى الدقة أعلى من ذلك"، مشيرًا إلى أن هذا المستوى بلغ درجة أعلى بعشرة أضعاف من معيار «كيو 40» في بداية عملية القراءة. ويذهب ماسون إلى أن إدخال مزيد من التحسينات على مجموعة الأدوات الحاسوبية المختصة بتحليل البيانات التي يستحدثها جهاز «أونسو» قد يفضي إلى أداء أفضل من ذلك.

وتبرز مسودة بحثية لدراسة أجراها علماء في شركة «إليمنت بيوساينسيز» إمكانية استيفاء معيار دقة قدره «كيو 40» على مستوى غالبية القواعد النيوكليوتيدية في الجينوم البشري عند تعيين تسلسل حمضه النووي باستخدام جهاز «أفيتي». وقد بدأ طرح الجهاز للبيع في شهر يونيو من العام الماضي. فضلًا عن ذلك، تتمتع شركة «إليمنت» بميزة سعرية تنافسية مقارنة بشركة «باك بيو»، إذ تعرض تعيين تسلسل الجينوم البشري الواحد مقابل 200 دولار، مثل شركة «إلومنيا»، وهو سعر يعادل سُبْع تكلفة تعيين التسلسل الجينومي الواحد باستخدام جهاز «أونسو». ومن حيث المبدأ، تقلل عمليات قراءة بيانات مقاطع الحمض النووي التي تتسم بالدقة كم العمل اللازم لتعيين تسلسل الحمض النووي عند إجراء الدراسات الجينومية المعتادة. وهي كذلك مزية تحسم الأفضلية في بعض التطبيقات على غرار تحليل الحمض النووي الذي يُجمع من خزعات سائلة من الأورام في حالات الانتشار الورمي. وهو ما توضحه جابريال قائلةً: "ثمة نسخ قليلة نسبيًا من الحمض النووي لهذه الأورام وسط فيض واسع من الحمض النووي الطبيعي، ومن ثم يحتاج الباحثون إلى إجراء عمليات تعيين تسلسل حمض نووي متعمقة للغاية".

ومن الاعتبارات الأخرى المهمة عند اختيار نظام لتعيين تسلسل الحمض النووي مسألة ملاءمة الأجهزة لمنظومة العمل القائمة. على سبيل المثال، منظومة عمل شركة «إليمنت» تلائم بدرجة كبيرة سير العمليات المعهودة التي تجريها أجهزة شركة «إلومنيا»، في حين تتطلب أجهزة شركتي «ألتيما» و«إم جي آي» خطوات معالجة إضافية، قد تضع بعض العوائق في مسارات منظومة العمل القائمة لدى الشركات. تعقيبًا على ذلك، يقول ماسون إن تلك العوائق "يمكن التغلب عليها وتخطيها، لكن بمزيد من الوقت والجهد". ومن ثم، قد تنشأ الحاجة إلى إجراء مزيد من الخطوات آليًا من أجل تيسير عمليات تعيين تسلسل الحمض النووي.

وأخيرًا لا غنى عن مراعاة عاملي ثبات الأداء وموثوقيته عند المفاضلة بين الأجهزة، فحتى فترات التعطل الوجيزة قد تؤدي إلى عرقلة سير العمل في المختبرات واضطرابه. وبوجه عام، تتمتع شركة «إلومينا» بمكانة رفيعة في هذا المجال، بحسب تصريح أكينو، التي تعلل لذلك قائلة: "في بعض الأحيان، نجد مهندس الشركة في الموقع بالفعل قبل أن نعرف حتى أن ثمة عطل ما في الجهاز. ويُتوقع أن كل هذه الشركات الأخرى ستحتاج إلى بضعة سنوات إضافية كي تتمكن من تصميم أنظمة دعم فني ومراكمة الخبرات في هذا المجال".

التحوُل نحو قراءة بيانات مقاطع طويلة

تقنيات قراءة بيانات مقاطع قصيرة من الحمض النووي لا تناسب جميعها تطبيقات تعيين تسلسل الحمض النووي. لهذا السبب، ينصب اهتمام شركات مثل «باك بيو»، وشركة «أوكسفورد نانوبور تكنولوجيز» Oxford Nanopore Technologies في المملكة المتحدة (ويشار إليها اختصارًا باسم ONT) على تطوير تقنياتها المعنية بقراءة بيانات مقاطع طويلة من الحمض النووي.

وتتيح كلتا الشركتين أنظمة لإجراء تحليل مباشر لجزيئات مفردة من الحمض النووي، تشتمل على عشرات، بل مئات الآلاف من القواعد النيوكليوتيدية. وتعتمد التقنية التي طورتها شركة «باك بيو» على إضافة النمط الشريطي لتسلسل الحمض النووي إلى إنزيمات بلمرة مرتبطة بسطح صلب، ثم استخدام تقنيات بصرية معقدة، لرصد إضافة القواعد النيوكليوتيدية الموسومة المفردة بينما تجري عملية تخليق الحمض النووي. أما أنظمة شركة «أوكسفورد نانوبور تكنولوجيز»، فتحدد تسلسلات القواعد النيوكليوتيدية بناءً على التغيرات الملحوظة في التيار الكهربي في أثناء مرور شرائط الحمض النووي عبر مسام بروتينية فائقة الصغر. ويتيح كلا هذين النظامان معًا رؤى ثاقبة سيكون من الصعب أو من المستحيل التوصل إليها باستخدام الأنظمة المُستخدمة لقراءة بيانات مقاطع قصيرة من الحمض النووي، مثل الاختلافات البنيوية الكبيرة في الحمض النووي الكروموسومي، وبنية منظومة النُسخ في الحمض النووي الريبي المرسال، وتحليل الجينوم الكامل للميكروبات. وعلاوة على ذلك، يمكن لهذين النظامين رصد التغيرات فوق الجينية مباشرة وتحديد مواقعها.

وتقدم شركة «باك بيو» مجموعة من أكثر الأجهزة المتاحة في السوق دقة، بفضل اعتمادها على تقنية تُسمى «هاي فاي» HiFi (الأداء عالي الدقة)، تمكّن الأجهزة من قراءة مقطع الحمض النووي نفسه مرة تلو الأخرى، وتصحيح أي أخطاء عشوائية قد تقع في أثناء عملية تعيين تسلسل الحمض النووي. غير أن ارتفاع تكلفة تلك الأجهزة وانخفاض حجم إنتاجيتها من البيانات، لطالما كان سببًا في محدودية انتشارها. وفي هذا الصدد، تقول أكينو: "استغرق تحليل مائة عينة باستخدام جهاز من شركة «باك بيو» عامًا، في حين تستغرق أجهزة «إلومينا» نحو يومين لتحليل مائة عينة". بيد أن جهاز «ريفيو» Revioالجديد الذي تعتزم شركة «باك بيو» بدء بيعه هذا العام مقابل 779 ألف دولار من المتوقع أن يقلب المعادلة، إذ يُتوقع أن تبلغ قدرته الإنتاجية 15 ضعف قدرة الجيل الحالي من الأجهزة. وتصرح الشركة بأن «ريفيو» قادر على تعيين تسلسل جينوم بشري كامل بجودة فائقة مقابل 1000 دولار فحسب.

أما شركة «أوكسفورد نانوبور تكنولوجيز»، فتطرح جهازًا يتميز بتعدد استعمالاته وقابليته للحمل والنقل. ويمكن الاستعانة به بسهولة في التطبيقات التي تتطلب قراءة بيانات مقاطع قصيرة من الحمض النووي، فضلًا عن التطبيقات التي تتطلب قراءة بيانات مقاطع بالغة الطول من التسلسل الجيني. ويستخدم الباحثون عادة أجهزة شركة «أكسفورد نانوبور تكنولوجيز» في الأبحاث الميدانية. وقد أرسل ماسون مجموعة من هذه الأجهزة إلى محطة الفضاء الدولية. ويعلق على ذلك بقوله: "نرى أن تلك الأجهزة تصلح لكثير من التطبيقات في البقاع النائية". وعلاوة على ذلك تقدم شركة «أكسفورد نانوبور تكنولوجية» أرخص أجهزة تعيين تسلسل الحمض النووي في السوق، من بينها جهاز «منيون» MinION، الذي يبلغ سعره 1000 دولار ويمكن تشغيله بالاتصال بالحواسيب المحمولة العادية، ويمكن تشغيل النسخ الأحدث منه بالاتصال بالحواسيب اللوحية.

وفي المقابل، فإن جهاز «بروميثيون» PromethION عالي الأداء الذي تنتجه الشركة نفسها، يمكنه تعيين تسلسل 14 تريليون قاعدة نيوكليوتيدية من قواعد الحمض النووي في ثلاثة أيام. ويعتمد ترويج الجهاز على نظام تسعير فريد، يربط معظم التكاليف المبدئية له بشراء اللوازم المطلوبة لإجراء تجارب تعيين تسلسل الحمض النووي. ويوضح راجوسيس ذلك قائلًا: "يمكن للباحثين الحصول على جهاز يرتبط سعره بثمن عدد خلايا التدفق التي يخططون لاستخدامها بغض النظر عن التكلفة التي يرصدونها لشراء الجهاز"، مشيرًا إلى أن هذا الخيار قد يبدو أفضل من إنفاق 300 ألف دولار فأكثر قبل أن يبدأ المختبر في استخدام خلية التدفق الأولى. وقد أطلقت شركة «أكسفورد نانوبور تكنولوجيز» في شهر أكتوبر من العام الماضي، النسخة الأحدث من هذا الجهاز، وهو جهاز «بي تو سولو» P2 Solo المحمول، الذي يتمتع بقدرة على تعيين تسلسل جينومين بشريين لكل دورة تشغيل خلية تدفق، فضلًا عن أنه يتيح للمستخدمين بدء استعماله مقابل دفع مبلغ يزيد قليلًا عن 10 آلاف دولار فحسب.

وفي هذا السوق المزدحم، دائم التغير والتقلبات، يتطلب قرار الاستثمار في تقنية جديدة قدرًا من الجرأة. وفي هذا الصدد، يقول أوليفيرا: "من الصعب حقًا مواكبة صدور تقنية جديدة كل ستة أشهر، فتلك عملية تتطلب الكثير من المشتغلين بهذا المجال، فيما يتعلق بمقارنة التقنيات واختبار فاعليتها، فضلًا عن كم الجهد الذي تتطلبه من الفرق المختصة بمجال المعلوماتية الحيوية". وفي الوقت الحالي، يوازن فريق أوليفيرا بعناية بين مزايا وعيوب تلك الأجهزة الجديدة، ويدرس كيف يمكن أن تكمِّل أو تدعم ما لدي الفريق من أجهزة. رغم ذلك، تظل المنافسة التي تشهدها هذه السوق ظاهرة صحية، إذ تؤدي إلى رفع مستويات أداء الفرق البحثية وخفض تكاليفها. ويعلق أوليفيرا على ذلك بقوله: "نحن بصدد إتاحة تقنيات تعيين تسلسل الحمض النووي للجميع".

اضف تعليق