q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

ما حصيلتنا من شهر رمضان؟

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

لم يبق أمامنا سوى يوم واحد من شهر رمضان المبارك، تسع وعشرون يوما بنهاراتها ولياليها مضت كأنها (إغماضة عين) أو رمشة عين كما يُقال، وهناك حصيلة كبيرة تجمّعت في جعبة كل مَن صام هذه الأيام الثلاثين، ونهلَ من بركاتها وخيرتها ما يدعم وجوده وشخصيته معنويا بالدرجة الأولى، فالمعنى هو أساس الوجود...

(إن الإنسان بعد تروّضه يحسّ بلذة لا تضاهيها أية لذة مادية أخرى)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

لم يبق أمامنا سوى يوم واحد من شهر رمضان المبارك، تسع وعشرون يوما بنهاراتها ولياليها مضت كأنها (إغماضة عين) أو رمشة عين كما يُقال، وهناك حصيلة كبيرة تجمّعت في جعبة كل مَن صام هذه الأيام الثلاثين، ونهلَ من بركاتها وخيرتها ما يدعم وجوده وشخصيته معنويا بالدرجة الأولى، فالمعنى هو أساس الوجود، وهو أسّ الخيرات، وكل المحصّلات النبيلة التي يُسعَد بها الإنسان بعد هذا الشهر الفضيل.

ولو أننا وجهنا افتراضا هذا السؤال إلى كل مؤمن وإنسان صام شهر رمضان: ما هي حصيلتك في هذا الشهر الكريم، وما الذي أضافه لك معنويا وفكريا وعقائديا وماديا؟

فماذا سيكون جوابك الدقيق الصادق؟، إن الجواب يكاد يكون واحدا، حيث تجتمع فيه القلوب النقية البيضاء والنفوس الملتزمة، فحصيلة شهر رمضان للصائمين لأيامه بصدق والتزام، هي ارتفاع المعنويات بشكل كبير، والشعور بالبهاء والافتخار، وقبل ذلك الشعور بالاطمئنان والاستقرار النفسي والسعادة الراسخة في أعماق الصائم.

أما الجديد الذي تعلمناه في هذا الشهر فهي جوانب كثيرة وعديدة، وأهمها التركيز على ترويض النفس، وتهذيب الذات، ونبذ الأعمال الخاطئة، ورفض مسارات الانحراف بكل أشكالها، وتدريب النفس على الصواب والاستقامة، إلى أن تصبح ملَكة وصفة خالصة يتحلّى بها الإنسان الذي صام شهر رمضان واستخلص منه شخصيته الجديدة المنضبطة.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (نحو بناء النفس والمجتمع):

(إن أحد الأفاضل طلب من أستاذه العالم أن ينصحه نصيحة تنفعه طيلة عمره، وكان على وشك مفارقته، فقال له العالم: خصّص لنفسك كل يوم وقتاً تحاسب فيه نفسك، وإن قلَّ. يقول ذلك الفاضل: عملت بنصيحة أستاذي العالم حتى أصبحت محاسبة النفس حاضرة في ذهني ما دمت مستيقظاً. وهذا يدلّ على ارتكاز الحالة في ذهنه حتى لكأنها صارت ملكة عنده).

الفوز بحصيلةٍ لا تقدَّر بثمن

هكذا يمكن للصائم أن يستثمر أيام هذا الشهر، لكي يفوز بحصيلة كبيرة ولا تقدَّر بثمن، فحين يعتاد الإنسان على محاسبة نفسه في كل لحظة، طالما كان مستيقظا، هذا يعني أن صار محميًّا بشكل تام من ارتكام الحرام، وهو بالتالي يكون محميا من ألاعيب الدنيا الكثيرة، فضلا عن تغلبه التام على أحابيل الشيطان، ومساعيه التي تشجع البشر على الانحراف.

إن محاسبة النفس إذا أصبح هدفا للصائم، وإذا سعى الإنسان إلى اختبار نفسه، هل هو فعلا قادر على النجاح في محاسبة نفسه وترويضها، وركّز كل جهوده المعنوية والإيمانية لتنمية هذا الهدف والقبول به، وتطبيقه في حياته، فإنه سوف يحب هذا الهدف في معناه وجوهره وفي تطبيقه، وهذا الحب يجعله في حالة محاسبة مستمرة للنفس.

كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:

(أرأيت نفسك إذا كنت تترقب وقوع أمر محبوب لنفسك، كتعيينك في منصب مثلاً، فإن هذا الأمر لا يغيب عن ارتكازك الذهني حتى تنام – بل قد يراودك حتى في نومك – إنك في مثل هذه الحالات، تحاول أن لا تعمل خلال هذه المدة كل ما من شأنه أن يحول دون تحقق ذلك الأمر المحبوب لك، وقد تنجح في ذلك؛ لأن القضية حاضرة في ذهنك ما دمت مستيقظاً).

إنها عملية ديمومة وتواصل وتدريب للنفس، حيث يخصص الصائم وقتا مناسبا، وبحسب برنامج يومي من حيث التوقيت والبدء بهذا البرنامج، واستخلاص النتائج بشكل يومي، وتعويد النفس على سياق المحاسبة، ونبذ ما هو خاطئ مع الدعاء للخلاص منه، والاعتناء بما هو صالح والدعاء لتثبيته وتطويره في نفسه وشخصيته.

فإذا الخطأ وعالجه يدعو الله لكي يستمر في هذا المنهج الذي يقوده نحو الاستقامة في حياته، وإذا وجد الصواب فإنه يعمّقه في ذاته، ويطوره ويشكر الله تعالى على بركاته في هذا الشهر المبارك، ومع الاستمرارية في هذا البرنامج بشكل يومي منتظم، يصل الصائم إلى الفوز بمحاسبة النفس كملَكة سكنت في أعماقه وتشكّلت في شخصيته وتفكيره وعقليته وسلوكه، فيصبح إنسان قويما مستقيما ثابتا على خط الاستقامة والإيمان.

وهذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:

(هكذا هو حال من كان الله تعالى حاضراً عنده دائماً، فإن محاسبة النفس لا تغيب عنه ما دام مستيقظاً، وهذا ممكن بترويض النفس بأن يخصص المرء وقتاً من يومه يزيده قليلاً كل يوم، يراجع فيه نفسه وينظر إلى أعماله ونواياه، فكلما رأى خيراً شكر الله وطلب الزيادة وسعى لها، وكلما رأى شراً استغفر الله وطلب منه التوفيق للإقلاع عنه).

تشذيب النفس وتهذيبها

وهكذا يصبح شهر رمضان الكريم، مناسبة دقيقة وموفقة لتجريب هذا المنهج المهم لتقويم الشخصية، وتهذيبها، وتخليصها من السلوكيات التي لا تليق بالصائم، ولا تليق بقيمة ومكانة وشخصية الإنسان وكرامته، وبهذا سوف ينجح في هذه التجربة الراقية، لأن ترك النفس على هواها وكما ترغب يقود إلى إلى مشاكل لا حصر لها، وإذا غطس في طلبات النفس سيكون من الصعوبة عليه التخلّص من ذلك.

لهذا فإن صيام الأيام الثلاثين لشهر رمضان، مناسبة موفقة وصحيحة وملائمة لتثبيت نجاح الصائم في ترويض نفسه، ويمكنه أن يضيف العشرة أيام الأوائل من شهر شوال لكي يواصل صيامه فيها، فهذه التجربة تدعمه معنويا، وتضاعف من تقواه، وتزيد من درجة التزامه، وسوف يشعر بمعنويات عالية ترافق شخصيته ومشاعره تمنحه لذة هائلة من طراز خاص لأنها لا تشبه أية لذة مادية جرّبها سابقا.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(شهر رمضان خير فرصة لهذه التجربة، ولو أضيف إليه عشرة أيام من شهر شوال لتصبح أربعين يوماً فذلك خير؛ إذ إن الحالة قد تقترب من الملكة التي يصبح التخلي عنها بعد ذلك مستبعداً، لأن الشخص بعد تروّضه يحسّ بلذة لا تضاهيها أية لذة مادية أخرى).

وهكذا فإن الصائم الذي يخرج بحصيلة جيدة وناجحة من شهر رمضان، سوف تُحاط شخصيته باللذات المعنوية الكبيرة التي تتفوق على جميع اللذات المادية، لأن اللذة المعنوية لها علاقة مباشرة بمشاعر الإنسان، وتهيمن على حالته النفسية وتهذب تفكيره وتشذب سلوكياته وأقواله، وبهذا يحلّق عاليا في سماء المعنويات فائزا بلذّاتها المتفرّدة.

أما المقارنة بين اللذة المعنوية واللذة المادية، فإن الفارق بينهما كبير جدا، وهذا ما يعيشه الصائم بجلاء وحقيقة واقعية وليست وهما أو حلما أو طيفا يخطف أمام عينه ويذوب في الغياب، بل هي لذة معنوية يعيشها الإنسان وتمنحه الصفاء الروحي الذي يكون الإنسان في حاجة دائمة ومستمرة له.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) ينبّه على هذه المقارنة بين الحالتين فيقول:

(لو وضعت كل اللذات المادية في جانب، ووضعت إحدى اللذات المعنوية في جانب آخر لرجحت الأخيرة، لأن اللذة المعنوية واقعية وخالدة، أما اللذة المادية فاعتبارية مصيرها إلى الزوال - إن لم نقل إنها وهم وخيال -).

إذًا حصيلة الصائم لشهر رمضان، فوزه بملَكة (محاسبة النفس) وهذه واحدة من محصّلات أخرى كبيرة، والارتقاء في ملكوت المعنويات، والعيش في هدوء واطمئنان بتوافر السلام النفسي الذي يتحقق، مع المحاسبة اليومية والترويض المستمر للنفس، حيث تصبح هذه الممارسة جزءا لا يتجزّأ من شخصية الإنسان في تفكيره وسلوكه.

اضف تعليق