q

كاريسون، نيويورك - تخيل للحظة واحدة أنك وجدت كنزا من الأجهزة الرائعة خلٌّفتها حضارة قديمة. وتختلف هذه الأدوات الغامضة من حيث الحجم والتعقيد، لكنها تتميز جميعها ببعض القدرات العجيبة.

إذا أردت أن تفهم كيفية اشتغالها، فمن المنطقي أن تبدأ بأبسط وأصغر جهاز، ثم تقوم بنحت القطع بشكل منتظم حتى تتوقف عن الاشتغال. في نهاية المطاف، سيزول كل ما هو غير جوهري، وسوف تبقى فقط مكونات الجهاز الضرورية ليقوم بوظائفه الأساسية. وبعد ذلك، بمجرد معرفة طبيعة عمل كل قطعة سوف تحصل على الإجابة التي تبحث عنها.

هذا هي رحلة الاكتشاف التي قام بها عالم الأحياء الأمريكي كريغ فنتر وزملاؤه على مدى العقدين الماضيين - لكن ابتكاراتهم الرائعة ليست بقايا آثار، بل هي عبارة عن كائنات حية. فالقطع التي يحاولون فهمها هي الجينات التي نتقاسمها مع جميع الأشكال الأخرى للحياة الإنجابية المستقلة.

في بحث حديث تم نشره في مجلة العلم، أعلن فينتر وزملاؤه أنهم صنعوا أصغر كائن حي مستنسخ. هذا المخلوق، الذي يدعى JCVI-syn3.0، هو بمثابة خلية بسيطة مكونة من جينات حيوية. ويحتوي على جينوم أصغر من أي كائن مستنسَخ مستقل في الطبيعة، وهو أكبر فقط من ذلك الذي يوجد في الفيروسات والكيانات الأخرى الذي تعتمد على أجهزة قابلة لحمل وظائف أساسية.

صنع فنتر وفريقه هذا الكائن الحي من خلال عملية التجربة والخطأ. بدأوا باستخدام معرفتهم لعلم الأحياء للاستدلال على الحد الأدنى لمجموعة من الجينات التي من شأنها أن تكون مهمة للحياة. لكن هذا النهج قد باء بالفشل.

لذلك أخذوا بدلا من ذلك كائنا حيا موجودا وقاموا بتصغيره. بدأوا بجينوم خلايا المايكوبلازما، وهي عبارة عن بكتيريا طفيلية تصيب الماشية والماعز، وقريبة من المفطورة التناسلية، والتي لديها أقل عدد من الجينات، فقط 525 منها معروفة من بين البكتيريا التي تعيش حرة.

قسم الفريق جينوم خلايا الميكوبلازما إلى ثمانية أجزاء، وبدأ بحذف الجينات واحدة تلو الأخرى. إذا لم يكبر الكائن، تٌترك الجينة بداخله. أما إذا لم يظهر أي تغيير، فيتم الاستغناء عليها. في النهاية، كانت هناك حاجة إلى 473 من الجينات لكي ينمو الكائن الحي. (البشر على سبيل المقارنة، لديهم ما يقرب من 20.000 من الجينات).

ومن أهم النتائج التي توصل إليها فريق فنتر أن الإنسان لا يعرف الكثير عن البيولوجيا الأساسية للحياة. أكثر من 473 جينة تٌعنى بالجهاز الداخلي: فهي تصنع البروتينات، وتقوم بالحفاظ على الحمض النووي في حالة جيدة، وهي مسؤولة عن غشاء الخلية والسيتوبلازم. لكن هناك 149 جينة وظيفتها غير معروفة. وبعبارة أخرى، فإن سبب الحاجة إلى ما يقرب من ثلث الجينات للحفاظ على الكائن الحي المستنسَخ على قيد الحياة يظل مبهما.

من أصل 149 جينة ذات وظائف معروفة، 70 منها لها هيكل على الأقل يلمح إلى دورها في الخلية. لكننا لا نعرف شيئا عن 79 جينة متبقية، سوى أن الحياة في هذه الكائنات الحية وفي هذه البيئة مستحيلة بدونها. وعلاوة على ذلك، فقد اكتشف فنتر وزملاؤه أنه إذا بدأت المجموعة مع ميكروب مختلف، أو نمت في بيئة مختلفة، ستكون الجينات الضرورية مختلفة. وبذلك فان الجينوم برأيهم هو أصغر جينوم، وليس الجينوم الأصغر.

ومن بين الأهداف الرئيسية لعلم الأحياء الاصطناعية خلق برنامج أو هيكل، يتمثل في استخدامه كقاعدة أساس لبناء كائنات مصممة لأداء مهام محددة. تماما كما تستخدم فولكسواكن برنامج A5 لصنع 19 سيارة مختلفة، من أودي A3s الفاخرة إلى سيارات الدفع الرباعي الصغيرة والأنواع الاقتصادية، إن الهيكل البيولوجي هو أصغر برنامج جرثومي يمكن ربطه بالتعليمات الجينية الضرورية لصنع الأدوية والوقود الحيوي، ومستحضرات التجميل، و كل ما يرغب فيه الإنسان.

من خلال نشر بحث مجلة العلم، أصبح أمامنا تحديان واضحان. الأول هو أن علم الأحياء معقد. وكما أظهر بحث فنتر، ليس لدينا حتى الآن المعلومات الكافية عن أساسيات البيولوجيا الأساسية لتصميم وبناء خلية. فالجينات لا تعمل مثل المصدات أو الفرامل. كما لا يمكن تركيبها على هيكل لأداء وظيفة بشكل مستقل عن المكونات الأخرى. الجينات تتفاعل - تتكاثر وتنخفض أو حتى تٌسكِت بعضها البعض. وهذه النتيجة، في المقابل، تؤثر بالمثل على الجينات الأخرى.

واتضح أن الجينومات تعمل مثل النظم الإيكولوجية بالنظر إلى العلاقات الكثيرة وحلقات ردود الفعل المعقدة أكثر من الآلات. فإضافة أجزاء الجينوم لكائن اصطناعي من أجل تحقيق النتيجة المتوقعة قد يكون أصعب بكثير مما كان يفترضه مؤيدو نموذج الهيكل.

أما التحدي الثاني فيتعلق بالمنافسة. عندما بدأ فنتر وفريقه ببدل جهودهم، كان لدى المهندسين الوراثيين أدوات أقوى، وهي وفقا للمعايير الحديثة تدعى النفط الخام. وفي السنوات الأخيرة، وجد العلماء طرقا لتعديل الجينات بدقة أكبر. أبرزها معروفة باسم كريسبر كاس 9، تقطع الحامض النووي DNA بدقة كبيرة (وإن لم يكن كاملا). ونتيجة لذلك، ظهر تصحيح الجينات باعتباره إستراتيجية بديلة لنموذج الهيكل لصنع الميكروبات وصنع منتجات مفيدة.

يمكننا القول إنه من المستحيل معرفة ما إذا كانت الكائنات الاصطناعية مثل كائن فنترJCVI-syn3.0 أو تقنيات تصحيح الجينات ستثبت أنها مهيمنة تجاريا في مجال التكنولوجيا الحيوية-أو حتى ما إذا كانت بعض الطرق الأخرى سوف تحل محل كليهما. ولنا اليقين أن معرفتنا للبيولوجيا الأساسية ستصبح أعمق، وأن قدرتنا المتزايدة على التعامل مع الكائنات الحية سوف تواجهها اعتبارات أخلاقية خطيرة للغاية.

* الرئيس الفخري في مركز هاستينغز وأستاذ زائر في جامعة سنغافورة الوطنية

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق