q
طرح مركز المستقبل ورقة نقاشية تحت عنوان (دور الدبلوماسية الدينية في حل الأزمات). هل بإمكان المرجعيات الدينية أن تقوم بدورٍ ناجح في مجال حلّ الأزمات؟ هل تتمكن من أداء وظيفة ذات طبيعة سياسية ودبلوماسية؟ في وقت فشلت فيه الحكومات والمنظمات الدولية في تسوية الأزمات وإنهاء الحروب...
قسم التحرير/مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية

طرح مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية ورقة نقاشية في ملتقاه الشهري بمشاركة مجموعة من الباحثين والأكاديميين، ضمن فعاليات ملتقى النبأ الأسبوعي في محافظة كربلاء المقدسة، حيث تناول الملتقى من خلال مواقع التواصل الاجتماعي موضوعا تحت عنوان (دور الدبلوماسية الدينية في حل الأزمات).

قدم الورقة النقاشية الدكتور قحطان حسين طاهر، الباحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية، قائلا: "تمتلك المرجعية الدينية درجة كبيرة وواضحة من التأثير على أفكار وسلوك أفراد المجتمع وخصوصا في المجتمعات المتديّنة، ولا يخفى وجود حاجة إنسانية ماسة للدين سابقا وحاضرا ومستقبلا وكما يقول الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي أرنست رينان (ت1892م): "من المستحيل أن تتلاشى الرغبة في الدين، أو تمحى من النفس الإنسانيّة، بل إنّها خالدة وسوف تبقى إلى الأبد"، وبما ان المرجعيات الدينية محل الثقة وذات المقبولية تمثل البوابة التي يدخل منها الفرد للدين فإنها ستبقى مالكة للاحترام والحضور والتأثير لدى فئات واسعة من طبقات المجتمع.

ولمّا كانت المرجعيات الدينية تحظى باحترام ومكانة كبيرتين لدى الأغلبية من أفراد المجتمعات، فإن السؤال الذي يبرز هنا هو: هل بإمكان المرجعيات الدينية أن تقوم بدورٍ ناجح في مجال حلّ الأزمات سواء منها المحلية أو الإقليمية أو الدولية؟ بمعنى آخر هل تتمكن المرجعيات الدينية من أداء وظيفة ذات طبيعة سياسية ودبلوماسية؟ في وقت فشلت فيه الحكومات والمنظمات الدولية في تسوية الأزمات وإنهاء الحروب في أماكن متعددة في العالم الواسع.

ولعل الإجابة عن هذا السؤال تتطلب أولا بيان عناصر القوة التي تمتلكها المرجعيات الدينية المتعددة والتي من أهمها:-

1- تمتلك المرجعيات الدينية مكانة واحترام كبيرين لدى الحكومات والشعوب على السواء كونها تمثل مؤسسة دينية تحمل الكثير من الأهداف والقيم الإنسانية التي تسعى لخدمة البشرية وإصلاح المجتمعات مما علق بها من مظاهر الجهل والفساد والظلم والسلوكيات البعيدة عن العدل والحق، لذلك فإن ما يصدر من المرجعيات الدينية من آراء ومواقف وفتاوى وغيرها يحظى بمقبولية وثقة من قبل فئات واسعة من الحكومات والشعوب، كما ان أي مبادرة تتبناها المرجعيات للتوسط بين أطراف أزمة ما تكون مقبولة ومرحب بها.

2- تتميز المرجعيات الدينية بامتلاكها علاقات واسعة محليا وإقليميا وحتى دوليا وعلى المستويين الحكومي والشعبي وذلك من خلال شبكة معتمديها ووكلائها المنتشرين في بقاع كثيرة من العالم لمتابعة شؤون أتباعها ومقلديها.

3- إن رجال المرجعيات الدينية مؤهلين من الناحية العلمية والثقافية والفكرية للقيام بأدوار دبلوماسية وسياسية لحلّ المشكلات والأزمات كونهم يمتلكون مهارات ومعلومات وأساليب جيدة للتعامل مع المواقف وذلك بحكم دراستهم لمختلف أنواع العلوم الإنسانية في المدارس الدينية.

4- إن أغلبية المرجعيات الدينية -كقاعدة عامة مع وجود استثناءات- لا تسعى للحصول على السلطة السياسية ولا تهدف للهيمنة على الحكم السياسي أو التحكّم بمصير الشعوب، بل إنها تحاول قدر الإمكان تقديم النصح والإرشاد لمالكي السلطة لضمان استقامتهم في مهامهم، وعليه فإن الحكومات تشعر باطمئنان تجاه المرجعيات الدينية ولا تعدها منافسة لها وبالتالي تسعى الحكومات لكسب ود المرجعيات الدينية وعدم إغضابها.

ولكن رغم المزايا التي ذكرناها أعلاه فإن المرجعيات الدينية تواجه عددا من التحديات والعقبات التي تقلل من فرص قيامها بأدوار دبلوماسية وسياسية لحلّ الأزمات ومن أهم هذه التحديات:-

1- إن المرجعيات الدينية لا تمتلك سلطة إكراه أو وسائل ضغط كتلك التي تمتلكها الدول القوية أو المنظمات الدولية كمنظمة الأمم المتحدة، والتي يمكن ان تستخدمها لتعزيز دورها الدبلوماسي والسياسي أثناء تدخلها كوسيط أو مفاوض أو موفق بين اطراف أزمة أو حرب معينة، فالسلطة التي تمتلكها هذه المرجعيات هي سلطة روحية فقط، وبالتالي هي غير قادرة على إجبار اطراف الأزمة أو الحرب على القبول بحلول أو تسويات معينة.

2- تتطلب الأدوار الدبلوماسية والسياسية أحيانا اتباع أساليب المكر والدهاء والخداع من أجل تحقيق غايات معينة، وبما ان المرجعيات الدينية ينبغي ان تلتزم الأخلاق والوضوح والاستقامة في جميع نشاطاتها ومهامها، لذلك فإنها قد لا تستطيع إتقان الأدوار الدبلوماسية والسياسية بدرجة تضمن النجاح في حلّ الأزمات.

3- إن ظاهرة تعدد المرجعيات الدينية ضمن الدين الواحد أو المذهب الواحد إلى درجة التنافس مع بعضها أحيانا، قد تخلق أجواء غير مشجعة لقيام أحد هذه المرجعيات بدور دبلوماسي أو سياسي لحل الأزمات لأنها قد تتعرض إلى هجمه إعلامية أو اتهامات زائفة، ربما تقلل من اندفاعها للقيام بمهمتها الدبلوماسية.

4- إن القيام بدور دبلوماسي أو سياسي لحل أزمة ما يُعد نشاطا سياسيا بارزا وواضحا وقد يتناقض هذا النشاط مع الفلسفة والمنهج الفكري الذي تتبناه العديد من المرجعيات الدينية والقاضي بعدم التدخل في الشؤون السياسية إلاّ عند الضرورة القصوى، لذلك تنأى العديد من المرجعيات الدينية بنفسها عن ما يحصل من أزمات ذات طبيعة سياسية.

5- سيادة صورة نمطية خاطئة ومتجذرة قائمة على فكرة عدم ثقة الأديان والمذاهب المختلفة ببعضها ووجود اتهامات متبادلة بأن كل دين يسعى للتمدد على حساب الآخر وهذا يقلل من فرص التعاون والتفاهم والتكامل ما بين الأديان والمذاهب في مجال القيام بأدوار دبلوماسية.

ان التحديات والعقبات مهما كانت صلبة لكنها تبقى قابلة للتخطي بما يمهد لتأسيس حوار إنساني تتبناه المرجعيات الدينية لكل الأديان، وهو البديل عن خيارات العنف والحذف، وعلى الرغم من هيمنة منطق الإلغاء والإقصاء، واستخدام القوة لفرض الحلول للمشكلات الدولية، لكن لم تتوقف اللقاءات بين المرجعيات المختلفة الفكرية والدينية لبحث القضايا الدينية وغير الدينية، ولعل آخرها وأكثرها حضورا هو زيارة البابا فرنسيس إلى العراق ولقاءه بالمرجع الديني السيد علي السيستاني.

والمتابع للشأن الثقافي والديني يجد أن ثمة عددا كبيرة من الندوات والحلقات العلمية قد عقدت لدراسة آثار ونتائج هذا اللقاء وكيف يمكن توظيفه لإيجاد رؤية جديدة قائمة على ضرورة تكامل الأديان لخدمة الإنسانية جمعاء وكسر الصورة النمطية المتجذرة عن الآخر الديني.

ويمكن تبني مبادرات دبلوماسية تسعى لتشكيل هيئات وجمعيات ومنتديات تشتغل على تعزيز الحوار بين الأديان والتقريب بين الشعوب وتوحيد الجهود والتنسيق المتواصل لغرض القيام بكل ما يخدم البشرية لانتشالها من الازمات، ومن أجل تعزيز الدور الدبلوماسي للمؤسسات الدينية يمكن الاستعانة بالجامعات ومراكز الأبحاث الرصينة في تقديم دراسات ناضجة حول آليات عمل الدبلوماسية الدينية.

ولتسليط الضوء أكثر على الموضوع، طرح الدكتور الباحث السؤالين الآتيين:

أولا: هل من الممكن أن تؤدي المرجعيات الدينية ومؤسساتها أدوارا دبلوماسية لحل الأزمات؟

ثانيا: ماهي الشروط والعناصر اللازمة لنجاح الدبلوماسية الدينية؟

المداخلات

تصاعد الدبلوماسية الشعبية

الدكتور اسعد كاظم شبيب أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكوفة:

"تمثل الدبلوماسية عاملا رئيسيا في التمثيل السياسي للدول والمنظمات المعنية، ولم تعد الدبلوماسية في عصرنا هذا مقتصرة على التمثيل الخارجي الرسمي للدول وإنما شملت أنواعا أخرى ومنها ما يمكن أن نسميه بالدبلوماسية الشعبية، وإذا ما كان ممثلي الجهة المفاوضة يحسبون على جهات شعبية أخرى فيطلق عليهم ذات التسمية أو تعد فرعا منها أو ما سمي بالدبلوماسية الدينية التي تربط بهذه الوحدة الشعبية، وطالما أن الظاهرة الدينية بات لها نفوذا وتأثيرا خارج حدود جغرافيتها العقائدية والسياسية، فإن من الممكن أن تؤدي أدورا دبلوماسية مهمة في حل الأزمات ومعالجتها ولا ننسى أن الكثير من النزاعات تحمل أوجه من الصراع الديني أو الطائفي.

من هنا يقع على عاتق المؤسسات الدينية مسؤولية كبيرة في التدخل في حل هذه الأزمات إذا ما توفرت البيئة والمقبولية من كل الأطراف ذات العلاقة، وبالتالي قد تدخل دبلوماسية رجال الدين والمؤسسات الدينية في انفراجات أساسية، لكن ينبغي لها أولا الابتعاد عن لغة التبشير وفرض الأجندات الخارجية والالتزام بالاطروحات العقلانية انطلاقا من مبادئ الأديان والواقع الإنساني السليم، فمثلما يؤدي الدبلوماسيون والمبعوثون أدوارا في تمثيل دولهم من خلال حل المسائل المناطة بهم، تؤدي القنوات الخلفية وغير الرسمية أدورا لا تقل أهمية عن دور الدبلوماسيين والمبعوثين وتأتي في مقدمة القنوات الخلفية رجال الدين وعموم رجال المؤسسة الدينية وزعماء الطوائف ومؤسسات أخرى كقوى المخابرات وزعماء القبائل ومؤسسات اجتماعية، في عصر عرف بتآكل السيادة بمعناها التقليدي ودخول قوى شعبية أصبحت مؤثرة في المشهد الداخلي وتحظى بمقبولية كبيرة على المستويات الخارجية".

توجيه الرأي العام والتغيير

الأستاذ جواد العطار عضو برلماني سابق:

"تعتبر المؤسسة الدينية في مختلف المجتمعات جزءا مهما من المنظومة السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية وفي توجيه الرأي العام وإرشاده، وتنقسم إلى مدرستين:

- المحافظة: وهي المؤسسة التي تلتزم جانبي الإرشاد والنصح والتثقيف الديني للمجتمع والفتوى؛ دون التدخل بالشأن السياسي.

- الإصلاحية: وهي المؤسسة التي تلتزم جانب الإرشاد والنصح والتثقيف الديني للمجتمع والفتوى، مع حملها لرؤية ومشروع يبيح لها التدخل بالشأن السياسي عند الضرورة من اجل التغيير نحو الأفضل.

ورغم الفارق البسيط في الرؤى بين المحافظين والإصلاحيين، إلا أن كلا الجانبين يلعب دورا إيجابيا في حل الأزمات وحلحلة مشاكل المجتمع كل حسب طريقته ورؤيته بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بالدعوة إلى الصلح أو بالتدخل بين جانبي الأزمة عبر جمعهما على طاولة حوار واحدة أو باتخاذ قرار جريء يعالج الأزمة ويحد من تداعياتها، وبالنتيجة فإن كلا المدرستين المحافظة والإصلاحية في العالم الإسلامي حصرا تمتلك دورا إيجابيا ومحوريا في الشأن العام وتوجيه المجتمع نحو الخير والصلاح.

وبالتالي أصبحت المؤسسة الدينية في العصر الحديث تتمتع بأدوار متعددة أهمها:

1- القدرة على توجيه الرأي العام.

2- إمكانية التأثير في صناعة القرار.

3- القدرة على التغيير.

وبالفعل فالحوادث التاريخية تثبت أن للأزهر دورا كبيرا في مقاومة الاحتلال الفرنسي لمصر، وبان للمرجع الميرزا محمد حسن الشيرازي وعائلته دورا في مواجهة التمدد البريطاني في إيران والعراق عبر ثورتي التنباك في إيران والعشرين في العراق، وقاد السيد الخميني التغيير في إيران عام ١٩٧٩ بإسقاط نظام الشاه، ومرجعية المجدد محمد الشيرازي كان لها دورا كبيرا في الثورة الثقافية والعدد الكبير من مؤلفاته ومؤسساته المختلفة التي أنشأها، والسيد السيستاني كان له الأثر الكبير في استيعاب دخول قوات الاحتلال الأمريكي إلى العراق عام ٢٠٠٣ وكيفية التعاطي معها والدور الأكبر في مواجهة داعش عبر إصدار فتوى الجهاد الكفائي.

إذن أصبحت المؤسسة الدينية في العالم الإسلامي ذات تأثير كبير في توجيه الرأي العام والتغيير وفرض مكانتها على ارض الواقع لا بالقول بل بالعمل، حتى أن بابا الفاتيكان وهو الحبر الأعظم بالعالم يزور النجف الأشرف ويلتقي بالسيد السيستاني لتقريب وجهات النظر بين الديانة المسيحية والإسلامية.

لكن، ليست كل مرجعية دينية لها المرونة والإمكانية في ترك التأثير الفعلي على المجتمعات إذا لم تتوفر فيها: المقبولية من أفراد المجتمع بمختلف طوائفه ومذاهبه ودياناته أولا؛، وثانيا؛ الحراك المؤثر والمسموع في القضايا الحساسة، وثالثا؛ السمعة الدولية الطيبة وهو قمة ما تصبو له أي مؤسسة دينية عندما يعبر تأثيرها المستوى المحلي إلى الدولي.

واليوم تقف المؤسسة الدينية في العراق والعالم الإسلامي أمام تحد خطير وهو التطور التكنولوجي الذي يستلزم تحديث الرؤيا وقبول التحدي وإيقاف معاول الهدم لكل القيم الدينية الأصيلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتي تستهدف إبعاد الشباب قوة البلد وعصب العمل والتطوير والتغيير عن دينهم والمؤسسات الدينية التي تتولى مسؤولية النصح والإرشاد، وهو تحد خطير يدخل ضمن آليات الحرب الخشنة على الإسلام ونرجو أن نتكاتف جمعيا بيتا ومدرسة ومؤسسة دينية لإيقاف خطره لأنه الأزمة الحقيقية حاليا".

قوة رافعة أساسية

الدكتور احمد عدنان الميالي أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد:

"من المؤكد أن المرجعيات الدينية قادرة على أداء أدوارا دبلوماسية تسهم في حل الأزمات وإدارتها، لما يمتلكه الدين من تأثير على الشعوب والمجتمعات بغض النظر عن طبيعة تلك المجتمعات ودور الدين فيه سياسيا، بل أجد أن الدين أحد مستلزمات ممارسة العمل السياسي إذا ما اعتبرنا أن السياسة عمل أخلاقي يهدف إلى تحقيق الخير العام وهذا يتلاقى مع مضامين الدين وادوار رجاله ومؤسساته في إحلال ذلك.

والتجارب التأريخية ماثلة وحاضرة في تجسيد دور المرجعيات الدينية وأداءها ادوار سياسية ودبلوماسية محلية ودولية والعكس صحيح أيضا، فكم من أزمة وفتنة وحرب نشبت بسبب الدور السلبي لهذه المؤسسة؛ وبالتالي تمتلك القدرة على تجسيد الدبلوماسية الدينية في أبعادها الإصلاحية والايجابية.

الاشتراطات والعناصر ترتبط بطبيعة تلك المرجعيات إذا ما كانت أصولها الفقهية تسمح بالتدخل، أو أساسا هي من تدير الشأن العام، فالمجال سيكون أوسع إذا ما كانت تعتقد بضرورة إسهام الدين في إدارة الدولة، أما المرجعيات المحتاطة أو التي تنيط إدارة السياسة للأمة، فيجب سؤالها لتقديم وتحويل النصائح والبيانات المقومة لقواعد العمل السياسي إلى خريطة طريق وحلول وحركات ضاغطة منظمة من أجل التصحيح والإصلاح، فالمرجعيات التي تفصل بين دورها الديني عن السياسي يشترط لكي تقوم بدور الدبلوماسية الدينية، رغم احتياطها في التعبير عن المواقف السياسية بشكل مباشر، يجب أن تُعد نفسها ومؤسساتها قوة رافعة أساسية غير متهمة سياسيا بأي نشاطات مخالفة لمبادئ الدين، لتحقيق وأداء ادوار دبلوماسية فاعلة في إدارة الأزمات وحلها داخليا وخارجيا".

نظام يرتدي زي الدين

الباحث حسن كاظم السباعي:

"رغم ما يتعرّض له الدين من هجمات واعتداءات ظالمة من قبل الملحدين أو المغرضين، أو ما يظهر بين الفينة والأخرى من تيار أو مد معادٍ للدين يغزو الساحة، إلا أنه فرض ولا يزال يفرض وجوده وتأثيره بقوة على كافة أصعدة الحياة، والجميع يشعر بتأثيره دون استثناء من المؤمنين به أو المعارضين له أو حتى أعدائه. وخذ مثال مبنى بداية التأريخ الميلادي والهجري حيث رغم أساسهما الديني (مولد السيد المسيح عليه السلام وهجرة رسول الإسلام صلى الله عليه وآله)، إلا أنَّ الجميع يستخدمه ويعترف به، ورغم المحاولات التي مورست طوال التاريخ لتغييرها لكنها باءت بالفشل.

هذا الأمر يصدق على كافة مجالات الحياة والتي لا أحد قادر على أن ينكر دور الدين فيها، ومنها دوره في حل الأزمات السياسية واحتياج ساسة العالم إليها، ولا ينسى العالم كيف استعان جورج بوش بالدين بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر، حيث وصف معركته ضد الإرهاب بالحرب الصليبية، وليس الرئيس السابق دونالد ترامب ببعيد حينما مارست الشرطة الأمريكية جريمتها العنصرية بحق مواطن أسود بعد الأرضية التي هيئتها خطابات ترامب التحريضية، فاستعان هو الآخر بالدين حينما التقط صورة تذكارية مع الإنجيل أمام مبنى الكنيسة!، هذا بغض النظر عن حقيقة اعتقادهما القلبي أو اعتقاد الرأي العام أو المجتمع الذي ألغى دور الدين والجانب الروحي وكل ما يرتبط بما وراء الطبيعة وجعلها حياة مادية بحتة لا تخرج عن إطار المادة الملموسة، مع كل ذلك فإنَّ تلك الأطراف تدرك ما للدين من أهمية وتأثير كبير في حل الأزمات.

ومن هنا وبناءً على هذا فإنَّ المرجعيات الدينية ومؤسساتها وباعتبارها المتصدية أو الداعمة لأمور الدين هي الأولى ممن لا يعتقد بها لكنه يلعب بدور الممثِّل المتدين. وللرأي العام أيضا قدرة التمييز ليعرف الصادق عن المزيف، فرغم وجود بعض الأنظمة (الدينية) ورغم قوتها ونفوذها إلا أن الطرف الآخر فضَّل الحوار مع المرجعية الدينية (الحقيقة) كما رأينا ذلك مؤخرًا في لقاء البابا مع السيد السيستاني.

هنالك خمسة شروط أساسية لنجاح العملية الدبلوماسية الدينية يمكننا اختصارها في:

أولًا: الحفاظ على الصبغة الدينية لدى المتصدين وعدم التلوث بالمسمّيات الأخرى أو بالتحزبات أو الانحياز إلى جهة معينة وكذلك الابتعاد عن أي صفقات سياسية مشبوهة.

ثانيًا: الشفافية مع الجمهور ويتمثل بالصدق وعدم الالتواء.

ثالثًا: البساطة كبساطة الدين.

رابعًا: ترك المصالح الشخصية والتنافس غير السليم فيما بين التيارات داخل المؤسسة الدينية، فإذا كان الهدف مصالح عليا عامة فلتغض النظر عن المصالح الخاصة حتى وإن برز تيار دون آخر.

خامسًا: أن يحمل المتصدّي أو الممثل للمؤسسة الدينية همَّ الدين والمذهب والحفاظ على اعتباره وسمعته ولا غير.

ولا يخفى أن أثر فقد تلك المفاهيم سوف يساوي بين المرجعيات الدينية وغيرها من الممثليات وبالتالي سيفرغ المحتوى من شيء اسمه الدين، ولنا في التاريخ المعاصر نماذج متعددة نجحت فيها المؤسسة الدينية حينما التزمت بتلك الشروط، نذكر منها بعض النماذج: ثورة التنباك، والحرب ضد داعش، والثورة الإسلامية واسقاط الشاه؛ ففي الحالتين الأوليتين حققت المؤسسة الدينية نجاحًا باهرًا يشهده الأعداء قبل الأصدقاء، بينما في الحالة الثالثة رغم أن بدايتها كانت ناجحة إلا أنها سرعان ما فقدت مصداقيتها حينما ابتعدت عن تلك الشروط اللازمة لتوهّجها، وكما أسلفنا فإنَّ الرأي العام اليوم أصبح قادرًا على كشف ما إذا كانت المرجعية حقّة وصادقة عن كونها مجرد نظام يرتدي زي الدين المقدَّس جاعلًا منه واجهة للتجارة".

تعزيز قيم التماسك المجتمعي

محمد كريم الخاقاني أكاديمي وباحث في الشأن السياسي:

"مع بدايات خلق الإنسان نجد بأن الحاجة إلى الدبلوماسية الدينية كانت متزامنة بالنظر لحاجات الإنسان ومجتمعه بعد تطوره إلى ضبط لسلوكيات وتصرفات تلك التجمعات البشرية وبما يسهم في الحفاظ على المتبنيات الضرورية لديمومة الحياة البشرية وفقاً للقيم الأخلاقية التي يؤمنون بها، ولكن مع تطور الزمن وغلبة التغيرات على المستويات كافة سواء من الناحية التأريخية والجغرافية، أدت في النهاية إلى تغليب القوة المادية التي أضحت تمثل الهدف الأول الذي تسعى إليه كل الدول، فكانت الحروب الدموية منذ الزمن الغابر ولغاية اللحظة الحالية السمة المميزة لتحقيق تلك الأهداف دون الرجوع لصوت العقل وغلبة التوجه الأخلاقي المتمثل بانتهاج طريق السلام والذي تمثله الدبلوماسية الدينية عبر تأكيد الدور المميز للزعماء الدينيين في حل وتسوية الخلافات والنِزاعات في مختلف أرجاء المعمورة.

ومن هنا تأتي الدعوة لاعتماد ذلك النوع من الدبلوماسية لحجم تأثيراتها وقوتها من الناحية المعنوية لتضفي نوعاً من الاحترام لشريحة لطالما مثلا دور السلام والمحبة ومن اجل زرع بذور الحب والوئام في المجتمعات البشرية، وعليه لابد من إعتماد الدبلوماسية الدينية على الرغم من الإختلاف في الديانات، فهي في الوقت ذاته تدعو إلى تبني قيم التسامح ونبذ العنف والعدل والمساواة بين البشر من دون تمييز، على الرغم من أن البعض يذكي صور الإختلاف في وجهات النظر بين المجتمعات البشرية لاختلافات في المعتقدات التي يؤمن بها البعض دون الآخر، أو في تبني ميولاً في الدين لا تتناسب مع ما يؤمن به البعض الآخر وهو ما يؤدي إلى التصادم والتنافر عند بعض المشككين الذين استغلوا تلك النقطة لتنفيذ مشاريعهم القديمة في تفتيت العالم وفقاً لمطامعهم.

وقد لا نبالغ بالقول بأن الدعوة لتغليب الحوار والدبلوماسية على ما سواها، هي دعوة لاقت ترحيباً كبيراً بعد ما عانت منه البشرية من ويلات الحروب ولاسيما في الحربين العالميتين الأولى والثانية في بدايات القرن العشرين وقبلهما الكثير من الحروب التي جرت بين مختلف الدول وعلى أسس دينية في بداياتها واستمرت بإشعالها لعقود طويلة، كل تلك الأوضاع أثرت بشكل أو بآخر على تطور الدبلوماسية وآلياتها وبما ينسجم مع تطور المجتمعات، فمرت الدبلوماسية بمراحل متعددة وصولاً إلى ما نحن عليه الآن، فكل مرحلة زمنية تظهر معها طريقة وآلية تتناسب والتعامل معها، فكانت الدبلوماسية تنتقل من شكلها السري إلى العلني، ومن دورها الفردي إلى الجماعي وبما يعود بالنفع والفائدة على الجميع، وكذا الحال بصيغ ومسميات مختلفة وحسب الوضع السائد فيها، فهناك الدبلوماسية الإقتصادية والبرلمانية ومكافحة الإرهاب وغيرها من الأنواع التي اعتمدتها الدول لبناء علاقات فاعلة وناجعة ولترسيخ التعاون فيما بينها والتغلب على ما يعترضها من مشاكل لتحقيق أهدافها.

ويبدو اليوم بأن العالم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تعزيز تلك الخطط والإستراتيجيات التي تهدف إلى تفعيلها للقضاء على الظواهر التي تعاني مجتمعاتها وبالخصوص ظاهرة الإرهاب الذي ضرب الجميع ومن دون استثناء، ومن اجل عدم استغلال الدين في تنفيذ الأجندات وتفتيت الدول والعمل على خلق الانقسامات وتشجيع الفتن داخلها، نرى بأن الوعي الديني والضبط المجتمعي يجب أن يصب في خدمة أهداف الدول وليس بشكل سلبي على مقوماتها وأساسيات وجودها وبالتالي ستعزز الدبلوماسية الدينية من ذلك إذا ما اعتمدت قيم التماسك المجتمعي والدعوة إليه وتعزيز قيم التسامح بين أفراد المجتمع دون التمييز بين الجميع على أساس القومية والتنوع المذهبي وغيرها من الأمور التي تساعد على تبني مواقف ضيقة إستناداً على الإختلاف في الرؤى والتوجهات في الدين، وهذا ما يتطلب جهود فاعلة ومضنية للتغلب على معوقات العمل الجماعي والتماسك المجتمعي داخل الدول.

ولا يقتصر ذلك العمل على دولة ما، بل يشمل المجتمع الدولي برمته طالما انه في مرمى المخططات الخبيثة التي تستهدف اسس السلام والإستقرار والتعايش بين مكوناته، وهو ما يعني الدعوة الى تأسيس وضع حديد ووضع إستراتيجيات دولية لمواجهة التطرف الفكري الذي يعمل على ضرب المجتمعات من الداخل وزيادة الانقسامات، ويتطلب ذلك الشعور والقبول بالآخر المختلف عنهم، وهذا ما تسعى الدبلوماسية الدينية المتمثلة برموز كل ديانة في تحقيقه والعمل لجدية من اجل هدف السلام ونشره في العالم، ويمكن أن نجد مصاديق ذلك العمل في الدعوة لتأسيس مشروع الحوار الإنساني عبر الدعوة للقاء كل من بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر من اجل التسامح ونبذ العنف وهي من دون شك خطوة فاعلة من خطوات العمل الجماعي لتأسيس خطوة السبق في توحيد الجهود في العالمين المسيحي والإسلامي من اجل الارتقاء بالعمل الإنساني بعيداً عن كل ما يعزز ثقافة التطرف ونبذ الآخر وعدم قبوله داخل المجتمعات البشرية، وتجلت تلك الخطوة أيضا في آذار ٢٠٢١ بزيارة البابا إلى العراق في زيارة من اجل الإنسانية جميعا ولقاءه الإمام علي السيستاني في خطوة وصفت بأنها تمثل الدور الفاعل لما يجب أن يقوم به الزعماء الروحيين في تهدئة الأوضاع وتسوية النزاعات في مختلف أنحاء العالم.

ونرى بأن الدعوة لتفعيل الدبلوماسية الدينية هي بداية لمرحلة جديدة تهدف إلى إستثمار الرمزية التي يحظى بها رموزها الدينية وفي مختلف الديانات إنما تمثل منطلقاً لتطبيق ما تنص عليه الشرائع السماوية والدعوة إلى إنتهاج أفكار العدالة والمساواة والقبول بالاختلاف العقائدي، وهي تمثل صورة واقعية أملتها عليها الظروف التي يمر بها العالم".

تجارب المؤسسات الدينية

الدكتور باسم علي خريسان:

"المؤسسات الدينية كغيرها من المؤسسات يمكنها أن تلعب دور دبلوماسي داخلي أو خارجي، لكن الإشكالية هل تمتلك المؤسسة الدينية الأدوات المطلوبة لذلك؟، وهل لديها رغبة في فعل ذلك، وهل تمتلك القاعدة المعرفية في مجال النشاط الدبلوماسي، وهل توجد تجارب سابقة بالإمكان الاستفادة منها، وهل يمكن الاستفادة من تجارب المؤسسات والمرجعيات الدينية في العالم مثل الفاتكان ومرجعية دينية مثل دلايلاما ورجل الدين المسيحي في جنوب أفريقيا القس توتو وغيرها من التجارب؟، اعتقد الموضوع مهم يحتاج إلى دراسة أعمق وأوسع".

غرس السلوك الديني

الأستاذ حسين عليوي- كلية العلوم السياسية في جامعة الكوفة:

"منذ أن ولد الإنسان امتزجت بخوالجه العقلية الكيفية البنوية العقائدية التي كان يبحث لها عن تفسير وهذا ما دلت به الكتب السماوية والرسالات النبوية فترادفت الأديان تنزيلا على بني البشر لتقويم آدمية الإنسان للدلالة الجازمة التي يصح معها القول إن الإنسان والدين ترافقا روحا وتصرفا، لذلك فأن البحث في علم الأجيال البشرية والحضارات الإنسانية ربما تخلو من بعض المقومات إلا المعابد والأديرة والكنائس ما يدلل على حقيقة أن للأديان والعقائد دور كبير في تنشئه وتقويم الإنسان وبغض النظر عن اتجاهاته وميوله العقائدية، وشكل ذلك امتدادا لبني البشر في امتداد العصور البشرية لتمثل الثورات الدينية منعطفات حادة وفاصلة في هيكلة البنية الإنسانية كما حصل في أوروبا، ولعل صكوك غفران الكنسية شاهدا في رسم حتمية الحكام وأدلجة الحياة السياسية في العصور الوسطى للدرجة التي مثل ذلك مفصلية هامة في شرعنة البعد النظمي للسيرة السلطوية رغم الإقرار بن وستفاليا مثلت انتقاله هامه في شطر المقاربات الديني لأساس جديد في هيكلية الدولة الحديثة بقاطرة اسمها العولمة وتشكل بذلك فرقة هامة بين الدين والسياسة التي أطرت مقاربة جديدة لحياة الكيانات السياسية ورغم ذلك بقي الدين والحداثة صنوان لم يفت من أثره تكنولوجيا وتقانة بني البشر ليتم الجزم أن مثابات الإنسان التقنية لم تفصله روحيا عن العقائدية والديانات التي تشمل جوهر نظرته للعالم الآخر والذي عجز عن خلعه منطلق العلوم الصرفة فلازالت تملك الكثير من الأدوات التي يمنها من أن تعيد قاطرة الدول بحكامها إلى جادة التحليل والتحريم وعدم المنطقية، لذلك لا يمكن إغفال تأثير الأديان سواء كان منه ببعد دبلوماسي أو عقائدي في حياة البشر، لكن لذلك مستلزمات يتوجب توافرها في المرجعية الدينية ومنها الحياد والرشد والأعلمية وسهوله الأحكام وكارزما رجل الدين والذي يشكله المقام الدنيوي ببعده العقائدي حتى يتمكن من غرس السلوك الدنيوي ديني بعيدا عن إلصاق الفتيا الدينية بخصوصية مجتمعية أو عرقية معينة".

رسائل سلام وطمأنينة

حيدر الاجودي باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

"للمؤسسة الدينية صلة وثيقة بحياة الإنسان، تشاركه أفراحه وأحزانه ومختلف أوجه حياته، فإن للخطاب الديني تأثيره الخاص على سلوك الجمهور من حيث أفكاره ومعتقداته، هو الأمر الذي يعني ضرورة التزام المؤسسات الدينية بدورها المجتمعي إزاء أزمة معينة تطرأ على الساحة المجتمعية أو السياسية أو الثقافية فضلا عن الدينية، من حيث القيام بعدد من الممارسات التي تشترك مع مؤسسات أخرى تكون ساندة لها كمنظمات المجتمع المدني من اجل مواجهة خطورة الأزمة ودفع آثارها المتوقعة.

فالمؤسسة الدينية تهتم ببعث رسائل سلام وطمأنينة ونشرها بين المجتمع، حتى يتجاوزوا حالة الخوف والهلع، ويعود للمجتمع سلامهم الداخلي والتفكير الهادئ الموضوعي الذي يمكنهم من التعامل بجدية مع تداعيات الأزمة المطروحة، وهذا الأمر لا يتم إلا بعد أن يحصن رجال المؤسسة الدينية أنفسهم أولا بالتوعية بمسؤولياتهم نحو تحصين الآخرين، وحماية أنفسهم فكريا ومعرفة ما وراء الحدث لكي يسهل عليهم حماية المجتمع ففاقد الشيء لا يعطيه، إضافة إلى أن هناك آمالا معقودة على المؤسسة الدينية في رأب الصدع وترقيع كل شق يحدث في المجتمع نتيجة الأزمات، وليس من المقبول أن يكون دورها الصمت دون أن تضع الحلول المناسبة وكأن شيئا لا يعنيها ومحاولة الخروج من عنق زجاجة الأزمة دون الانحياز إلى الحاكم أو لجانب الباطل في سبيل إرضاء الأهواء الشخصية أو المصالح الفئوية الضيقة".

وفي ختام الملتقى تقدم مدير الجلسة الدكتور قحطان حسين، بالشكر الجزيل والإمتنان إلى جميع من شارك وأبدى برأيه حول الموضوع.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2021 Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق