q
يوماً بعد آخر، تكبر معاناة المرأة العراقية التي لا تحسدها النساء في أي مكان من العالم على اوضاعها في عراق اليوم، على الرغم من الشعارات الرنانة، البراقة، التي احتوت كل ملامح الاغراء، ووعدتها بالكثير الكثير، فلم يتحقق من هذا الكثير حتى النزر القليل...

يوماً بعد آخر، تكبر معاناة المرأة العراقية التي لا تحسدها النساء في أي مكان من العالم على اوضاعها في عراق اليوم، على الرغم من الشعارات الرنانة، البراقة، التي احتوت كل ملامح الاغراء، ووعدتها بالكثير الكثير، فلم يتحقق من هذا الكثير حتى النزر القليل!

وحين يصار حديثنا عن هموم المرأة العراقية اليومية لابد ان نشعر بالحيرة .. كيف نبدأ ؟ او من اين نبدأ في خضم هذه الزحمة المرعبة والخلطة الغريبة من المتاعب والعذابات التي تكابدها المرأة العراقية، وتتحمل مشاقها بمنتهى القوة والصلابة والصبر، حتى غدا القول أن المرأة قارورة لاينطبق عليها، لأنها غير قابلة للكسر بتاتاً ! وهذا ما اثبتته اعوام المعاناة مع الحروب والحصارات وصولاً الى الضغوط الخرافية في عراق ما بعد التغيير.

اظن ان ايسر طريق للخوض في بحر الهموم ـ غير الازرق بالطبع ـ هو توجيه سؤال او بضعة اسئلة الى من يعنيه الامر او من لايعنيه :

ما الذي تعانيه امرأة، تعرض بلدها للاحتلال، وماج في شوارعه غول القتل، وحفرت فيه المفخخات حفراً عميقة مليئة بالذكريات الحزينة ؟!

ما الذي تعانيه امرأة تتجه الى الشيخوخة بسرعة، كأنها تسابق مقاييس الزمن التقليدي ماراثونياً وصولاً الى مرايا مليئة بالتجاعيد ؟!

المرأة العراقية، تسابقها الايام ايضاً، وقبل ذلك تسابقها المخاوف من ان تبتلع المفخخات وعصابات القتل كل اعزائها . فكم من امرأة مسكينة استقبلت ولداً او اخاً او اباً لها بلا رفات ..انما مجرد بقايا رماد حار ؟.. وكم من امرأة ترملت، واصبحت وحيدة في هذا العالم الوحشي، وتوجب عليها اعالة اطفالها وحمايتهم وايصالهم الى مرفأ الامان ؟ وكم من امرأة فقدت معيلها، واخذت تطرق الابواب وتستجدي الشفقة ؟!

انها تريد ان تصرخ بأعلى صوتها، علّ العالم يسمع الصوت والصدى .. تريد ان تعاد اليها كرامتها المهدورة تحت اقدام الاحتلال حينما داست تراب العراق، وحملت اليه كل هذه الفوضى.

انها تريد ان تنجلي الغمامة السوداء عن وجه سمائه، وتتحرر الشوارع من كل طارئ اقتحمها وغيّر جغرافياتها وشوه معالمها ..

انها تريد ان يتغير كل ذلك، لكي تسير في الشوارع وتقصد غاياتها بأمان ..

انها ترغب بالذهاب الى عملها اليومي من غير ان يحبسها الزحام الخانق ساعات في الشوارع المغلَقة بالحواجز الكونكريتية والاسلاك الشائكة، فيضيع الزمن منها عبثاً في الانتظارات المريرة التي تنهكها بشكل يومي مستمر ضاغط حتى الاعياء ..

انها ترغب بالتنزه في شوارع هادئة نظيفة غير مشوهة بالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة، بيد أن رغباتها لاتكفي، لأن ثمة قوة يجب ان تسندها لتحقيق تلك الرغبات التي تدغدغ وسائد كل النساء العراقيات اللواتي لايجدن في شوارع النهار ما يُفرح القلب، فيهرعن الى شوارع الحلم .

غير أن شوارع الحلم لم تعد هي نفسها، خاوية الاّ من اوراق الخريف المحبَبَة، والضوء المتوهج في نهاياتها ..

تلك الشوارع تتطفل عليها اصوات القصف الليلي الذي يتعرض اليه بعض المدن والامكنة في زمن الاحتلال، فلا تستطيع النساء اطباق اجفانهن على الاضواء والاوراق المتطايرة مع نسيم الهدوء، ويعجزن عن التنعم بالراحة بعد نهار شاق مزدحم بالاعمال والمسؤوليات والمتاعب.

وحينما يستعيد الليل هدوءه ثانية، تعود النساء الى وسائدهن، فيجدن شوارع الحلم قد غابت عن خرائطهن، واذا بكل واحدة منهن مثلها مثل قشة يبتلعها بركان المفخخات في كابوس لاينتهي ..

احد ملامح هذا الكابوس الواقعي .. غياب التيار الكهربائي عن منازل العراقيين على الرغم من انهم ينتمون الى القرن الحادي والعشرين .. قرن الانفجار المعلوماتي والتقنيات المذهلة، وليس عصر الكهوف الحجرية !!

وفي الوقت الذي يحق للمرأة ان تنعم، هي واطفالها، بنسمة هواء باردة تنعش اجسادهم في الجو الحار المهلك صيفاً ـ وهذا ابسط حقوقها وحقوقهم بصفتهم كائنات بشرية ـ تجد نفسها متعَبة، منهَكة، يستهلك الحر الشديد طاقة جسدها، حتى تفقد اعصابها .

قد يأتي التيار الكهربائي ساعة فقط في اليوم الواحد، فتستغلها لملء خزان الماء في الدار بوساطة المضخة الكهربائية ـ لأن الماء يعاني الشحة في العديد من الايام بسبب انقطاع التيار الكهربائي، فتضطر الى حمل القدور والدلاء،احياناً، بحثاً عن الماء خارج دارها ! وتحاول انجاز بعض الاعمال المنزلية التي تتطلب توفر الكهرباء .. لكن الساعة لاتكفي لانجاز المطلوب .. ويمضي الوقت، من غير ان تنعم بشيء من الراحة امام جهاز التبريد ..

يُعذبها ان تجد اطفالها يتلوون بسبب انقطاع الكهرباء، ويصايون باعراض مَرَضية شتى ناجمة عن الحر من غير ان يفهموا لماذا يتوجب عليهم ان يعانوا هكذا،لأنهم لايملكون المقدرة المالية التي تشتري لهم الهواء البارد !!

تقول كل امرأة عراقية تنتمي الى عائلة محدودة الدخل :

ـ احياناً، اتصور انني فقدتُ القدرة على الاحتمال، فأتمنى الخلاص من هذا العالم الكئيب، لأن حياة كالتي نحياها، انا واطفالي، تدفعنا الى الجنون، فأنا لاانفك اتساءل ان كان دخلنا الشهري سيصمد امام غول الاسعار المتضخمة الذي يجعلني قلقة باستمرار، وخائفة من ان يجعلنا لقمته السائغة ذات يوم لانجد فيه ـ نحن ـ الرغيف ؟!

وازاء هذه الهواجس لااتوقف عن لعن الظروف المادية القاسية التي تمنعنا من توفير احتياجاتنا الضرورية، ومنها الكهرباء، طوال الوقت ..

ياللسخرية، احتلت اقوى دولة في العالم بلدي، ولم توفر له ابسط احتياجاته، مع انها تستطيع توفيرها بأشا رة يد واغماضة عين، لكنها لاتريد، لكي تستمر معاناتي ومعاناة اطفالي .

المثير للسخرية، ايضاً، انني ابنة بلد غني بالثروة النفطية، ومع ذلك اعاني الفقر والحرمان، وينهكني شراء عبوة نفط او اسطوانة غاز مصابتين بفايروس الغلاء .

هموم استهلكت المرأة العراقية، وامست علامة فارقة في حياتها فعكرت مزاجها، وغيرت، احياناً، من عاداتها وطقوسها الشخصية المعتادة ..

ربما سلبتها اعوام الحرمان والكفاح واللهاث وراء تأمين متطلبات العيش شيئاً من رومانسيتها ..

تقول اكثر من امرأة عراقية :

ـ اخذت الحرب مني الكثير، وسلبتني ظروف ما بعد الحرب ما هو اكثر .. ما عاد للوقت متسع لأهمس في اذن زوجي بكلمة حب، او حتى ابتسم له وهو عائد الى المنزل من عمله، ابتسامة من اعماق قلبي . فقد اختفت الابتسامة من شفتيّ، وهذا ما اكتشفته مؤخراً وانا انظر الى وجهي في المرآة، فتحسرت على تلك المرأة الشابة التي كانت ابتسامتها الهادئة واحدة من علاماتها الفارقة .. اين غابت تلك المرأة الشابة التي اختفت شفتاها من وجهي، فما عدت ابتسم ؟!

قبل الحرب، كنت استعير من المساء بعض الوقت، لأضع مساحيق التجميل، وارتدي ثوباً جميلاً تدغدغه نسمات المساء، واضع عطراً اخاذاً، قبل ان احمل طبق العشاء الى زوجي، فأسمعه يقول لي، وهو يتناول الطبق من يديّ انني افتح شهيته للطعام، مثنياً على حظه الكبير، لأن له زوجة مثلي .

كان ذلك في الماضي الذي اتمنى ان يعود، لأنسى معاناتي .. فأنا، اليوم، استقبل المساء الكئيب بشعر غير مرتب، وبوجه شاحب، وقلب حزين .

اسمع اصوات القصف واصداء المواجهات القتالية، فاشعر بقلبي يهبط الى كفي ..

وحين يطلب زوجي العشاء، اعدّه بتململ، واناوله طبق الطعام، وانشغل بمشاهدة نشرات الاخبار الساخنة بدلاً من الاستمتاع برؤية الافلام الرومانسية .

صارت الرومانسية في حياتنا خرافة، وامسى القتل لأيامنا عنواناً، واصبحت امرأة قلقة حد المرض، باكية حد الملل، متسائلة بشكل دائم عن موعد الخلاص من هذا الواقع المرير المليء بالدم ..

وهو تساؤل مشروع لأمرأة تريد استعادة ابتسامتها ومساءاتها الرومانسية التي لاتضج بالاخبار الحزينة التي تبثها الفضائيات، لكن من يعيد ابتسامتي لي، ويعالج ادماني على نشرات الاخبار وهجراني عاداتي القديمة التي كانت توثق علاقتي بزوجي .

هو، الآن، يشتكي مني ومن شعري المجعد ووجهي الحزين، يبحث فيه عن تلك الابتسامة التي محاها الزمن بحروبه وقتولاته التي يبدو انها لاتنتهي ..

عموماً، اشعر بالألم يبتلعني الى حد انني اعجز عن القول لزوجي ان ابتسامتي لن تعود الى شفتي الاّ حينما يبتسم ابناء شعبي، ومظهري لن يستعيد بريقه الاّ حينما يرتدي وطني ثوب البهاء .

انها امرأة متعطشة الى ابتسامة فجر جديد يغير لها احوالها، وينقلب على اوضاعها المزرية جذرياً، ففي الزمن الذي قيل انه سيكفل الحرية للجميع، نجد بعض قوانين الافراد قد حدّت من خطوات المرأة، وفرضت عليها واقعاً ترفضه المرأة في قرارة نفسها، لكنها قد لاتستطيع الجهر بالرفض في بيئة متحفظة تؤطر اخلاقياتها، في الغالب، النظرةُ القبَلية الضيقة الى المرأة ..تلك النظرة التي تفرض على المرأة مظهراً هي غير راغبة فيه، بيد انها تذعن، لتشتري سلامتها، ولاتعرض نفسها لخطر العقاب الظالم هباءً،اختاره لها رجال يتعرضون، تحت شعارات شتى، لحقها في الحرية التي تضمن لها كرامتها بصفتها امرأة وانسانة، فأذا بها محاصَرة بنظرة دونية تعيق شيئاً من تقدمها، وترغمها على تقديم الكثير من التنازلات في زمن لم يقدم للمرأة العراقية ما يجعلها قريبة ً من احلامها .. بل انه زمن سلبها الكثير لاسيما أن قوانين ما بعد التغيير حرمتها من المكاسب التي حصلت عليها في قوانين ثورة 14 تموز 1958 المتعلقة بالاحوال الشخصية ..

اذن .. ألسنا محقين حين نقول أن زمننا هذا قد سلب المرأة العراقية الكثير .. الكثير ؟!

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق