q
لم يتبلور مفهوم العدالة الانتقالية الدولية بعد، ليأخذ مكانه كجزء من قواعد القانون الدولي المعاصر. ولم تُفلح جهود ومبادرات الدول المتضررة في إقناع المجتمع الدولي بتبني هذا المفهوم، كما أن المجتمع المدني في هذه الدول لم يبادر بما فيه الكفاية في إطار دبلوماسية شعبية موازية للدبلوماسية الرسمية...

لم يتبلور مفهوم «العدالة الانتقالية الدولية» بعد، ليأخذ مكانه كجزء من قواعد القانون الدولي المعاصر. ولم تُفلح جهود ومبادرات الدول المتضررة في إقناع المجتمع الدولي بتبني هذا المفهوم، كما أن المجتمع المدني في هذه الدول لم يبادر بما فيه الكفاية في إطار دبلوماسية شعبية موازية للدبلوماسية الرسمية لينشئ رأياً عاماً ضاغطاً، يكون أقرب إلى محكمة ضمير.

وكانت ألمانيا قد اعترفت بماضيها الاستعماري في غزو ناميبيا، وفرنسا بمسؤولياتها عن الإبادة في رواندا 1994. كما أعلن قصر الإليزيه أن الرئيس إيمانويل ماكرون، اعترف في 3 مارس2021 بوجود تعذيب في الجزائر راح ضحيته المحامي علي بومنجل، على يد الجيش الفرنسي وهو جزء من مطالبات جزائرية باعتذار فرنسي، كما اعترفت بلجيكا بجريمة اختطاف آلاف الأطفال مختلطي العرق خلال الحقبة الاستعمارية، وكذلك أقرت هولندا بمسؤولياتها عن تجارة الرقيق خلال الحقبة الاستعمارية. كل ذلك يجعل من التحرك لتقنين فكرة العدالة الانتقالية الدولية، ضرورة ملحة لتنقية العلاقات الدولية، وخصوصاً لحل المشاكل التاريخية العالقة.

تقوم فلسفة العدالة الانتقالية على خمسة مبادئ رئيسية:

أولها، كشف الحقيقة، فما الذي حصل وكيف ولماذا؟ إضافة إلى معرفة الظروف التي تمت فيها تلك الارتكابات.

ثانيها: المساءلة للمرتكبين الذين أصدروا الأوامر أو قاموا بالتنفيذ.

ثالثها: جبر الضرر المادي والمعنوي لإبقاء الذاكرة حية، خصوصاً بإطلاق أسماء الضحايا على الأماكن العامة، مثل المدارس والمكتبات والنوادي والساحات والشوارع، وإقامة نُصب تذكارية كي لا تذهب تلك الذكريات المأساوية إلى دائرة النسيان؛ بل تبقى في دائرة الضوء والذاكرة.

رابعها: تعويض الضحايا أو عائلاتهم عما لحق بهم من أذى وألم وغبن وأضرار.

خامسها: إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية كي لا يتكرر ما حصل.

ويتركز الهدف في جانبين: الأول في عدم إفلات المرتكبين من العقاب؛ لأن مثل تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم، والثاني: تحقيق المصالحة بمعناها الشامل عبر إجراءات قانونية وقضائية واجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية وغيرها، وبالطبع فليس هدف العدالة الانتقالية، الانتقام، وإلا ستكون عدالة انتقامية، وإنما هو الوصول إلى تسويات مجتمعية لتحقيق التعايش السلمي وترميم الحياة السياسية، وفقاً لمبادئ التسامح والسلام ونبذ استخدام العنف وسيلة لحل الخلافات، واحترام حقوق الإنسان.

وإذا كانت تطبيقات العدالة الانتقالية بدأت بُعيد الحرب العالمية الثانية، وتطورت خلال نصف القرن الماضي، حيث اغتنت بتجارب العديد من دول أمريكا اللاتينية، وأوروبا الشرقية، وجنوب إفريقيا، فإن هذا المفهوم يكتسب بُعداً دولياً اليوم؛ بمعنى أنه لا يشمل الارتكابات التي حصلت داخل دولة ما؛ بل ارتكابات قامت بها دولة ضد شعب أو مجتمع في دولة أخرى.

المقصود بذلك، معالجة آثار الانتهاكات والتجاوزات والجرائم لحقوق الإنسان على المستوى الدولي، والهدف هو ذاته الذي جسدته مبادئ العدالة الانتقالية على المستوى الوطني، ويتلخص في الوصول إلى المصالحة الشاملة وتنقية الحياة بين الدول، وترميم علاقاتها وتحسينها بحل المشاكل الناجمة عن ارتكابات الماضي، بسبب الهيمنة الاستعمارية أو الاحتلال أو الحروب أو النزاعات التي سببت إلحاق الضرر بشعوب البلدان التي تعرضت للانتهاك.

ويمكن الإشارة إلى مبادرة مغربية رائدة جديرة بالتقدير، فمنذ عقد ونيف من الزمن ينشط «مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلام»، للوصول إلى صيغة تتبنّاها مؤسسات المجتمع المدني في الدولة المنتهَكَة حقوقها وفي الدول المنتهِكَة للحقوق، ضمن حراك حقوقي وقانوني دولي، تم التعبير عنه في «إعلان طنجة» كخلفية تأصيلية لمدونة، بإشراك الفرقاء من الطرفين في قاعدة المشترك الإنساني وحقوق الإنسان.

والمبادرة التي حظيت اليوم بدعم جهات حقوقية مغربية هي المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، والمركز المغربي للديمقراطية والأمن، لا تبحث في الماضي؛ بل هي بحث في المستقبل، بهدف إجلاء صورة الماضي الذي شهد تاريخاً مشتركاً لعلاقات غير متكافئة، سواء مع إسبانيا أو فرنسا، وذلك باقتراح وسائل جديدة لحل الخلافات على أساس حقوقي وإنساني توفّره مبادئ العدالة الانتقالية الدولية. ويتطلب ذلك الاعتراف بالأخطاء والممارسات السلبية والانتهاكات، والعمل على تحديد المسؤولية، وجبر الضرر والتعويض، وإصلاح النظام القانوني والعلاقات بين الفرقاء.

ولا يستهدف الأمر مساءلة الشعوب وتحميلها وزر السياسات الاستعمارية أو محاولات الهيمنة والاستعلاء والعنصرية، وفرض الاستتباع والخضوع على الآخر، وإنما يتطلب نزع صاعق التفجير بتسوية إنسانية وقانونية عادلة، بإنضاج الظروف المواتية لتقبل حلول طويلة الأمد، على أساس المصالحة وليس الانتقام أو الثأر.

ويمكن اقتراح مشروع اتفاقية دولية تتبنّاها الجمعية العامة للأمم المتحدة، تبادر إليه الدول المتضررة كجزء من تحرك دبلوماسي وقانوني، يسهم فيه المجتمع المدني، كمُكمل للدبلوماسية الرسمية في إطار مرجعية استباقية ووقائية لترصين القيم الإنسانية، والحوكمة الرشيدة على المستوى الكوني.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق