q
إسلاميات - القرآن الكريم

الآيات المكية والمدنية، الضوابط والثمرات

(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (14)

الضابط المضموني، فإن المحتوى يصلح غالباً فارقاً بين السور المكية والمدنية. فقد امتازت السور المكية بكثافة الحديث عن أصول الدين وما يلحق بها: الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله والتأكيد على قدرة الله تعالى. ذكر القيامة والجنة والنار. مجادلة المشركين وتهديدهم بالعذاب الإليم والتنديد بأعمالهم من سَفْك الدماء...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة آل عمران: الآية 7).

هذه الآية الكريمة تعد من الآيات المدنية إذ وردت في سورة آل عمران المشهور كونها مدنية، ولم تُستثنَ هذه الآية منها، وعلى حسب المنطق الضبابي – الغيمي فإن إدخال الأعداد والكميات والمتعددات في ضمن مجاميع وفئات، كإدخال الآيات القرآنية في مجموعتي المكي والمدني، يسهم في استجلاء حقائق أو اكتشاف أسرار أو تطوير رؤى، إضافة إلى أنه يمكن بذلك وضع حلول لمشاكل أو رصد طرق موصلة إلى مقاصد.

وإنطلاقاً من ذلك سيجري البحث عن أهمية تنويع الآيات القرآنية إلى النوعين والثمرات المتوخاة من ذلك، وذلك بعد تقديم تعريف المكي والمدني وما هي السور المكية وما هي السور المدنية وما هي الفوارق بين النوعين والضوابط والأطر العامة، وذلك في ضمن مطالب:

أسماء السور المدنية والمختلف فيها

المطلب الأول: أن السور المدنية كما قاله جمع من المفسرين هي: 1- سورة البقرة 2- آل عمران 3- النساء 4- المائدة 5- الأنفال 6- التوبة 7- النور 8- الأحزاب 9- محمد 10- الفتح 11- الحجرات 12- الحديد 13- المجادلة 14- الحشر 15- الممتحنة 16- الجمعة 17- المنافقون 18- الطلاق 19- التحريم 20- النصر.

وأما السور المختلف فيها فهي:

1- الفاتحة 2- الرعد 3- الرحمن 4- الصف 5- التغابن 6- التطفيف 7- القدر 8- لم يكن 9- إذا زلزلت 10- الإخلاص 11 و12 المعوذتين.

وأما السور المكية فما عدا ذلك وهو اثنتان وثمانون سورة(1) وهنالك أقوال أخرى في المسألة(2).

وجوه التسمية بالمكي والمدني

المطلب الثاني: وجه التسمية، وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال:

١ - أن المكّي ما نزل بمكة ولو كان نزوله بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة، ويعتبر مكيّا ما أنزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأطراف مكة كمنى وعرفات والحديبية، ويعتبر مدنيا ما أنزل على النبيّ في أسفاره ببدر وأحد وسَلْع من أطراف المدينة.

٢ - أنّ المكي ما وُجّه الخطاب فيه إلى أهل مكة، والمدني ما توجّه الخطاب إلى أهل المدينة.

3- أنّ المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله في مكة.

والضابط الأول ضابط مكاني، والظاهر انه لا توجد فائدة كثيرة في معرفة مكان نزول الآية، إلا في حالات خاصة أو للإحاطة التاريخية.

وأما الضابط الثاني فقد يقال أنه لا إطلاق له، كما سيأتي.

وأما الضابط الثالث، فهو الأكثر فائدة، حيث أنه يعتمد على حركة الآيات في نهر الزمن، ودلالاتها، وسيأتي.

الفوارق بين المكي والمدني

المطلب الثالث: أن علماء التفسير على مرّ التاريخ ذكروا ضابطاً عاماً تارة وفوارق متعددة تارة أخرى بين النوعين من الآيات، وهذه الفوارق يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أصناف: الفوارق الشكلية، الفوارق المضمونية، إضافة إلى فارق الخطاب أو ضابطه.

الفوارق الظاهرية - الشكلية

أولاً: الفوارق الظاهرية أو الشكلية:

1- أن السور المكية تتضمن مفردة كلا، كقوله تعالى: (كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى) (سورة المعارج: الآية 15-16) (كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) (سورة المدثر: الآيات 32-34) (كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا) (سورة المدثر: الآية 16) (كَلاَّ بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ) (سورة المدثر: الآية 53) (كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (سورة الفجر: الآية 17) (كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (سورة الهمزة: الآية 4) (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) (سورة الفجر: الآية 21) (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (سورة المطففين: الآية 18) (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) (سورة المطففين: الآية 15) (كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) (سورة الإنفطار: الآية 9).

2- أن السور المكية تحتوي على سجدة التلاوة، وهي أربع عشرة سجدة.

3- أن السور المكية مبدوءة بقسم وهي خمس عشرة سورة، ومنها سورة الصافات، والذاريات، والطور.

4- أن السور المكية تبتدأ بالحروف المقطّعة، مثل "الم"، "حم"، ما خلا سورتي البقرة وآل عمران، فإنهما مدنيتان بالإجماع كما قيل، وهناك خلاف في سورة الرعد.

5- وكل سورة افتتحت بالحمد فهي مكية، وهي خمس سور.

6- الطابع العام للسور المكية أنها تتميز بقصر الآيات، وبإيقاعها الشديد كـ(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ) (سورة القارعة).

(كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (سورة العلق: الآية 15-19).

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً) (سورة الواقعة: الآيات 1-7).

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ) (سورة الغاشية: الآيات 1-7).

(فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (سورة عبس: الآيات 33-42) وقد نوقش في هذا الضابط بأن بعض السور المدنية كذلك. ولعله يأتي.

الفارق بخطاب (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) أو (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

ثانياً: الضابط الخطابي، قالوا: (إن ما صدّر في القرآن بلفظ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) أو بصيغة (يَا بَنِي آدَمَ) فهو مكي؛ لأن الكفر كان غالبا على أهل مكة، فخوطبوا بيا أيها الناس أو يا بني آدم، وإن كان غيرهم داخلا فيهم. أما ما صدّر من القرآن بعبارة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدني؛ لأن الإيمان كان غالبا على أهل المدينة، وإن كان غيرهم داخلا فيهم. ويعترض على هذا القول:

أ- بأنه غير ضابط، ولا يفيد الحصر، لأن في القرآن ما نزل خطابا لغير الفريقين؛ مثل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) (الأحزاب: ١).

ب- وهذا التقسيم غير مطّرد، لوجود آيات مدنية صدّرت بصيغة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ووجود آيات مكية صدّرت بـ(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))(3).

وجاء في الإتقان في علوم القرآن:

(وأخرج عن ميمون بن مهران قال: ما كان في القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) أو: (يَا بَنِي آدَمَ) فإنه مكي وما كان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فإنه مدني.

قال ابن عطية وابن الفرس وغيرهما: هو في: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) صحيح وأما: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) فقد يأتي في المدني.

وقال ابن الحصار: قد اعتنى المتشاغلون بالنسخ بهذا الحديث واعتمدوه على ضعفه وقد اتفق الناس على أن "النساء" مدنية وأولها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وعلى أن "الحج" مكية وفيها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا).

وقال غيره: هذا القول إن أخذ على إطلاقه فيه نظر فإن سورة البقرة مدنية وفيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ). وسورة النساء مدنية وأولها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ).

وقال مكي: هذا إنما هو في الأكثر وليس بعام وفي كثير من السور المكية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

وقال غيره: الأقرب حمله على أنه خطاب المقصود به - أو جل المقصود به - أهل مكة أو المدينة.

وقال القاضي: إن كان الرجوع في هذا إلى النقل فمسلم وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فضعيف إذ يجوز خطاب المؤمنين بصفتهم وباسمهم وجنسهم ويؤمر غير المؤمنين بالعبادة كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار عليها والازدياد منها)(4).

وأكّد الاعتراض السابق بعض آخر بـ(أولاً: إذا كان الخطاب الوارد في السورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، فإنه أنزل في المدينة وما كان الخطاب (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) أو (يَا بَنِي آدَمَ) فإنه أنزل في مكة المكرمة.

تقول الرواية: وكل سورة فيها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهي مدنية.

وفي هذا نظر؛ فإن الخطاب المدني لم يكتف بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بل استعمل أيضاً (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في خطاباته:

كما هو الحال في سورة البقرة وهي مدنية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ...).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ…).

وفي سورة النساء وهي مدنية وفيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ).

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ).

وفي سورة الحج وهي مدنية الآيات 1. 5 . 49 . 73.

وفي سورة الحجرات المدنية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى…).)(5).

أقول: لكنّ هذا الاعتراض يمكن الجواب عنه وذلك إذا تممنا الضابط بمتمِّم بأن نقول: أن الآيات المكية هي ما صدّر الخطاب فيها بـ(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) أو (يَا بَنِي آدَمَ)، لكن مع ضميمة كون المأمور به من المستقلات العقلية أو من القضايا التي تعم البشرية فلاحظ الآيات الكريمات مرة أخرى ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ...) فان حسن عبادة الرب هو من المستقلات العقلية، على أنه تكليف وخطاب لكل البشرية.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (سورة البقرة: الآية 168).

(إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا).

وفي سورة الحج وهي مدنية، الآيات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) الآية:1.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) الآية 5.

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) الآيات: 49-51.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) الآيتان: 73-74.

وفي سورة الحجرات المدنية:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى…).

فهي بأجمعها من المستقلات العقلية، أو من الحقائق التكوينية العامة أو من الإنذار العام أو شبه ذلك.

وأما اعتبار الخطاب بـ(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كضابط عام لما نزل بالمدينة فقد يقال انه ضابط تام، فإن كل الآيات المصدّرة بها نزلت في المدينة.

ولا يصح النقض بالآية 77 من سورة الحج (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لأنها على المشهور نزلت أيضاً بالمدينة، نعم خالف في ذلك قليل مثل الزركشي إذ رأى أنها مكية.

خلافاً للقليل ممن قال بأن السورة كلها مكية كما عن ابن عباس ومجاهد وعطا. فتأمل

الفوارق المضمونية، في المحتوى

ثالثاً: الضابط المضموني، فإن المحتوى يصلح غالباً فارقاً بين السور المكية والمدنية.

مميّزات السور المكية

فقد امتازت السور المكية بكثافة الحديث عن أصول الدين وما يلحق بها:

- الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله والتأكيد على قدرة الله تعالى.

- ذكر القيامة والجنة والنار.

- مجادلة المشركين وتهديدهم بالعذاب الإليم والتنديد بأعمالهم من سَفْك الدماء، وأكل أموال اليتامى، ووأد البنات.

- تثبيت فؤاد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ودعوته إلى الصبر وتحمّل أذى المشركين.

- التطرق لقصة آدم وإبليس، ويستثنى من ذلك سورة البقرة.

- الحديث عن قصص الأنبياء والأمم السابقة، ويستثنى من ذلك سورة البقرة.

وقال بعضهم: (الغالبُ في القرآن المكي من حيث الموضوع الاهتمام بما يلي:

- الدعوة إلى توحيد الإله الذي أنكره المشركون، كما قال الله - تعالى - عنهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (الصافات: 35، 36).

- الدعوة إلى الإِيمان باليوم الآخر، وبعث الناس من قبورهم للحساب، إذ أنكر ذلك المشركون في مكة، وقد ردَّ الله عليهم بقوله: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (التغابن: 7).

- تحدي العرب - رغم فصاحتهم - أن يأتوا بسورة مثل هذا القرآن: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ..﴾ (يونس: 38).

- إيراد قصص المكذبين الغابرين: كقوم نوح، وهود، وقوم صالح، وشعيب، وموسى، وغيرهم، قال الله - تعالى - مهدّدًا مشركي مكة: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾. (الفجر: 6 – 14).

- الحث على الصبر: كقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ (المزمل: 10).

- جهاد المشركين بالقرآن، وجدالُهم بالحسُنى: كقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان: 52)، ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125).

- إقامة الأدلة الكونية والعقلية على توحيد الربوبية الذي يستلزم توحيد الألوهية مثال ذلك قول الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ (الغاشية: 17 – 20).) انتهى بتلخيص.

مميّزات السور المدنية

وأما السور المدنية فتميزت بأنها تتحدث:

1- عن شؤون الأسرة، كالنكاح والطلاق وشبهه.

2- شؤون المجتمع، كشؤون المنافقين مواصفاتهم.

3- شؤون الحكم، كالشورى والحرب والسلم والجهاد والمعاهدات الدولية.

4- عن التشريعات من عبادات ومعاملات ووسائل التشريع.

وقال بعضهم: الغالبُ في القرآن المدني من حيث الموضوع الاهتمامُ بما يلي:

1 - الدعوة إلى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله؛ لأنَّ المسلمين هاجروا إلى المدينة وأقاموا دولة الإِسلام فيها، فهم بحاجة للدفاع عن دينهم ودولتهم، لذلك نرى القرآن المدني يشجعهم على القتال، قائلًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ..﴾ (التوبة: 111).

2 - بيان أحكام الإِسلام: مثل حكم الربا الذي أعلن الله الحرب على فاعليه حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 278، 279).

3 - الحكم في الحدود: كحدِّ الزنا والسرقة وغيرها من الحدود التي تضمن الأمن والاستقرار في المجتمع، كقول الله تعالى في حدِّ فاعل الزنا: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ (النور: 2).

وقوله في حد السرقة: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (المائدة: 38).

4 - فضح المنافقين وكشف دخيلتهم وذكر أوصافهم: كقول الله تعالى في كشف نفاقهم: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ (المنافقون: 1).

5 - إسكات أفواه أهل الكتاب من اليهود وغيرهم ومجادلتهم لإِقامة الحجة عليهم: كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ (العنكبوت: 46).

6 - تحقيق النصر للمؤمنين في غزواتهم مع أعدائهم: كقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ (آل عمران: 123).)(6).

وجه أهمية التصنيف

المطلب الرابع: أهمية هذا التصنيف:

قال النيسابوري في كتاب (التنبيه على فضل علوم القرآن): (من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة وما نزل بمكة وحكمه مدني وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني وما يشبه نزول المدني في المكي … والآيات المدنيات في السور المكية والآيات المكيات في السور المدنية، وما حمل من مكة إلى المدينة وما حمل من المدينة إلى مكة … وما اختلفوا فيه فقال بعضهم: مدني وبعضهم: مكي ..)(7).

وقال السيوطي في (الإتقان في علوم القرآن): (ومثال ما نزل بالمدينة وحكمه مكي سورة الممتحنة فإنها نزلت بالمدينة مخاطبة لأهل مكة. وقوله في النحل: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا) إلى آخرها نزل بالمدينة مخاطباً به أهل مكة، وصدر براءة نزل بالمدينة خطاباً لمشركي أهل مكة.

ومثال ما يشبه تنزيل المدني في السور المكية قوله في النجم: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) فإن الفواحش كل ذنب فيه حدٌّ والكبائر كل ذنب عاقبته النار واللمم ما بين الحدَّين من الذنوب ولم يكن بمكة حدٌّ ولا نحوه.

ومثال ما يشبه تنزيل مكة في السور المدنية قوله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً) وقوله في الأنفال: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ) الآية.

ومثال ما حمل من مكة إلى المدينة سورة يوسف والإخلاص.

ومثال ما حُمِل من المدينة إلى مكة: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) وآية الرِّبا وصدر براءة وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الآيات.

ومثال ما حُمِل إلى الحبشة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) الآيات.

قلت: صح حملها إلى الروم.

وينبغي أن يمثل لما حمل إلى الحبشة بسورة مريم فقد صح أن جعفر بن أبي طالب قرأها على النجاشي)(8) ولكن في بعض كلماته تأمل(9)، ولعله يأتي بيانه.

المطلب الخامس:

فوائد معرفة المكّي والمدني وثمراتها:

معرفة التاريخ والسيرة

أولاً: الفوائد التاريخية، فإن التدبر في القرآن الكريم وفي حركة آياته الكريمة في نهر الزمن وكيفية توجيه الخطاب إلى المشركين في مكة أولاً وفي المدينة ثانياً يكشف لنا لمحات من تاريخ الجزيرة العربية، كما يكشف لنا عن سيكولوجية المشركين واليهود والنصارى وطريقة تفكيرهم ومدى قوتهم أو ضعفهم وتحالفاتهم وصراعاتهم وبعض مخططاتهم.

ثانياً: كما يكشف لنا التدبر في الآيات المكية والمدنية عن جوانب كثيرة من سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأخلاقياته وطرق تعامله مع الآخرين من مؤمنين ومنافقين ويهود ومسيحيين وكفار وملحدين وأعداء ومعاهدين.

استكشاف أسلوب التبليغ الأفضل

ثالثاً: يُمكّننا التدبر في الآيات المكية والمدنية من التعرف، بنحو المقتضي، على الأسلوب الأفضل في التبليغ والإرشاد، عندما نصطدم بمجتمع غريب عن تعاليم الدين الحنيف، كالمجتمع البوذي أو الهندوسي الياباني أو الصيني أو حتى الغربي أو الشرقي الذي لم يسمع عن الإسلام أبداً أو لم يعرف منه إلا الاسم وبعض الكلمات.

وقواعد علم النفس والاجتماع

رابعاً: ويساعدنا التأمل في الآيات المكية والمدنية على استكشاف قواعد في علم النفس وعلم الاجتماع والسياسة وغيرها من العلوم الإنسانية.

وتصلح كعامل مساعد للاستنباط الفقهي

خامساً: ويمكن أن يصلح ثنائي المكي – المدني، وتدرّج نزول الآيات، كعامل مساعد في عملية الاستنباط الفقهي، إما كدليل أو كمؤيد أو كمشعر أو كباعث على الإنصراف أو مقوٍّ للإطلاق أو شبه ذلك.. والغريب انني لم أجد، في استقراء ناقص طبعاً، من سلّط الأضواء على هذا الجانب وبحث عن مدى إمكانية استثمار هذا التصنيف في استنباط الأحكام الفقهية، والكلامية ونظائرها، واستعرض مجموعة معتنى بها من آيات الأحكام، مائة آية مثلاً، وبحث بحثاً عنها أصولياً وكلامياً مسهباً عنها من هذه الزاوية، وأشبعها استدلالاً وأخذاً ورداً ونقاشاً.

ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:

(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) مطلق أو لا؟

1- قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (سورة البقرة: الآية 275) وهي الآية 47 من سورة البقرة فهي مدنية، فقد يقال: فرق يبن أن تكون هذه الآية نزلت في مكة (أي قبل الهجرة) وبين أن تكون قد نزلت في المدينة (أي بعد الهجرة) وذلك لأن الطابع العام للمدينة كان التشريع في شتى المجالات، في فقه الفرد، فقه المجتمع وفقه الحكومة، على العكس من الطابع العام لمكة حيث كان الأصل هو الإرشاد والتبليغ والحوار حول أصول الدين والشرك وشبه ذلك، فمن هنا فإذا كانت الآية مدنية، كما هي كذلك، فإن الإطلاق فيها قوي مستحكم فتدل على حلية كافة البيوع إلا ما خرج بدليل منفصل كما تدل على حرمة كل أنواع الربا دون استثناء أما إذا كانت الآية مكية فإن ذلك قد يضعف الإطلاق إذ ما دام المقام العام ليس مقام التشريع فلا تكون الآية، على احتمال، في مقام البيان كي ينعقد الإطلاق.

(وَحَرَّمَ الرِّبَا) مطلق أو لا؟

2- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) (سورة البقرة: الآية 278).

وكما في الآية السابقة، فكذلك الحال في هذه الآية، فإن الربا على قسمين: ربا استهلاكي – قرضي، وربما إنتاجي – استثماري، وقد ذهب بعض علماء الاقتصاد المسلمين إلى أن الربا الاستهلاكي هو المحرم، دون الربا الاستثماري مستدلين بأن الربا الاستثماري لم يكن متداولاً في الجزيرة العربية حين نزول الآيات، لذلك لا ينعقد لها إطلاق.. وقد أجبنا عن الإشكال في كتاب (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن)(10)، بأجوبة:

منها: أن كلا النوعين كان متداولاً.. وبالبراهين.

ومنها: هَبْ أن الاستهلاكي كان هو المتداول دون الإنتاجي، لكن الإطلاق في الآية قوي، خاصة ببركة ما أضفناه من أن الآية مدنية وأن فترة المدينة كانت فترة تشريع الأحكام الكلية، فالمقام يقتضي الإطلاق دون الإهمال، وعليه فالآية تشمل نوعي الربا سواء أكانا موجودين في تلك الفترة أم لا، وبعبارة أخرى: المورد لا يخصص الوارد فكيف إذا كان المقام مقام التشريع؟

تحديد المقصود بـ(الأَمَانَاتِ) و(حَكَمْتُم)

3- قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (سورة النساء: الآية 58).

وهنا أيضاً ربما يقال بأنه يختلف الحال بين كون الآية الكريمة مكية أو مدنية:

أ- فإذا كانت الآية الكريمة مكية فقد يقال أن قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) مشير إلى مستقل عقلي وأن الآية الكريمة إخبارية إرشادية إمضائية، أي هي إمضاء لما ارتكز في نفوس العقلاء ولما بنوا عليه من حسن رد الوديعة وأداء الأمانة ووجوبه، وليست إنشائية مولوية، فعلى الأول فلا ينعقد للآية إطلاق فلا يشمل موارد الشك في المخصص إذا دار أمره بين الأقل والأكثر على ما بنى عليه بعض الفقهاء(11).

وأما إذا كانت الآية مدنية، كما هو كذلك إذ هي الآية 58 من سورة النساء وهي مدنية، فإن كونها مدنياً يقوي كونها تأسيساً لا إمضاءاً، وإنشاءً لا إرشاداً، فينعقد لها إطلاق فيراد بالأمانات كل أنواعها فيصح، على المشهور، التمسك بإطلاقها لدى الشك في الشبهة المصداقية للمخصِّص، فانه منفصل لا يخلّ بانعقاد الإطلاق، عكس مبنى كون الآية واردة على حسب مقتضى بناء العقلاء فانه قرينة حافة فيمنع إجمالُها من انعقاد الإطلاق(12).

ب- وإذا كانت الآية الكريمة مكية فقد يقال في (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) أنّ المراد من الحكم القضاء، كما ذهب إليه كثيرون، إذ لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) ولا المسلمون في مكة بحكّام، ولم يكن إلا القضاء، فناسب أن يراد من (أَن تَحْكُمُواْ): (أن تقضوا) خاصة وأن المخاطَب بالأساس هم المسلمون لأنهم الذين يمتثلون للأوامر فناسب أن يقال لهم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) ويراد من الحكم القضاء إذ غيره لم يكن بمقدورهم ليكلفوا به ولو تعليقاً، أما الكفار فكانوا ينكرون أصل وجود الإله الذي يدعو إليه الرسول (صلى الله عليه وآله) أو كانوا ينكرون اتصاله) به والوحي إليه فكيف يخاطبهم وهم منكرون له ولأصل رسالته (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ...) فتأمل.

وأما إذا كانت الآية الكريمة مدنية، فإن من المناسب أن يكون المراد من (وَإِذَا حَكَمْتُم) الحكومة بالمعنى الدارج والمصطلح، أو الأعم من القضاء والحكم، لأن المسلمين في المدينة كانوا متصدين لكلا النوعين من الحكم: القضاء والحكم.

سورة الكافرون، إخبار أم إنشاء؟

4- قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (سورة الكافرون: الآيات 1-6).

وقد سبق أن المحتملات في الآيات الكريمات خمسة، ويكفي هنا، كشاهد على ما نحن بصدده من ثمرات كون الآية مكية أو مدنية، أن نقول: إنّ الآية إن كانت مكية فقد يرجّح أن تكون إخبارية عن المستقبل، إذ لم تكن مكة، كطابع عالم لها، محطةً للتشريع لذا ناسب الإخبار، كما دلت عليه بعض الروايات وأشار بعضها إلى أنها من المعجزات إذ كشفت عن حال صناديد قريش الذين قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) (تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة)(13)

وأما إذا كانت الآية مدنية فإن من المناسب أن تكون إنشائية وأن تكون في مقام التشريع، ومن المناسب حينئذٍ تكون مشيرة إلى قاعدة الإمضاء والإلزام، كما فصّلناه في درس سابق(14) وكما فصّلناه في كتاب بحوث في العقيدة والسلوك(15).

ومن الواضح: ان كل ما طرح هنا إنما هو طرح بدوي لا يراد به الآن تبني أي رأي من الآراء المتقابلة، بل مجرد إلقاء الضوء على أن هذا البحث مما يجدر أن يتناول بالدراسة والتدبر والتأمل الفقهي – الأصولي، وأن معادلة المكي والمدني قد تكون مؤيدة حيناً أو دالة، وقد لا تكون دالة مطلقاً أو حتى في الجملة، وذلك بعد استفراغ الوسع في تحقيق حقيقة الحال في هذا المطلب والمقال.

المناقشة

وعلى سبيل المثال وإثراءً للبحث نقول:

أنّه قد يستدل على عكس المدعى السابق بأدلة:

1- الأصل أن القضايا حقيقية

الدليل الأول: أن من المسلّم أن الأصل في الأحكام الواردة على لسان الشارع الأقدس، سواء الآيات القرآنية أم الروايات الشريفة أن تكون واردة على نحو القضية الحقيقية لا الخارجية، وعلى ذلك فسواء أنزلت الآية الكريمة في مكة أم وردت في المدينة، فالأصل فيها أن تكون بنحو القضية الحقيقية فينعقد لها الإطلاق. فتأمل(16).

الدليل الثاني: نزول القرآن دفعةً، أولاً

ومنها: أن القرآن كله نزل دفعة واحدة على قلب النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) ليلة القدر.

فقد ورد في الكافي الشريف:

عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ- (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ‌)، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ثُمَّ نَزَلَ فِي طُولِ عِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِيَةَ عَشَرَ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ((17).

كما ورد نظيرها في الفقيه بإسنادهما عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ فِي سِتٍّ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَ نَزَلَ الْإِنْجِيلُ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَ نَزَلَ الزَّبُورُ فِي لَيْلَةِ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَ نَزَلَ الْقُرْآنُ‌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(18).

وفي بعض نسخ الفقيه، ونزل الفرقان في ليلة القدر. وبإسنادهما عن حمران إنه سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى: ((إِنَّا أَنْزَلْناهُ‌ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) قَالَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَ هِيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَلَمْ يُنْزَلِ الْقُرْآنُ إِلَّا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‌) قَالَ: يُقَدَّرُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كُلُّ شَيْ‌ءٍ يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ أَوْ مَوْلُودٍ أَوْ أَجَلٍ أَوْ رِزْقٍ...)(19) الحديث)(20).

وعليه: فقد يقال: أن نزول الآية قبل الهجرة أو بعدها، لا يؤثر شيئاً لأن القرآن كله نزل على الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله) دفعة واحدة في المبعث النبوي الشريف، فلا قرينية لزمن النزول ومكانه ولا سائر أحوال المخاطب بالآيات أو المبعوث (صلى الله عليه وآله) بها؟!

وقد يجاب: بتنازع عاملين: فمن جهة قد نزل القرآن جملة واحدة كما ذكر، فلا تكون خصوصيات الإنزال الثاني، أي الإنزال نجوماً، مؤثرة، ولكن، من جهة أخرى، فإن إنزال آياته نجوما بحسب الخصوصيات المكانية والزمانية والأحوالية، لا بد من كونه لحكمةٍ ما لبداهة أنه ليس عبثاً، فيمكن أن تكون خصوصيات زمن النزول دخيلة، بنحو التأييد على الأقل، في انعقاد الإطلاق وعدمه.. فذلك مما يحتاج إلى تنقيح وتحليل ونقاش وجواب وأخذ ورد..

ومن الجيد أن نختم باستعراض بعض الفوائد التي ذكرها باحثون:

قال بعضهم: (فدراسة السور والآيات المكية والمدنية تحتلّ باباً واسعاً في معارف القرآن الكريم، وهو المعجزة الإلهية الخالدة؛ فمعرفة المكي والمدني من القرآن الكريم ـ سواء أكانت سورة أم آية ـ له فوائد كبيرة تتعلق بأسباب النزول وتساعد المفسر والفقيه والباحث في معرفة اتجاه الآية، إذ إن معرفة مكان نزول الآية توقفنا على الأحوال والملابسات التي احتفت بنزولها.. وما يترتب على ذلك من معرفة علوم قرآنية عديدة كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ؛ و أن المتأخر ينسخ المتقدم، والخاص والعام والمقيد والمطلق… فالاطلاع على مكان نزول الآية يعين لا على فهم المراد بالآية ومعرفة مدلولاتها، وما يراد منها فقط، بل يساعدنا على معرفة تاريخ التشريع وتدرّجه الحكيم بوجه عام، وذلك يترتب عليه الإيمان بسموّ المنهج الإسلامي في بناء الأمة والجماعات تربوياً واجتماعياً… وكذلك معرفة سيرة رسول الله (صلي الله عليه وآله) عبر متابعة أحواله ومواقفه بمكة المكرمة، ثم أحواله في المدينة المنورة وسيرته في الدعوة إلى الله تعالى في كل منهما، ومعرفة مدى اهتمام المسلمين وعنايتهم بالقرآن الكريم فهم لم يكتفوا بحفظ النصوص القرآنية فقط، بل راحوا يتتبعون أماكن نزولها، ما كان قبل الهجرة وما كان بعدها، وما نزل منها بليلٍ وما نزل منها بنهار، ما نزل منها في صيف وما نزل منها في شتاء، وما نزل في الحضر وما نزل في السفر..، وكان حرصهم في عملهم هذا يتسم بالجهد والدقة والضبط… وما هذه العناية العظيمة بالقرآن وتقصي أماكن نزوله وأوقاته إلا الدليل الواضح على تلك الجهود المخلصة وعلى مدى الاهتمام الذي بذله المسلمون الأوائل بالقرآن وحبهم له، وهي بالتالي تعزز في النفوس الثقة بعظمة ما بذله الأصحاب والصالحون لحفظ القرآن وإيصاله إلى الأجيال المتعاقبة سالماً من التحريف والنقص..

هذا ملخص ما أورده العلماء وهم يتحدثون عن أهمية هذا العلم وفوائده وأنه أمر لا يستغنى عنه في مجالات البحث العلمي والتحقيق في الأبواب المتعددة تفسيراً وفقهاً وتاريخاً…)(21).

وستأتي في الدرس اللاحق مناقشات لبعض ما ذكره هذا الباحث باعتباره ملخصاً لما ذكره العلماء.

وللبحث صلة وتتمات إن شاء الله تعالى.

* * *

اكتب جدولاً لخصائص الآيات المكية والمدنية، وجدولاً آخر لفوائد التعرف على ثنائي المكي – المدني.

ما الفرق بين الدليل والمؤيِّد والـمُشعِر؟

ما هي الأدلة على أن هذه الآية مكية أو مدنية؟ وما هو سبب الخلاف في بعض الآيات الكريمة؟

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

......................................
(1) مصطفى ديب البغا، محيي الدين ديب مستو، الواضح في علوم القرآن، دار الكلم الطيب / دار العلوم الإنسانية ـ دمشق، ص68.
(2) يراجع الإتقان في علوم القرآن، ج1 ص20 فصاعداً.
(3) مصطفى ديب البغا، محيي الدين ديب مستو، الواضح في علوم القرآن، دار الكلم الطيب / دار العلوم الإنسانية ـ دمشق، ص63-64.
(4) جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج1 ص68-69.
(5) السيد محمد الموسوي، مكة والمدينة في علوم القرآن، موقع erfan.ir
(6) من مقال (القرآن المكي والمدني) للكاتب الشيخ محمد جميل زينو.
(7) جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب ج1 ص36.
(8) جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب ج1 ص70-71.
(9) كاستدلاله به (فان الفواحش...) وغيره فانتظر.
(10) السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن) ج1 ص512 فصاعداً.
(11) يراجع مثلاً كتاب (العقد النضيد) ج2 ص586 وما سبقها.
(12) راجع التفصيل في بحوثنا في معاملات المكرَه من سلسلة بحوث المكاسب الدرس (629-)
(13) ففي تفسير البرهان: (علي بن إبراهيم، قال: حدثني أبي، عن محمد بن أبي عُمير، قال: سأل أبو شاكر أبا جعفر الأحول، عن قول الله عز وجل: (قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ * لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ * وَلاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ * وَلاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ * وَلاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ)، فهل يتكلم الحكيم بمثل هذا القول ويُكرّره مرّة بعد مرّة؟ فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب، فدخل المدينة، فسال أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك، فقال: [كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا وَتَكْرَارِهَا أَنَّ قُرَيْشاً قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً، وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، وَتَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً، وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ بِمِثْلِ مَا قَالُوا، فَقَالَ فِيمَا قَالُوا: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً: (قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ* لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ)، وَفِيمَا قَالُوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً: (وَلاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ) وَفِيمَا قَالُوا: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً: (وَلاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ) وَفِيمَا قَالُوا: نَعْبُد إِلَهَكَ سَنَةً: (وَلاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ). قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ الْأَحْوَلُ إِلَى أَبِي شَاكِرٍ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو شَاكِرٍ: هَذَا حَمَلَتْهُ الْإِبِلُ مِنَ الْحِجَازِ، وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهَا يَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلاَمُ ثَلاَثاً) السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت، ج8 ص409.
(14) دروس في التفسير والتدبر الدرس (363/12).
(15) السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، بحوث في العقيدة والسلوك، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت، ص289-290.
(16) ولعله يأتي وجهه.
(17) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج2 ص628-629.
(18) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج4 ص157، ومن لا يحضره الفقيه ج2 ص159.
(19) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2 ص158.
(20) الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت، ج1 ص50.
(21) من مقال (مكة والمدينة في علوم القرآن) للكاتب السيد محمد الموسوي على موقع https://shiastudies.com

اضف تعليق