q
بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعتمد بشكل مفرط على استيراد الغذاء والطاقة، الأمر الذي يتركها هشة على نحو خاص أمام الصدمات الاقتصادية نتيجة الأزمة الأوكرانية؛ إذ إن بعض الدول تشتري كميات كبيرة من القمح من أوكرانيا وروسيا. وفي حين أن البعض، مثل دول الخليج العربية، تمتلك احتياطيات كبيرة...

تشكل الارتفاعات الكبيرة في أسعار القمح والوقود، مع ما لذلك من تداعيات سياسية غير مؤكدة، الآثار الرئيسية حتى الآن للحرب في أوكرانيا على دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إلا أن التطورات الدبلوماسية والعسكرية مهمة أيضاً، كما يشرح خبراء مجموعة الأزمات في هذه النظرة إلى المنطقة برمتها.

ما تزال الحرب في أوكرانيا التي تلت الغزو الروسي في مراحلها المبكرة. لكن في حين ما يزال من المبكر كثيراً قياس الأثر الكامل للحرب على الأزمات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بات من الواضح أن التداعيات ستكون متعددة الأبعاد. حتى الآن، تقتصر آثارها على المجال العسكري، لكنها ملحوظة أيضاً في الميدان السياسي، مع قيام أطراف الصراع بإعادة التموضع في مواجهة بعضها بعضاً وحيال العالم الخارجي. بالنسبة لاقتصادات المنطقة وعقودها الاجتماعية المتوترة أصلاً فقد تكون التداعيات مدمرة.

بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعتمد بشكل مفرط على استيراد الغذاء والطاقة، الأمر الذي يتركها هشة على نحو خاص أمام الصدمات الاقتصادية نتيجة الأزمة الأوكرانية؛ إذ إن بعض الدول تشتري كميات كبيرة من القمح من أوكرانيا وروسيا. وفي حين أن البعض، مثل دول الخليج العربية، تمتلك احتياطيات كبيرة، فإن دولاً أخرى، مثل لبنان، لا تمتلك أية احتياطيات، الأمر الذي يجعل احتمال حدوث نقص لديها حقيقياً جداً. وفي حين لم يفرض أحد، حتى الآن، عقوبات على واردات القمح الروسي، فإن المستوردين يواجهون صعوبة متزايدة في شراء القمح من روسيا بسبب صعوبات تحويل الأموال إلى الشركات الروسية والتأمين على السفن. كما أن الاعتماد على النفط والغاز المستوردين مشكلة أيضاً. فقد تبقى دول لديها اكتفاء ذاتي أو حتى تصدر النفط والغاز، مثل إسرائيل ومصر، وإيران، والعراق، وليبيا وبعض دول الخليج العربية، محمية من الركود، بينما قد تواجه دول أخرى مثل لبنان، وفلسطين، والأردن، واليمن وتونس صعوبات اقتصادية مع معاناة سكانها من درجة أكبر من الحرمان.

قد تُحدث الكلفة المتزايدة للنفط والغاز نفسها أثراً على ارتفاع كلفة النقل وبالتالي أسعار السلع بشكل عام، الأمر الذي سيفرض ضغوطاً تضخمية ويمكن أن يعطل سلاسل الإمداد بالسلع الأساسية وغير الأساسية بشكل يزعزع الاقتصادات الهشة أصلاً. إضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع أسعار الوقود سيجبر الدول الفقيرة بالنفط على تخفيض سعر صرف عملاتها الوطنية، ما سيحدث انخفاضاً في الدخول وتردياً في الأحوال المعيشية. وقد لا يكون أمراً يصعب تصديقه أن تشهد المنطقة اندلاعاً آخر للاضطرابات الاجتماعية وحتى الصراع نتيجة للصعوبات الاقتصادية وعدم قدرة الحكومات على معالجتها بشكل مناسب.

سياسياً، هناك الكثير من المتغيرات. ففي سائر أنحاء المنطقة وداخل الدول الغارقة في حرب أهلية، تبتعد الأطراف الفاعلة السياسية عموماً عن الاصطفاف العلني مع روسيا أو أوكرانيا/الغرب، وما زالت تفضل حتى الآن التحوّط لرهاناتها. وحدهما الحكومتان الإيرانية والسورية، إضافة إلى حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، عبروا عن تضامنهم مع روسيا. أما خصومهم فينخرطون في محاولة التوازن على حبل مشدود بالتودد إلى روسيا والدول الغربية معاً ويحاولون لعب دور الوساطة، كما فعلت إسرائيل. إن القبول بالخيارات السياساتية الغربية، كما ظهر في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي أدان الغزو الروسي، ناجم في كثير من الأحيان عن ضغوط دبلوماسية غربية – كما في حالات مصر والإمارات العربية المتحدة – وليس نتيجة الموافقة الطوعية الحقيقية على تلك السياسات. في هذه الأثناء، فإن الإعياء الدبلوماسي أو شعور الجهات المانحة بالإنهاك قلّص أصلاً الاهتمام بأزمات المنطقة، مثل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، أو الانهيار الاقتصادي اللبناني، أو التهديد المتزايد بحدوث مجاعة في سورية أو بالكارثة الإنسانية في اليمن. ومن المرجح أن يتضاءل الاهتمام بهذه الأزمات من قبل الجهات الفاعلة الدولية المنشغلة في أحداث عاجلة وملحة تتكشف في أوروبا.

على الجبهة العسكرية، لم يحدث الكثير حتى الآن لتغيير التوازنات، لكن قد تكون المسألة مجرد وقت قبل أن يحدث شيء ما. لقد اقتصر استعراض القوة الروسية على سورية وبشكل غير مباشر من خلال متعاقدي مجموعة فاغنر غير الحكومية في ليبيا. في سورية، ما يزال التفاهم الروسي مع إسرائيل بشأن إطلاق يد الأخيرة في استهداف الأصول الإيرانية والمدعومة إيرانياً نافذاً، وفي حين يبدو أن بعض مقاتلي فاغنر في ليبيا قد عادوا إلى روسيا، فإن آخرين ما يزالون موجودين في قواعدهم. لكن التغيرات يمكن أن تُحدث آثاراً من النسقين الأول والثاني وبقوة أكبر، الأمر الذي سيعزز ديناميكيات الصراع الموجودة أصلاً، مثل تصعيد المواجهات العسكرية بين إيران وإسرائيل في مسارح عمليات تشمل المنطقة بأسرها.

في خارطة الطريق التي نعرضها فيما يلي، يلقي محللو مجموعة الأزمات نظرة متفحصة على الكيفية التي تغير فيها الجهات الفاعلة السياسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (والمستعرَضة حسب الترتيب الأبجدي) مواقعها استجابة للغزو الروسي لأوكرانيا.

الجزائر

الجزائر أقل عرضة من دول شمال أفريقيا الأخرى للآثار الاقتصادية للغزو الروسي لأوكرانيا، لأن واردات القمح من هاتين الدولتين إلى الجزائر لا تتعدى 3 بالمئة من واردات البلاد. وطبقاً لوزارة الزراعة، فإن المخزون الوطني سيكون كافياً لتلبية الطلب المحلي حتى كانون الثاني/يناير 2023. إضافة إلى ذلك، فإن الجزائر مُصدِّر رئيسي للنفط والغاز، وبالتالي فإن ارتفاع أسعار النفط والغاز ستعوض عن ارتفاع فاتورة الغذاء.

على الجبهة الدبلوماسية، تعرضت الجزائر لضغوط غربية للنأي بنفسها عن روسيا. ففي الأسابيع الأخيرة، طلبت الولايات المتحدة، وإيطاليا وإسبانيا من السلطات الجزائرية زيادة صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا، التي تتطلع إلى تقليص اعتمادها على الغاز الروسي. ويبدو الرئيس عبد المجيد تبون ميالاً إلى القبول، لكن شريطة ألا تتدخل الولايات المتحدة وأوروبا في شراء الجزائر للأسلحة والمعدات العسكرية الروسية، وأن تحجم الحكومات الأوروبية عن دعم الموقف الغربي في صراع الصحراء الغربية.

في 2 آذار/مارس، امتنعت الجزائر عن التصويت على قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، وفي 7 نيسان/أبريل، صوتت ضد القرار بتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان. وجادلت بأن آليات الأمم المتحدة ضرورية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان على الأرض وبطريقة حيادية وغير منحازة لتحقيق العدالة لجميع الضحايا.

مصر

مصر ضعيفة بشكل خاص أمام الصدمات الاقتصادية والسياسية المترتبة على الغزو الروسي لأوكرانيا. فهي أكبر مشترٍ للقمح في العالم، وتعتمد في 80 بالمئة من وارداتها على روسيا وأوكرانيا. وانقطاع الواردات بسبب الحرب يعني أن تواجه الحكومة تحدياً معقداً، إذ يترتب عليها البحث عن مزودين جدد في الوقت الذي تحاول فيه امتصاص ضربة ارتفاع أسعار الأغذية. وتشير التقارير إلى أن أسعار الخبز غير المدعوم ارتفعت بنسبة 50 بالمئة منذ بداية الغزو، في حين أن الكلفة الأكبر للذرة (المستعملة في العلف) تغذي تضخم أسعار اللحوم والأسماك التي تتم تربيتها في المزارع. إضافة إلى ذلك، فإن الزوار الروس والأوكرانيين يشكلون نحو ثلث العدد الإجمالي لزوار مصر؛ وأي انخفاض كبير سيلحق الضرر بصناعة السياحة، التي تشكل مصدراً رئيسياً للتوظيف والعملة الأجنبية على حد سواء.

لقد تبنت الحكومة إجراءات طوارئ لتلافي الأثر المباشر لارتفاع أسعار الأغذية، لكن التداعيات الاقتصادية الأوسع ما تزال غير واضحة. وحظرت السلطات تصدير المواد الغذائية الأساسية مثل القمح، والفول، والعدس والمعكرونة، وقدمت حوافز وفرضت أنظمة جديدة على منتجي القمح المحلي في محاولة لتعزيز الإمدادات المحلية. إضافة إلى ذلك، فرض الرئيسي عبد الفتاح السيسي حداً أعلى لسعر الخبز غير المدعوم. وبالتالي فإن الآلام المترتبة على الارتفاع الكبير في الأسعار على السكان بشكل عام ينبغي أن تبقى محدودة في الوقت الراهن. إلا أن ارتفاع أسعار الواردات وانخفاض عائدات السياحة من المرجح أن تضخم عجز الحساب الجاري. في أواخر آذار، رفعت السلطات معدلات الفائدة وخفضت معدل سعر الصرف لجسر هذه الفجوة، وفي نيسان/أبريل أودعت السعودية مبلغ خمسة مليارات دولار في المصرف المركزي المصري وتعهدت باستثمار عشرة مليارات دولار. كما قدمت قطر خمسة مليارات دولار على شكل استثمارات، ووعدت الإمارات العربية المتحدة بشراء حصص في شركات مدرجة في السوق المحلية بقيمة ملياري دولار. إلا أن انخفاض قيمة العملة من المرجح أن يحدث تآكلاً بدخل المصريين المنتمين إلى الطبقة الوسطى أو الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، بوجه خاص، الذين يصارعون أصلاً في ظل الظروف الراهنة.

إن قمع حركات المعارضة يعني أن أي محاولة منظمة لتحدي سياسات الحكومة من غير المرجح أن تنجح، لكن تردي الأحوال المعيشية يمكن أن يدفع الناس إلى أحداث شغب عفوية. ويمكن لاتساع نطاق الاضطرابات أن يُظهر التصدعات القائمة داخل قوات الأمن.

مصر في وضع دبلوماسي حرج حيال الأزمة الأوكرانية. ففي أعقاب الغزو مباشرة، رفضت القاهرة إدانة موسكو، محاولة البقاء على الحياد. ومنذ صعود السيسي إلى السلطة، تمتعت مصر وروسيا بعلاقات ممتازة، كما تأكد في الاجتماعات السنوية "2+2" بين وزيري الخارجية والدفاع في كلا البلدين. وقد اعتمدت السلطات المصرية على الأسلحة والمعدات العسكرية الروسية في محاولة، على وجه الخصوص، لتقليص اعتماد البلاد على الولايات المتحدة في هذا المجال. كما أن هذه العلاقات التي تزداد قوة تأتي نتيجة علاقة القاهرة المعقدة والمتذبذبة مع واشنطن، والتي تأثرت سلباً بالتوترات بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، بين قضايا أخرى.

رغم ذلك، فقد تعرضت مصر لضغوط أميركية وأوروبية متزايدة بسبب موقفها الحيادي في الحرب الأوكرانية. في مطلع آذار/مارس، أصدر سفراء مجموعة السبع في القاهرة بياناً مشتركاً يطالبون فيه الحكومة بالتصويت لصالح القرار الذي يدين الغزو الروسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة. لبّت مصر الطلب. ومباشرة بعد التصويت، أعلنت الولايات المتحدة اعتزامها بيع طائرات مقاتلة من طراز F-15 إلى مصر، الأمر الذي دفع المحللين العسكريين إلى التكهن بأن القاهرة يمكن أن تلغي قراراً سابقاً بشراء طائرات سو-35 الروسية. لكن في الأسبوع الذي تلا، ناقش السيسي والرئيس بوتين استمرار التعاون الثنائي بشأن عدد من المشاريع، في إشارة إلى أن القاهرة ليست مستعدة لقطع علاقاتها مع موسكو.

دول الخليج العربية

بوصفها دولاً مصدرة للنفط والغاز، من المتوقع أن تحصد دول الخليج العربية أرباحاً من زيادة أسعار النفط والغاز نتيجة الأزمة الأوكرانية. المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، تحتاج أن يكون سعر النفط الخام أقل من 70 دولاراً بقليل للبرميل حتى تحقق التوازن لموازنتها. بعد الغزو، ارتفع السعر بشكل كبير إلى ما فوق 130 دولاراً للبرميل، قبل أن يستقر على أقل من 100 دولار بقليل، ومن ثم ارتفع مرة أخرى بعد الحظر الذي فرضه الرئيس الأميركي جو بايدن على استيراد النفط الروسي. بالنسبة لقادة الخليج، فإن زيادة الأسعار مرحب بها، بالنظر إلى أن دخل الحكومة كان قد تقلص خلال جائحة كوفيد-19. في الوقت نفسه، وبالنظر إلى عدد سكانها القليل، وزيادة حصة الفرد من الدخل ووجود منشآت تخزين قمح كبيرة، فإن لدى دول الخليج العربية أدوات عازلة أكثر من كثير من الدول الأخرى تحميها من صدمات الإمداد وزيادات أسعار السلع الزراعية. الإمارات العربية المتحدة، وقطر وعُمان تستورد كميات كبيرة من القمح من روسيا وأوكرانيا، لكنها هي وجيرانها ليس لديها دواعي القلق الأكثر حدة في مصر ولبنان على سبيل المثال.

لقد دفع ارتفاع أسعار النفط الولايات المتحدة للضغط على دول الخليج العربية لزيادة إنتاجها، وهو أمر قاومته تلك الدول. ورغم عمليات الحشد التي قامت بها إدارة بايدن في الأسابيع التي تلت الغزو، وزيارة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى السعودية والإمارات، فإن الدولتين تمسكتا بالتزاماتهما السابقة بكميات الإنتاج. وقال ولي العهد السعودي، الذي رفض تلقي مكالمة هاتفية من بايدن إن المملكة ملتزمة باتفاق أوبك + مع روسيا، التي تحدد زيادة الإنتاج الشهرية بـ 400,000 ألف برميل يومياً. أما الإمارات فقد كانت أقل حسماً؛ إذ قال سفير أبو ظبي في واشنطن، يوسف العطية إن الإمارات ستدفع أوبك إلى التفكير في مستويات إنتاج أعلى. هذا التصريح بحد ذاته ساعد على تخفيض الأسعار، إلا أن الإمارات لم تنفذ ذلك حتى الآن. بدلاً من ذلك، فإن وزير الطاقة الإماراتي، سهيل المزروعي، قال إن الإمارات تبقى ملتزمة بأوبك +. في هذه الأثناء، أظهرت قطر استعداداً لمساعدة الدول الأوروبية على فطم نفسها عن اعتمادها على روسيا في الحصول على الطاقة، ووقعت اتفاقاً بشأن الغاز مع ألمانيا.

تركت الأزمة دول الخليج العربية في وضع دبلوماسي صعب. فقد تبنت في الغالب موقفاً غامضاً من العدوان الروسي في أوكرانيا، وحثت كلا الطرفين على ضبط النفس. حكومات الخليج العربية تقيم شراكات وثيقة مع الولايات المتحدة، لكن معظمها أقام علاقات أقوى مع روسيا في محاولة لتنويع علاقاتها الخارجية، وبالتالي فهي غير مستعدة لاستعداء أي من الطرفين صراحة. في البداية، دعت قطر والكويت بحذر إلى إيجاد حل دبلوماسي يعترف بسلامة الأراضي الأوكرانية. ولم يمر شهر على بداية الصراع حتى وفرت قطر منصة للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في منتدى الدوحة السنوي – في خطوة جريئة على نحو غير معتاد بالمعايير الخليجية.

بالنسبة للرياض وأبو ظبي، فإن استجابتهما للأزمة الأوكرانية تكشفت على خلفية إحباط متزايد حيال الولايات المتحدة، شريكتهما الأمنية الأوثق. إنهما تتصوران حدوث فك ارتباط أميركي من المنطقة وأصبحتا تريان أنه لا يمكن الركون إلى الولايات المتحدة. تأكيد الإمارات على شراكتها الاستراتيجية المتنامية مع روسيا مع تكشف الغزو، مصحوباً بامتناعها عن التصويت في مجلس الأمن الدولي على قرار يدين الغزو الروسي وما ذكر عن رفض ولي العهد محمد بن زايد تلقي مكالمة هاتفية من بايدن يعكس هذا الشعور. (رُبط امتناع الإمارات عن التصويت بقرار لمجلس الأمن الدولي صدر بعد ثلاثة أيام ضم نصاً اقترحته الإمارات يصنف الحوثيين في اليمن "تنظيماً إرهابياً"، مر بفضل امتناع روسيا عن التصويت). يبدو أن الولايات المتحدة عملت بجد – وفي النهاية نجحت – في تأمين وقوف جميع دول الخليج العربية خلف قراري الجمعية العامة الأول والثاني بشأن أوكرانيا، في 2 و24 آذار/مارس، على التوالي (صوتت ضد القرار الصادر في 7 نيسان/أبريل بتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان). في حين لا ترغب أي دولة خليجية بإعطاء الانطباع بالوقوف مع روسيا، خشية إغضاب الغرب، فإن السعودية والإمارات لم تترددا بإظهار سخطهما حيال الولايات المتحدة خلال هذه الأزمة.

إيران

تبلغ حصة روسيا 2-3 بالمئة من التجارة الخارجية غير النفطية لإيران. إلا أن طغيان السلع الزراعية في واردات إيران، يعد مهماً بالنظر إلى الأهمية المتزايدة لمشتريات القمح نتيجة حالات الجفاف التي تعيق الإنتاج المحلي. إذا استمرت هذه النزعة إلى 2023، فإن اعتماد إيران على القمح المستورد سيزداد، ما يثير مخاوف من الأثر السلبي للحرب في أوكرانيا على البلاد.

بوصفها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي، فإن روسيا مشاركة في مفاوضات فيينا الرامية إلى إعادة الولايات المتحدة وإيران إلى الالتزام المتبادل بالاتفاق النووي لعام 2015. في حين أن البلدان المتفاوضة كانت قد عزلت بشكل كبير هذه المفاوضات التي بدأت في نيسان/أبريل 2021، عن التطورات الخارجية، بدا أن غزو أوكرانيا قد غير حسابات موسكو لفترة وجيزة. بدلاً من الاستمرار غالباً بعزل المفاوضات النووية الإيرانية عن الخلافات مع الغرب، فإن وزير الخارجية سيرغي لافروف في 5 آذار/مارس طالب الولايات المتحدة بضمانات بألا تعيق عقوبات الدول الغربية المتعلقة بأوكرانيا "تجارة روسيا الكاملة والحرة، والتعاون الاقتصادي، والاستثماري، والعسكري والتقني مع إيران" - وهي مجموعة كاسحة من المتطلبات تتجاوز بكثير معايير النقاشات المحددة بالاتفاق النووي، أو خطة العمل الشاملة المشتركة. بدا أن هذا التحول إلى دور المفسد ينذر بمحاولة الكرملين تأجيل عودة النفط الإيراني إلى السوق أو تعطيل العملية الدبلوماسية برمتها.

في أعقاب توقف المفاوضات بداية من 11 آذار/مارس، وإجراء مفاوضات ثنائية بين طهران وموسكو، بدا أن روسيا تغير موقفها إلى إطار أضيق، يعالج بشكل محدد التعاون بشأن المشاريع النووية المدنية في إيران والتخلص من مخزون اليورانيوم المخصب الذي يتجاوز القيود التي يفرضها الاتفاق، والذي أشارت الولايات المتحدة إلى أنه لن يكون خاضعاً للعقوبات، بالنظر إلى أنها جزء من خطة العمل الشاملة المشتركة.

إذا نجح المتفاوضون في إعادة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، فإن النفط الإيراني سيضيف 1-1.5 مليون برميل يومياً إلى السوق العالمي. وستساعد كميات النفط الإضافية على تخفيض الأسعار العالمية التي ارتفعت بشكل كبير منذ بداية غزو أوكرانيا. في هذه الأثناء، تسعى إيران إلى فرص للتجارة مع روسيا رغم العقوبات.

على المدى المتوسط، من غير الواضح كيف ستؤثر حرب روسيا في أوكرانيا على وجودها وتعاونها مع إيران دعماً للحكومة السورية. لم يكن هناك أي مؤشر حتى الآن بأن شيئاً قد تغير في آلية تجنب الصراع التي استخدمتها روسيا وإسرائيل لتفادي التشابكات في مسار الضربات الجوية الإسرائيلية المنتظمة على أهداف إيرانية أو مرتبطة بإيران في سورية. في 27 شباط/فبراير، قالت السفارة الروسية في إسرائيل إنه على العكس فإن "هذه الآلية أثبتت فائدتها وستستمر في تحقيق هذه الفائدة". ثمة فرصة في أن موسكو ستستخدم وجودها العسكري في سورية كوسيلة للضغط في علاقاتها مع إيران أو إسرائيل. إذا انضم أي من البلدين إلى الكتلة المعادية لروسيا في أعقاب غزو أوكرانيا، قد تنظر موسكو في وقف تعاونها الأمني معها بشأن سورية. بالنسبة لإيران، فإن ذلك التطور يمكن أن يترجم إلى وقوع عدد أكبر من الضحايا وقدر أكبر من الأضرار، وبالنسبة لإسرائيل، تضييق حرية عملياتها. حتى الآن، ليس هناك دليل على تحول المؤشر في ذلك الاتجاه.

العراق

لقد اندلعت الاحتجاجات في عدة محافظات جنوبية على مدى الشهر الماضي بسبب ارتفاع أسعار سلع غذائية أساسية مثل الحبوب وزيت دوار الشمس، وكلاهما من المستوردات العراقية من أوكرانيا وروسيا رغم أن العراق، على عكس دول أخرى في المنطقة، لا يعتمد كلياً على أي من الدولتين. وبسبب ارتفاع الأسعار عالمياً، فإن فاتورة واردات العراق من الحبوب من المتوقع أن ترتفع بثلاثة أضعاف، من 900 مليون دولار في 2020-2021 إلى 3 مليار دولار في 2021-2022. كما تتزامن آثار الحرب الأوكرانية مع تلك التي أحدثها جفاف حاد خلال حصاد عام 2021، عندما عانى 37 بالمئة من المزارعين من فشل محاصيلهم، ما أجبر الحكومة على شراء المزيد من القمح من الخارج، وقد فاقمت برامج توزيع الغذاء العراقية غير الكفؤة من هذه المشاكل. وبموجب النظام العام لتقنين الأغذية، فإن الحكومة تشتري القمح وتوزعه على المطاحن الخاصة، لكنها تعود إلى شراء الطحين منها، وغالباً بأسعار مضخمة، وتوزعه على الأسر الفقيرة مجاناً. وفي حين قد يخفف التقنين من الاحتياجات الفورية بالنسبة للعراقيين الأكثر فقراً، فإن الحكومة تستطيع تحمل زيادة ثمن فاتورة الغذاء فقط إذا ظلت أسعار النفط العالمية مرتفعة. أما إذا انخفضت أسعار النفط، فإن السلطات في بغداد قد تجبر على تقليص النفقات الأخرى، مثل رواتب القطاع العام، الأمر الذي يمكن أن يثير اضطرابات مدنية.

يعتمد العراق بشكل كامل تقريباً في دخله على مبيعات النفط الخام. وتشكل حقيقة أنه لا يكرر سوى جزء ضئيل منه محلياً نقطة ضعفه الرئيسية. كما كان لزيادة تكاليف الطاقة عالمياً آثار متفاوتة في أجزاء مختلفة من العراق. وفي حين حافظت الحكومة على نفس أسعار الوقود من خلال الدعم في وسط العراق، فإن الأسعار تضاعفت في إقليم كردستان، الأمر الذي تسبب بطوابير على محطات الوقود هناك، وكذلك في مدن مجاورة مثل الموصل.

وقد كان أثر الحرب الأوكرانية ملحوظاً سياسياً أيضاً. ففي حين أن العراق، كالكثير من الدول العربية الأخرى، امتنع عن الوقوف إلى جانب أحد طرفي الصراع، فإن ثمة انقسامات بين الكتلتين الرئيسيتين اللتين ظهرتا بعد انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2021. فالبعض داخل التحالف الثلاثي الفائز، الذي يضم التيار الصدري، والحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف "السيادة" السني، اعترف بوجود عدوان روسي، في حين أن شبكة التنسيق الشيعية، المكونة بشكل رئيسي من الأحزاب المتحالفة مع إيران، تتعاطف أكثر مع الهواجس الأمنية الروسية بشأن حلف شمال الأطلسي. وبشكل يعكس نفوذ اللوبي الموالي لإيران، امتنع العراق عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 آذار/مارس لإدانة الغزو الروسي. وصوت لصالح القرار الثاني في 24 آذار/مارس الذي طالب بوصول المساعدات والحماية الإنسانية في أوكرانيا، لكن فقط بعد ضغط أميركي وأوروبي قوي؛ ثم عاد وامتنع عن التصويت في 7 نيسان/أبريل على تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان.

في إقليم كردستان، العلاقات أكثر تعقيداً إلى حد ما. فقد عُدت حكومة إقليم كردستان منذ وقت طويل أكثر قرباً من الغرب من القيادة في بغداد. لكن في حين أن حكومة إقليم كردستان تعتمد على الدعم العسكري والسياسي الغربي في أمنها، فإنها أيضاً مدينة لروسيا في استثمارات الإنقاذ في 2016-2017، عندما واجهت حكومة الإقليم الإفلاس. ومنذ ذلك الحين، حصلت شركة الطاقة الروسية (روسنفت) على حصة 60 بالمئة في خط النفط الرئيسي في الإقليم. علاوة على ذلك، وعلى عكس الدول الغربية، فإن روسيا لم تعارض الاستفتاء على الاستقلال الذي أجرته حكومة الإقليم في أيلول/سبتمبر 2017؛ وبالمقابل فإن مسؤولي حكومة الإقليم استعملوا لهجة تصالحية حيال المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون في أوكرانيا. إضافة إلى ذلك، فإن المحكمة الفدرالية العليا في العراق حكمت مؤخراً ضد مبيعات النفط المستقلة التي تقوم بها حكومة الإقليم. وبالتالي فإنه قد يترتب على حكومة إقليم كردستان أن تتنازل للحكومة الاتحادية عن بعض السيطرة على اتفاقاتها مع شركات النفط الدولية، وفي الوقت نفسه أن تسحب استثماراتها من روسيا بسبب العقوبات الغربية، إذا أصرت الدول الغربية على التزامها.

إسرائيل

اقتصادياً، تعد إسرائيل مستقلة إلى حد بعيد فيما يتعلق بالغاز، بفضل حقول غاز كبيرة في البحر المتوسط، وهي تفكر حتى في تصدير الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، رغم أن الكمية قد تكون محدودة. إلا أنها تواجه ارتفاعاً في أسعار الطحين، بالنظر إلى أنها تستورد نصف قمحها من روسيا و30 بالمئة منه من أوكرانيا. كما أن روسيا هي المزود الرئيسي لإسرائيل بالفحم لتوليد الكهرباء؛ وشراء الفحم من مصادر أخرى سيزيد الكلفة.

لقد حاولت إسرائيل إرضاء الطرفين في هذا الصراع؛ فهي متحالفة استراتيجياً مع الغرب لكنها ظلت على الحياد حيال الغزو الروسي لأوكرانيا. وقد كانت حذرة بألا تستعدي موسكو خشية أن فعل ذلك سيقوض حريتها في مهاجمة الأصول الإيرانية في سورية، وهو الأمر الذي فعلته بشكل منتظم على مدى سنوات من خلال الضربات الجوية التي تستهدف شحنات الأسلحة والمنشآت بهدف منع المزيد من ترسيخ الوجود الإيراني في سورية وتسليح حزب الله في لبنان، وخشية منها على اليهود في أوكرانيا وروسيا. كما أن إسرائيل حريصة على حماية علاقاتها بالأوليغارك اليهود الروس الذين لديهم استثمارات في إسرائيل. وبالبناء على هذا التذبذب، امتنع رئيس الوزراء نفتالي بينيت عن إدانة روسيا علناً، رغم أن وزير خارجيته يائير لابيد، والذي بصفته شريكاً في التحالف الحاكم يتوقع أن يصبح رئيساً للوزراء في آب/أغسطس 2023، أدان الغزو ووصف المجزرة في بوتشا بجريمة حرب. بينيت قدم نفسه كوسيط، دون تحقيق نتائج ملموسة تذكر حتى الآن، رغم أن ذلك يرفع من رصيده كرجل دولة عالمي.

وبينما صوتت إسرائيل على إدانة الغزو الروسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة وانضمت إلى كتلة الدول التي علقت عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، فإنها لم تحذو حذو الغرب في فرض عقوبات. وقد رفضت تقديم أي شيء يتجاوز المساعدات الإنسانية لأوكرانيا. وواجهت انتقادات أميركية على هذا النهج، وعبر الرئيس زبينسكي عن استيائه من رفض إسرائيل فرض عقوبات أو تقديم أسلحة عندما خاطب الكنيست عبر تطبيق زووم في 20 آذار/مارس. كما تبين أن إسرائيل رفضت بيع أوكرانيا برمجيات بيغاسوس للتجسس التي طلبتها أوكرانيا في عام 2019، خشية أن تستعمل ضد روسيا وبالتالي تضر بعلاقة إسرائيل بالكرملين. وكان ذلك خبراً جديراً بالاهتمام، بالنظر إلى أن إسرائيل كانت سابقاً قد قدمت البرمجيات التجسسية (التي وضعتها الولايات المتحدة الآن على القائمة السوداء) إلى حكومات أجنبية استعملتها في قمع المعارضة.

الأردن

صوتت عمان لصالح قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة في آذار/مارس فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، لكنها امتنعت عن التصويت بشأن تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان. الأردن لا يعتمد بشكل كبير على روسيا أو أوكرانيا، حيث يحصل على غذائه ووقوده بشكل رئيسي من مصادر أخرى. وأعلنت الحكومة أن لدى البلاد من احتياطيات القمح ما يكفي لتسعة أشهر، وهو ما قالت إنه يعزل البلاد عن الآثار السيئة لتعطل شبكات الإمداد العالمية.

يشهد الأردن زيادة في الأسعار، تتسبب بشكل رئيسي في صعوبات خلال رمضان، لكن هذه تعود إلى عمليات التربح التي يقوم بها التجار. لقد حاولت الحكومة معالجة هذه المشكلة من خلال وضع سقوف لأسعار سلع مثل الأرز، وزيت الطبخ والغاز، وأخضعت المخالفين للعقوبات. كما تقوم الحكومة بتقديم دعم جزئي لهذه السلع لتفادي التضخم عند ارتفاع أسعار السلع عالمياً. قفزة في أسعار البنزين كانت متوقعة في نيسان/أبريل لم تحدث. أما وقود التدفئة، الذي يباع بالليتر، فقد ارتفع سعره بنسبة 6 بالمئة، في حين ثبتت الحكومة سعر الغاز المستخدم للطبخ. بشكل عام، فإن أثر الأزمة على الاقتصاد الأردني كان محدوداً حتى الآن.

لبنان

يستورد لبنان أكثر من 80 بالمئة من قمحه من أوكرانيا، الأمر الذي يتركه هشاً أمام صدمات الأسعار. كما أن البلاد فقدت أربعة أخماس قدرتها التخزينية في انفجار مرفأ بيروت عام 2020، الذي دمر صوامع الحبوب الرئيسية في البلاد. أما المرافق التي ظلت موجودة (في ميناء طرابلس، وفي صوامع يملكها أصحاب المطاحن في البلاد) فبالكاد تستوعب استهلاك شهر واحد من القمح. كما أن القمح ما يزال من السلع القليلة التي تحظى بالدعم، ويكلف شهرياً 20 مليون دولار، حيث يقدم مصرف لبنان المركزي الدولار الأميركي لمستوردي القمح بسعر صرف تفضيلي جداً (1,500 ليرة لبنانية مقابل الدولار)، بالمقارنة مع 22,000 ليرة مقابل الدولار كما كان السعر على منصة الصرف الخاصة بالمصرف في مطلع نيسان/أبريل. نتيجة لذلك، ومنذ بداية الأزمة المالية في عام 2019، ارتفعت أسعار الخبز بعامل 6 فقط، رغم انخفاض سعر العملة المحلية مقابل الدولار الأميركي بعامل 15، وحقيقة أن لبنان يستورد جميع مدخلات إنتاج الخبز (القمح، والطاقة، والسكر). وبالتالي فإن ارتفاع أسعار القمح سيجعل عملية الدعم أعلى كلفة.

ويذكر أن وزير الاقتصاد اللبناني تواصل مع الولايات المتحدة والمانحين الدوليين من أجل الحصول على الدعم لسد هذه الفجوة، لكنه قد يجد صعوبة في تحقيق ذلك؛ فمنذ منتصف كانون الثاني/يناير، يذكر أن المصرف المركزي ينفق ما يعادل 500 مليون دولار شهرياً من الاحتياطيات المتضائلة من العملة الأجنبية في البلاد للمحافظة على استقرار الليرة، وهي سياسة يعتبرها معظم الخبراء غير مستدامة وموجهة لاحتواء الاضطرابات الشعبية قبل الانتخابات البرلمانية في أيار/مايو. يمكن لزيادة سريعة في أسعار الخبز أن تفاقم من السخط الشعبي بشكل كبير، خصوصاً خلال شهر رمضان، بالنظر إلى أن الطقوس المحيطة بالإفطار عند غروب الشمس فرضت ضغوطاً كبيرة على موازنات الأسر في الشرائح الأفقر من السكان المسلمين. وشهدت مدينة طرابلس الشمالية ذات الأغلبية السنية أعمال شغب حادة في كانون الثاني/يناير 2021 عندما هددت القيود المفروضة بسبب جائحة كوفيد-19 سبل عيش العمال المياومين.

ولذلك أقنعت الحكومة المصرف المركزي بالاستمرار بدعم العملة، وهو ما يصل إلى أقل من 5 بالمئة من الأموال التي يتم إنفاقها على الدفاع عن سعر الصرف. في 12 نيسان/أبريل، قررت أن استمرار دعم القمح ستتم تغطيته بأموال حصل عليها لبنان من بيع "حقوق سحب خاصة"، تلقاها من صندوق النقد الدولي في أيلول/سبتمبر 2021 كجزء من مخصصات لـ 190 دولة عضو. وفي حين أن هذه الأموال تعد تقنياً جزءاً من "الاحتياطيات المطلوبة" التي لا يمكن، طبقاً للمصرف المركزي، استخدامها لتمويل المزيد من الدعم، فإن القرار يتابع ممارسات النخب السياسية التقليدية في تخفيف أعراض الأزمة بدلاً من معالجة أسبابها الجذرية. كما أنه يقضي على الأصول التي ينبغي استهلاكها في برنامج التعافي.

في مطلع نيسان/أبريل، توقف المصرف المركزي لفترة وجيزة عن إصدار رسائل اعتماد لمستوردي القمح، وذكر أنه طلب من الحكومة توقيع اتفاق قرض رسمي يضمن سداد أي مبلغ يتم صرفه لهذا الغرض. وكانت النتيجة انقطاع مؤقت في خط الإمداد، حيث توقفت شحنات القمح قرب الساحل، نظراً إلى أن المستوردين لم يتمكنوا من الدفع لمزوديهم.

على العكس من ذلك، فإن زيادة حادة في أسعار الطاقة الناجمة عن الأزمة الأوكرانية سيكون لها تداعيات أكبر بكثير. فلبنان يستورد كل النفط والغاز اللذين يستهلكهما، بكلفة تبلغ نحو 300 مليون دولار شهرياً. وبالتالي فإن زيادة بمعدل 10 بالمئة في أسعار النفط سترفع فاتورة الواردات بـ 30 مليون دولار، أي ما يعادل أثر زيادة بمعدل 150 بالمئة في أسعار القمح. شهد مطلع آذار/مارس عودة الطوابير الطويلة على محطات الوقود، مع اندفاع الناس إلى المحطات لتفادي الزيادات المتوقعة في السعر الذي تحدده الحكومة، في حين زُعم أن الموزعين يحتفظون بالإمدادات على أمل تحصيل ربح عند بيعها. من شأن زيادة كبيرة في أسعار الطاقة أن تولد ضغوطاً تضخمية سيكون لها تداعيات على سائر قطاعات الاقتصاد. وسيتمثل أحد الآثار في زيادة سعر الخبز، لأن الغاز يستعمل في تشغيل الأفران. إضافة إلى ذلك، فإن الآلات في المخابز الصناعية تستهلك كميات كبيرة من الكهرباء، وبالتالي الديزل لتشغيل المولدات، بالنظر إلى أن شبكة كهرباء الدولة توفر أقل من ساعتين من الكهرباء يومياً. وقد تزداد الحالة سوءاً مع انتهاء مشروع برنامج الأغذية العالمي لتوفير المازوت للمستشفيات العامة، والمراكز الصحية ومحطات ضخ المياه في نهاية آذار/مارس، لأن المانحين الدوليين لم يعودوا راغبين بتمويله، بسبب ما قالوا إنها هواجس تتعلق بالاعتماد الدائم وغياب جهود مقنعة من قبل الجانب اللبناني لمعالجة الوضع.

أدان لبنان الغزو الروسي لأوكرانيا وصوت دعماً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 آذار/مارس الذي يدينه أيضاً. لم تكن هذه الخطوة متوقعة، بالنظر إلى أن حزب الله، الذي يفرض نفوذاً قوياً في الحكومة، يرى في موسكو حليفاً استراتيجياً في الصراع على توازن القوى في المنطقة وعبّر بقوة عن دعمه لروسيا. إلاّ أن الحزب أحجم حتى الآن عن تحويل تموضع بيروت في الصراع الأوكراني إلى قضية سجالية داخل الحكومة. ومن المرجح أن حزب الله لا يعتبر تصويت الجمعية العامة مهماً بما يكفي لإثارة مشكلة؛ وأن التصريح علناً بدعم روسيا كان يكفي لتسجيل نقاط لدى موسكو؛ وأن انتقاد الولايات المتحدة على غطرستها في محاولة فرض موقف على لبنان سيكون له أثر طيب لدى قواعد الحزب، في حين أن المضي أبعد من ذلك لن يحقق مكاسب سياسية إضافية.

ليبيا

لقد أحدثت الحرب في أوكرانيا تداعيات أصلاً على اقتصاد ليبيا المعتمد على الاستيراد. يعد الخبز سلعة أساسية، وتستورد البلاد أكثر من 90 بالمئة من قمحها، نصفه من أوكرانيا وروسيا. وتدعم الحكومة جزءاً من القمح الذي تستورده. ومنذ اندلاع الصراع، ارتفعت أسعار القمح في الأسواق المحلية في ليبيا بشكل كبير، ما أجبر عدداً من المخابز على الإغلاق. وقد صرح وزير الاقتصاد والتجارة أن لدى ليبيا مخزون استراتيجي من القمح يكفي لثلاثة أشهر، بينما تستمر الواردات بالوصول. لكن ورغم تخصيص القمح المدعوم من الدولة، يقول أصحاب المخابز، إنهم لم يعودوا قادرين على بيع الخبز بالسعر الرسمي ومقداره 0,25 ديناراً (0,05 دولاراً) للرغيف. كما ارتفعت أسعار مواد غذائية أخرى، مثل زيت دوار الشمس، والفواكه والخضار، بشكل جذري على مدى الشهر الماضي.

كما حدث نقص في البنزين أيضاً. قد يبدو من غير المنطقي أن ينفد البنزين في ليبيا الغنية بالنفط، بالنظر إلى أنها تنتج النفط الخام ولديها مصافي تكرير خاصة بها. لكن النفط المكرر محلياً لا يكفي الاستهلاك المحلي، ونتيجة لذلك فإن ليبيا تشتري معظم احتياجاتها الإضافية من الخارج بأسعار السوق، ثم تبيع الوقود محلياً بأسعار مدعومة بشكل كبير. تمتلك الدولة الليبية احتياطيات نقدية يمكن أن تستخدمها لزيادة دعمها للتعويض عن الارتفاع العالمي في أسعار السلع، إذا اختارت فعل ذلك. لكن من يتخذ القرار؟ فالبلاد عالقة مرة أخرى في نزاع بين حكومتين متنافستين، تدعي كلتاهما الشرعية – السلطة التنفيذية التي تتخذ من طرابلس مقراً لها ويرأسها عبد الحميد الدبيبة، والموجودة في السلطة منذ آذار/مارس 2021، وسلطة تنفيذية يقودها فتحي باشاغا، الذي حصل على تصويت بمنح الثقة في مجلس النواب الذي يتخذ من طبرق مقراً له في 1 آذار/مارس. والحكومتان مختلفتان على أي منهما يتمتع بصلاحية الموافقة على التغييرات في اعتمادات الموازنة، بما في ذلك بالنسبة لأموال الدعم، وما إذا كان ذلك بحاجة لموافقة مجلس النواب. ما يزيد من تعقيد الأمور هو أن مؤسستين أخريين – المؤسسة الوطنية للنفط ومصرف ليبيا المركزي – مختلفان أيضاً منذ آذار/مارس 2021 حول أين ينبغي إيداع إيرادات مبيعات نفط البلاد: في حسابات المصرف المركزي، وهو الإجراء المعياري، أو مؤقتاً في حسابات المؤسسة الوطنية للنفط. كل هذه المماحكات، مضافاً إليها سوء آليات صنع القرار والتربّح المستشري من السلع المدعومة، يعطل قدرة الدولة على تخفيف حدة ارتفاع أسعار.

لقد عمقت الحرب في أوكرانيا التنافس بين الجهتين اللتين تدعيان حقهما بالحكم. موسكو حتى الآن هي العاصمة الأجنبية الوحيدة التي تعترف رسمياً بالحكومة التي يرأسها باشاغا. الأمم المتحدة عبرت عن تحفظاتها بشأن تصويت مجلس النواب في طبرق بمنح الثقة، مشيرة إلى إشكاليات قانونية، بينما رفضت الحكومة التي يرأسها الدبيبة تسليم السلطة. إن غياب التوافق في ليبيا كان يشكل أصلاً مصدر قلق للدول التي تنظر في كيفية التعامل مع ادعاء حكومة باشاغا. لكن، وعلى حد تعبير دبلوماسي غربي، فإن اعتراف روسيا السريع كان بمثابة "قبلة الموت"؛ إذ يبدو أن ما من عاصمة أخرى ترغب بالظهور وكأنها تقف مع موسكو في هذا النزاع الليبي خشية إثارة غضب واشنطن. حتى القاهرة، المتعاطفة مع باشاغا، لم تحذو حذو موسكو. تحاول الأطراف الخارجية إيجاد تسوية، جزئياً لضمان عدم اقتراب حكومة باشاغا أكثر مما ينبغي من روسيا. وحتى باشاغا نفسه حريص على الاحتفاظ بمسافة عن الكرملين. في 26 آذار/مارس، اجتمع مع سفير أوكرانيا في ليبيا، وأكد دعمه للشعب الأوكراني قائلاً إن الليبيين يقفون إلى جانبهم "بقدر ما نستطيع". أما الحكومة التي يرأسها الدبيبة، والتي أدانت منذ البداية العدوان الروسي على أوكرانيا، صوتت في 7 نيسان/أبريل لصالح طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وهو الوفد العربي الوحيد الذي فعل ذلك.

وقد عبر دبلوماسيون أوروبيون عن قلقهم حيال التداعيات العسكرية المحتملة لهذا الاصطفاف السياسي الجديد. فمجموعة فاغنر من المتعاقدين العسكريين المدعومة من الكرملين تعمل في ليبيا منذ حرب عام 2019، إلى جانب قوى يقودها المشير خليفة حفتر، المتحالف حالياً مع حكومة باشاغا. كما يحتفظ مقاتلو فاغنر بإمكانية الوصول، وإن لم يكن السيطرة المباشرة، إلى قاعدتين عسكريتين مهمتين على الأقل في وسط البلاد، حيث يقال إنهم يشغلون عدة طائرات مقاتلة أرسلتها روسيا إلى ليبيا عام 2020. حتى الآن، يبدو أن الأثر الأكثر وضوحاً للحرب في أوكرانيا يتمثل في انسحاب بعض وحدات فاغنر ومقاتلين سوريين موالين لموسكو من ليبيا، حيث قدرت أعداد هؤلاء بعدة آلاف خلال حرب عام 2019. ويزعم أنهم عادوا إلى روسيا (عبر سورية). يمكن لرحيلهم أن يشكل تطوراً إيجابياً، بالنظر إلى أن السلطات الليبية كانت تصارع لإخراج المقاتلين الأجانب من البلاد منذ اتفاق وقف إطلاق النار عام 2020. لكن الاستراتيجية العسكرية الروسية في ليبيا تبقى محاطة بالغموض. ويمكن للأزمة الأوكرانية أن تدفع موسكو إلى استخدام الأصول التي تسيطر عليها في ليبيا في مواجهتها مع الغرب، وأن تدعم حكومة باشاغا (وحفتر) في تجدد القتال للسيطرة على طرابلس، رغم أن مدى استعداد أو قدرة موسكو على توفير رأسمال تنفقه تكتنفه الشكوك بالنظر إلى حربها في أوكرانيا.

المغرب والصحراء الغربية

المغرب أقل تأثراً بأزمة القمح من معظم الدول، بالنظر إلى أنه يستورد 20-30 بالمئة فقط من قمحه من روسيا وأوكرانيا. لكن بشكل عام، فإن المملكة تبقى عرضة لصدمات الأسعار، بالنظر إلى أنها تشتري 40 بالمئة من القمح الذي يستهلكه سكانها من الخارج، وسجلت مؤخراً جفافاً غير مسبوق أدى إلى تقليص إنتاجها المحلي بشكل حاد. وكإجراء لمواجهة ذلك، ضاعفت الحكومة موازنتها ثلاث مرات لدعم الطحين. إضافة إلى ذلك، وفي مواجهة ارتفاع أسعار الوقود، وعدت السلطات بتقديم الدعم المالي لقطاع النقل؛ ومن المرجح أن يفاقم الإنفاق على الدعم من عجز موازنة عام 2022. وفي حين أن الحكومة لم تحدد بعد كيف تخطط لتمويل هذه النفقات الإضافية، فإن المغرب قد يتوجه إلى صندوق النقد الدولي أو أن يخطط لإصدار سندات جديدة لجسر الفجوة. ومن المرجح أن يرتفع الدين الخارجي، رغم أن المغرب يمتلك بعض هامش المناورة المالية مقارنة بمصر أو تونس على سبيل المثال.

لقد ظل المغرب حيادياً حيال الصراع في أوكرانيا، وتجنب وصفه بالغزو في التصريحات العلنية. كما أنه لم يشارك في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار بإدانة الغزو الذي قامت به روسيا، وادعى لاحقاً في بيان أن القرار بعدم المشاركة كان "قراراً سيادياً لا يمكن تفسيره بأنه اصطفاف استراتيجي أو موقف يتعارض مع القانون الدولي وسلامة أراضي الدول". وبعدم التصويت، تجنب المغرب الأزمة التي واجهها؛ إزعاج شركائه الغربيين بالاعتراض على القرار أو استعداء روسيا بالتصويت لصالحه. وتمكن من تفادي صدور انتقادات علنية من حلفائه الغربيين على موقفه.

كما أن الرباط قلقة من أن اتخاذ موقف علني ضد موسكو قد يلحق الضرر بسياستها حيال الصحراء الغربية. فبالنظر إلى أن روسيا عضو دائم في مجلس الأمن الدولي يتمتع باستخدام حق الفيتو، فإنها تلعب دوراً محورياً في صراع الصحراء الغربية. وفي السنوات الماضية، امتنعت موسكو بشكل منتظم عن التصويت على قرارات تتعلق بهذه القضية، لكن وزير الخارجية الروسي لافروف عبر مؤخراً عن دعمه لبعض مطالب جبهة البوليساريو المؤيدة للاستقلال، بما في ذلك العودة إلى المفاوضات الثنائية مع الرباط وإجراء استفتاء على الحكم الذاتي. وكلا المقترحان غير مقبولين للمغرب، التي ترغب بتسوية الصراع عبر مفاوضات طاولة مستديرة تشمل الجزائر – أحد الداعمين الرئيسيين للبوليساريو – واعتبار الحكم الذاتي للصحراء الغربية تحت السيادة المغربية الحصيلة الوحيدة الممكنة. إن المعالجة الدبلوماسية الماهرة للرباط لعلاقاتها مع روسيا والغرب تعني أن حرب أوكرانيا من غير المرجح أن يكون لها أي أثر مباشر على الصراع على الصحراء الغربية.

فلسطين

بالنظر إلى أن فلسطين مرتبطة بشكل لا فكاك منه بالاقتصاد الإسرائيلي، فإن أي تداعيات للأزمة الأوكرانية على إسرائيل ستؤثر حتماً على الظروف الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فالتجارة مع إسرائيل تبلغ 70 و80 بالمئة من جميع صادرات وواردات هذه الأراضي، وتلعب إسرائيل دور الوسيط في وصول الفلسطينيين إلى الاقتصاد العالمي. فأي نقص في المواد أو ارتفاعات في الأسعار تنجم عن الأزمة في إسرائيل ستؤثر أيضاً على الاقتصاد الفلسطيني. وتحدث هذه الآثار على خلفية أسوأ أزمة مالية تواجهها السلطة الفلسطينية منذ إنشائها عام 1994، الأمر الذي سيحد من قدرتها على اتخاذ إجراءات تخفيف الأثر لحماية الفئات الأكثر هشاشة في الضفة الغربية. حكومة حماس في قطاع غزة ستتأثر بشكل حاد أيضاً، الأمر الذي سيجمع أزمة اقتصادية بسبب الحصار الإسرائيلي إلى سلسلة من الحروب المدمرة.

سيكون الجانب الذي يتعرض لأكبر الضرر هو الأمن الغذائي؛ فنقص القمح والذرة سيرفع أسعار الأغذية. استوردت فلسطين ما قيمته 10,98 مليون دولار من القمح عام 2020: 5,61 مليون دولار من إسرائيل، وهو القمح القادم غالباً من أوكرانيا وروسيا، و3,57 مليون دولار مباشرة من روسيا و1,8 مليون مباشرة من أوكرانيا. وقد صرحت وزارة الاقتصاد الوطني التي تديرها حماس في قطاع غزة بأنها لن تسمح للتجار برفع الأسعار، مدعية أن لدى قطاع غزة مخزونات من السلع الأساسية كافية للأشهر الثلاثة القادمة؛ لكن تجار قطاع غزة يقولون إنهم يواجهون نقصاً أجبر بعضهم على الخروج من السوق. لقد شهدت الضفة الغربية زيادة في كلفة الأغذية الأساسية، مثل الدواجن، بعد ارتفاع بنسبة 60 بالمئة في كلفة العلف، مقارنة بالزيادة العالمية، المقدرة بـ 14 بالمئة وينشأ التفاوت من حقيقة أن إسرائيل تفرض ضرائب استيراد على 90 بالمئة من العلف الفلسطيني الذي تشتريه السلطة الفلسطينية من روسيا وأوكرانيا. كما ارتفعت أسعار التجزئة لغاز الطبخ والتدفئة بنسبة 6 بالمئة.

من المؤكد أن الأزمة ستدفع فلسطين نزولاً على قائمة الأولويات بالنسبة للحكومات المانحة، والمؤسسات الدولية ووسائل الإعلام العالمية. إذ قد يحوّل المانحون تدفق المساعدات لتخفيف حدة الظروف في أوكرانيا – الأمر الذي سيشكل تحدياً رئيسياً للاقتصاد الفلسطيني الذي يعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية. وكملاحظة هامشية، فإن الاستجابة الدولية السريعة والشاملة للغزو الروسي، إضافة إلى التغطية الإعلامية الشاملة والحاسمة، عمقت الشعور بالخيبة لدى الفلسطينيين وقادتهم حيال ما يرون فيه معايير مزدوجة غربية. لقد تبنت السلطة الفلسطينية موقف "الحياد الإيجابي". فقد قال مسؤولو السلطة علناً إن فلسطين، كبلد تحت الاحتلال، لا تستطيع أن تتخذ موقفاً إلى جانب هذا الطرف أو ذاك في صراع لا يؤثر فيها مباشرة. السلطة الفلسطينية تعتمد مالياً وسياسياً على حلفاء أوكرانيا الغربيين، لكن أيضاً على المساعدات الإنسانية الروسية، وبالتالي فإن الوقوف إلى جانب أي من الطرفين قد يكون له تداعيات سلبية. حماس، من جهتها، لم تتخذ موقفاً رسمياً من الصراع، باستثناء الدعوة إلى إنهاء القتال وإبراز ما ترى فيه تراجعاً للهيمنة الأميركية في الشؤون الدولية، إضافة إلى المعايير المزدوجة الدولية والأفعال المدفوعة بالمصلحة الذاتية لثلاثة من الأعضاء الغربيين الدائمين في مجلس الأمن الدولي.

من غير المرجح أن تعاني السلطة الفلسطينية من تداعيات سياسية رئيسية بسبب الأزمة، التي ستفاقم فقط من الغضب الشعبي من قيادة غير فعالة ولا تحظى بالشعبية أصلاً. قوات أمن السلطة الفلسطينية قادرة على الأغلب، وبمساعدة إسرائيلية، على قمع الاضطرابات الشعبية. في غياب بديل قابل للحياة للسلطة الفلسطينية، فإن لا إسرائيل ولا داعميها الدوليين سيسمحون بانهيارها. رغم الإحباط واسع الانتشار في أوساط الجماهير العربية حيال المعايير الغربية المزدوجة في مقارباتها المتباينة للغزو الروسي والاحتلال الإسرائيلي، فإن الجهات الدولية المعنية بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني من غير المرجح أن تغير منظورها أو استراتيجيتها حيال هذا الصراع.

سورية

بعد مرور إحدى عشرة سنة على الحرب الأهلية في سورية، تسود حالة من الجمود القلق. ويبقى أثر الصراع في أوكرانيا على سورية بعيداً عن الوضوح، لكن ثمة عوامل يمكن أن تعيد الحرب إلى مواجهات أكثر نشاطاً أو تزيد من تفاقم محنة السوريين الذين يعانون منذ وقت طويل.

أولاً، يمكن للحرب في أوكرانيا أن تعود بالمشاكل على اتفاق وقف إطلاق النار في محافظة إدلب شمال غرب البلاد التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، وهو الاتفاق الذي أعلنه الرئيس بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في 5 آذار/مارس 2020. وقد صمد وقف إطلاق النار حتى الآن، بشكل رئيسي لأن موسكو فهمت أنها إذا ساعدت قوات النظام السوري على الاندفاع أكثر إلى إدلب فإنها ستواجه تكاليف عسكرية وسياسية كبيرة، بما في ذلك تعريض علاقاتها مع أنقرة للخطر. اليوم، مع مبيعات الطائرات المسيرة التركية لأوكرانيا وانتقادها للغزو، فإن السوريين في إدلب قلقين من أن موسكو قد ترد بتصعيد أعمالها ضد الوجود العسكري التركي هناك، رغم أنه لم تظهر أي علامة حتى الآن على أنها تعتزم فعل ذلك. بل على العكس، يبدو أن روسيا حريصة على المحافظة على توازن علاقاتها مع تركيا. أما إلى متى سيدوم ذلك فيعتمد على المزاج في موسكو، وعلى الحبل المشدود الذي تسير عليه الدولتان للمحافظة على علاقاتهما.

ثانياً، قد تنشر روسيا في أوكرانيا بعض قواتها في سورية أو بعض المقاتلين السوريين الذين تدعمهم، الأمر الذي سيؤدي إلى حدوث هشاشة أمنية في بعض المناطق التي يسيطر عليها النظام. وفي حين لم يحدث أي تغيير في الموقف العسكري الروسي في سورية حتى الآن، فإن موسكو أعلنت أنها تطوع آلاف المقاتلين من الشرق الأوسط للمشاركة في حرب أوكرانيا، ويمكن الافتراض أن هناك مقاتلين من سورية أيضاً. وتروج شائعات بأنه هناك سوريين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة يتطوعون. يمكن لحدوث عملية إعادة انتشار كبيرة للقوات الموالية للحكومة أن يضعف قبضة النظام الأمنية على تلك المناطق، خصوصاً في وسط سورية حيث يبقى تنظيم الدولة الإسلامية نشطاً. بعد التدخل العسكري الروسي عام 2015، وضعت دمشق وموسكو الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية على نار هادئة، في محاولة لاستعادة الأراضي من المعارضة السورية بدلاً من ذلك. لكن بعد عام 2020، سمح تجمد الجبهات الداخلية في إدلب والشمال الشرقي للنظام وحلفائه الروس بإعادة التركيز على محاربة تنظيم الدولة في وسط وشرق سورية. بالمقابل، تراجع عدد هجمات تنظيم الدولة. إلا أن التنظيم الذي تم إضعافه يمكن أن يعود إلى الظهور إذا أتيح له المجال.

ثالثاً، يمكن للقوات السورية والقوات الجوية الروسية أن تعاني من نقص الذخائر وقطع التبديل على المدى المتوسط والطويل، بالنظر إلى أنه يتم إمدادها عبر الأسطول الروسي في البحر الأسود، المشغول حالياً بأمور أخرى. علاوة على ذلك، لم يعد بإمكان السفن الحربية الروسية المرور عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، لأن تركيا استحضرت بنود معاهدة مونترو. الطائرات والمروحيات السورية، بشكل خاص، ومعظمها قديم وبحاجة ماسة للصيانة، تعتمد على قطع التبديل الروسية لإبقائها في الجو. على المدى القصير، يمكن لقادة القوى الجوية أن يقلصوا عدد ساعات الطيران من أجل المحافظة على ما لديهم، لكن قريباً سيجدون أن طائراتهم لم تعد قابلة للصيانة، ما سيقلص قدرة سورية على القتال. (انظر أيضاً الجزء المتعلق بإسرائيل أعلاه).

رابعاً، يمكن أن تختار روسيا أن تلعب دور المفسد دبلوماسياً، الأمر الذي سيوجه ضربة لجهود الإغاثة الإنسانية. فقد استعملت موسكو حق الفيتو لمنع قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن سورية في الماضي، لكن في عام 2014 ساعدت على تمرير القرار 2165، الذي يسمح للأمم المتحدة بتحديد أربعة معابر حدودية لإيصال المساعدات من الدول المجاورة إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة دون موافقة دمشق. منذ ذلك الوقت، دعمت روسيا جهود النظام في تقييد وصول مثل تلك المساعدات الإنسانية عبر الحدود، وتدريجياً منعت الأمم المتحدة من استخدام جميع المعابر باستثناء معبر واحد. وسينتهي مفعول قرار الأمم المتحدة الأخير في المحافظة على المعبر الأخير من تركيا إلى شمال غرب سورية مفتوحاً في تموز/يوليو. وبالنظر إلى التوترات بشأن أوكرانيا، يبدو من المرجح على نحو متزايد أن تعيق موسكو اندفاعة غربية لتجديد القرار، مع تداعيات كارثية على السكان المحليين، الذين سيكونون عرضة لخطر خسارة المساعدات الإنسانية والطبية التي يحتاجونها حاجة ماسة.

أخيراً، يمكن للصراع في أوكرانيا أن يفاقم مشكلة الأمن الغذائي السيئة أصلاً في سورية. في عام 2021، قدر برنامج الأغذية العالمي أن 60 بالمئة من السكان السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي. إذ تستورد البلاد نحو ثلثي الغذاء والنفط الذي تستهلكه، ومعظم وارداتها من القمح تأتي من روسيا. ولذلك، من المرجح أن تؤدي أزمة أوكرانيا إلى تعطيل سلاسل إمداد القمح وبذور الزيت، وأن ترفع أسعار الأغذية وتكاليف الإنتاج الزراعي المحلي.

تونس

تونس مستورد صافٍ للغاز والنفط، ما يتركها عرضة لزيادات الأسعار العالمية. في حين أنها تلبي 50 بالمئة من احتياجاتها الداخلية من الغاز من إنتاجها الوطني، فإنها تشتري الباقي من شركة سوناطراك الجزائرية بأسعار السوق، وتتلقى 5 بالمئة كإيرادات من مرور خط أنابيب عبر المتوسط في الأراضي التونسية. تضخ تونس نحو 30 بالمئة من النفط الذي تستهلكه من حقولها الخاصة، وتستورد الباقي بأسعار السوق. ولذلك فإن كل زيادة بمعدل دولار في أسعار النفط ينتج عنها كلفة إضافية تبلغ نحو 40 مليون دولار في موازنة الحكومة. وقد استندت موازنة عام 2022 على سعر 75 دولاراً لبرميل النفط. وبالنظر إلى أن النفط الخام يباع حالياً بسعر 100 دولار للبرميل، فإن كلفة واردات الطاقة سترتفع من 1,6 مليار دولار في عام 2019 إلى ما يقدر بـ 4 مليار دولار في عام 2022، وهو الذي يشمل الغاز وأنواع الوقود الأخرى. لقد أُجبرت حكومة الرئيس قيس سعيد على رفع أسعار الوقود شهرياً، الأمر الذي يغذي التضخم والاستياء الشعبي أيضاً. فقد رُفعت الأسعار عدة مرات حتى الآن، ببضع نقاط مئوية في كل مرة.

كما تشكل واردات تونس الغذائية مصدراً آخر للقلق. فالبلاد تنتج بين 70 و90 بالمئة من احتياجاتها المحلية من القمح القاسي وبين 10 و30 بالمئة من استهلاكها من القمح الطري (من أجل الطحين للخبز، الذي يعد طعاماً أساسياً في البلاد). وتبلغ الواردات من أوكرانيا نحو 50 بالمئة من إجمالي واردات القمح، في حين تأتي 4 بالمئة إضافية من روسيا. وقد أكدت الحكومة أن مخزونات القمح ستغطي الطلب الوطني حتى حزيران/يونيو، لكن بدأ أصلاً حدوث نقص بشكل متفرق منذ كانون الثاني/يناير، قبل الغزو الروسي.

إضافة إلى ذلك يبلغ دين مجلس الحبوب الذي تملكه الدولة للمصدرين الأوكرانيين نحو 300 مليون دولار. وقد طالبت أوكرانيا بدفع 50 بالمئة من إجمالي المبالغ المتبقية من الأشهر الستة الماضية مقدماً. وثمة تقارير تشير إلى أن عدة سفن محملة بالقمح من أوكرانيا توجهت إلى تونس لكنها لم تكون قادرة على تسليم حمولتها لأن الحكومة التونسية لا تستطيع توفير هذا المبلغ. ونتيجة لذلك، ثمة مخاطرة بحدوث نقص في القمح قبل حصاد حزيران في تونس. في 24 آذار/مارس، أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مدعوماً من مجموعة السبع، بعثة الصمود الغذائي والزراعي، التي تهدف إلى منع مخاطر المجاعة، خصوصاً في تونس ولبنان، وذلك بتقليص الانقطاعات التجارية إلى الحد الأدنى وتعزيز الإنتاج المحلي.

على المدى القصير إلى المتوسط، من المرجح أن يجعل تفاقم البؤس الاجتماعي، وخصوصاً مخاطر حدوث نقص في الضروريات الأساسية، التونسيين أكثر تقبلاً للخطاب الاستقطابي للناشطين الموالين والمعادين لسعيد. ويمكن لهذا الوضع أن يشكل تحديات أمنية خطيرة للسلطات، بما في ذلك على شكل أعمال شغب وانتشار الجريمة. كما أن تراجع شعبية الرئيس أمر ممكن، بشكل يعزله وقد يؤدي إلى حدوث عدم استقرار سياسي مزمن.

اليمن

حصل اليمن على فترة راحة في مطلع نيسان/أبريل عندما أعلنت الأمم المتحدة هدنة لمدة شهرين، وأفضت مفاوضات قادها مجلس التعاون الخليجي إلى تسليم السلطة داخل الحكومة المعترف بها دولياً وتعهدات بأكثر من 3 مليار دولار لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. أدى تشكيل مجلس رئاسي جديد استلم صلاحيات الرئيس عبد ربه منصور هادي، وضخ الأموال إلى تحسن سريع في قيمة الريال اليمني في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة اسمياً من أكثر من 1,000 ريال إلى نحو 680 ريال مقابل الدولار. سيرفع الريال الأقوى من قدرة اليمنيين الشرائية في وقت يعانون فيه من واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم. وقد ذكرت الأمم المتحدة أن عدد الأشخاص الذين يحتاجون مساعدات إنسانية ارتفع من 17.4 إلى أكثر من 19 مليون نسمة عام 2021.

لكن التطورات في أوكرانيا صبت ماءً بارداً على الأخيار الجيدة. فانقطاعات صادرات القمح الأوكرانية وارتفاعات الأسعار في أسواق السلع العالمية منذ مطلع شباط/فبراير أحدثت أثراً كبيراً في اليمن. ويحذر التجار من أن اليمن يستورد نحو 40-50 بالمئة من قمحه من أوكرانيا وروسيا. ويصارع اليمنيون لتأمين إمدادات بديلة، مع وجود احتياطيات من القمح تكفي لأربعة أشهر فقط. كما أن اليمن مستورد رئيسي للوقود. ونتيجة لذلك، فإن أسعار الوقود والقمح قد ارتفعت في سائر أنحاء البلاد. وقد كان تأثير ذلك حاداً على نحو خاص في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، حيث ارتفعت أسعار البنزين بأكثر من 50 بالمئة منذ مطلع شباط/فبراير. وقد ارتفعت أسعار الوقود في سائر أنحاء البلاد منذ بداية رمضان.

إن الأسعار الأعلى في الأسواق العالمية تعني أن التجار، إذا كان لهم أن يحافظوا على المستويات الحالية من الاستيراد، سيكونون بحاجة إلى زيادة بنسبة 40 بالمئة من العملة الصعبة لدفع الزيادة في كلفة السلع. ويأتي جزء كبير من العملة الصعبة في اليمن من تحويلات العمال، التي يمكن أن تتراجع في الأشهر القادمة بالنظر إلى ارتفاع تكاليف المعيشة في المملكة العربية السعودية، وهي مستورد رئيسي للقمح الروسي والأوكراني. ومن المرجح أن يؤدي نقص العملة الصعبة إلى تعميق أزمة ميزان المدفوعات اليمني. ولهذه الأسباب، يصبح من المرجح حدوث اضطرابات سياسية. لقد شهدت المناطق التي تسيطر عليها الحكومة موجة احتجاجات في عام 2021. وإذا لم يتحسن الوضع في هذه المناطق تحت القيادة الجديدة، يمكن توقع ظهور المزيد من الاحتجاجات. ورغم أن الكثير من الناس في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون محبطون يائسون من الوضع الاقتصادي، فإن المتمردين يديرون دولة بوليسية لا تسمح بالمعارضة وقادرة على قمعها.

أصبح اليمن بسرعة هدفاً عرضياً لعقد الصفقات في مجلس الأمن الدولي في أعقاب الغزو. فالإمارات العربية المتحدة، أحد الداعمين الرئيسيين لحكومة هادي، امتنعت عن التصويت على قرار مجلس الأمن بإدانة العدوان الروسي. بعد ثلاثة أيام، وكجزء من اتفاق أوسع، صوتت روسيا على قرار احتوى نصاً اقترحته الإمارات العربية المتحدة يصنف الخصوم الحوثيين لحكومة هادي "تنظيماً إرهابياً". لاحظ دبلوماسيون في نيويورك أن تصويت روسيا بنعم شكل تحولاً مهماً في موقفها. سابقاً، كانت البعثة الروسية قد هددت بشكل متكرر بالاعتراض على لغة مماثلة بشأن الحوثيين ودعت إلى قدر أكبر من "التوازن" في البيانات والقرارات. لكن مهما كانت نوايا روسيا، يبدو أنها سعيدة بالسماح بتجدد الجهود للمحافظة على الهدنة في اليمن والتحرك نحو المفاوضات السياسية. لم يكن للموقف الروسي المتغير في الأمم المتحدة أثر ملحوظ على الديناميكيات الداخلية أو الإقليمية المتعلقة بحرب اليمن.

مع استمرار صمود الهدنة، فإن جميع العيون موجهة الآن إلى المبعوث الخاص للأمم المتحدة هانس غروندبيرغ، الذي زار صنعاء للاجتماع بقيادة الحوثيين في 11 نيسان/أبريل. إذا تمكن من التفاوض على تمديد الهدنة وحتى المساعدة على إطلاق مفاوضات سياسية، قد يكون من الممكن تفادي بعض أسوأ آثار الأزمة الأوكرانية على التكاليف المعيشية. لكن إذا عادت البلاد إلى الصراع النشط، فإن الآفاق قاتمة فعلاً بالنسبة لليمنيين العاديين. تواجه الأمم المتحدة نقصاً كبيراً في التمويل الإنساني لفترة 2022-2023، كما كان الحال في 2021-2022، عندما ترتب عليها تقليص تغطيتها بنحو الثلث. لقد كان الجوع مدفوعاً بتراجع الدخول وارتفاع الأسعار. ومع انصراف الاهتمام إلى أوكرانيا، من المرجح أن يتضاءل الاهتمام بمناشدات الأمم المتحدة الإنسانية بالنسبة لليمن، التي تمكنت من جمع 1.3 مليار دولار فقط من المبلغ الذي كانت تأمل الحصول عليه وهو 4.27 مليار دولار عندما أطلقت المناشدة في آذار/مارس 2022.

https://www.crisisgroup.org

اضف تعليق