q
سيستند هذا النظام إلى نزعات غير ديمقراطية، بما في ذلك حماية الأنظمة الحاكمة، والتنسيق المضاد للثورات وقد يتطوّر لاحقًا إلى شيءٍ أكثر طموحًا، مثل اعتماد ترتيبات في مجال الأمن الإقليمي، بعد عقدٍ من الانتفاضات، يدرك قادة المنطقة الخطر الأكبر المُحدق بهم. وسيرتكز أي نظام جديد يبنونه على معالجة هذا الخطر....
مايكل يونغ

ربما تسير دول الشرق الأوسط باتجاه نظام إقليمي جديد، لكن قوامه سيكون الاستقرار السلطوي

بعد توقيع السعودية وإيران اتفاقًا لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، أجمع المراقبون على الإعلان بأن ما جرى هو نهاية أحادية القطب في الشرق الأوسط. فقد اعتبروا، نظرًا إلى قيام الصين بدور الوساطة في الاتفاق، أن هذا الأمر يكشف عن أفول النفوذ الأميركي المطلق.

قد يكون ذلك صحيحًا، ولكن بعد مرور عقدٍ على إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما عن "التوجّه [الأميركي] نحو آسيا"، وبعد فترة فاصلة استمرّت سنوات عدّة تولّت خلالها قوى دولية وإقليمية – روسيا والصين والسعودية والإمارات وقطر وإيران وتركيا وإسرائيل وحتى عُمان – قيادة الديناميكيات السياسية في الشرق الأوسط، كان يُفترَض التوصّل إلى مثل هذا الاستنتاج قبل وقت طويل.

لكن الأكثر إثارة للاهتمام هو السؤال التالي: إلى أين يُحتمل أن تقود تعدّدية الأقطاب في الشرق الأوسط؟ والاحتمالات هنا ليست كثيرة. فإما تستمر دول المنطقة في حالة من المعمعة، مثلما هو الحال اليوم إلى حدٍّ كبير، إذ تستخدم كل دولة مصلحتها القومية لتبرير أفعالها؛ أو تسعى إلى تحقيق مزيد من الاستقرار من خلال فرض النظام لضبط الفوضى السائدة.

يُقدّم الاتفاق السعودي الإيراني مؤشّرًا على أن اثنتَين من القوى الكبرى في المنطقة تسعيان إلى تطبيع العلاقات بينهما من أجل فرض مزيد من النظام. ولدى الدولتَين مبرّرات مفهومة للإقدام على هذه الخطوة. ففي حالة السعوديين، تسبّب النزاع اليمني باستنزاف حادّ لمالية المملكة، وشتّت الأنظار عن تطلعات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى إحداث تغيير في السعودية واعتماد اقتصاد يتلاءم مع حقبة ما بعد المواد الهيدروكربونية. فواقع أن المملكة خسرت دماءً في الحرب سببٌ وجيهٌ لاختيار مسار جديد اليوم.

أما في ما يتعلق بإيران، القوة التعديلية بامتياز، فلديها أيضًا حافزٌ لترسيخ ما حقّقته من مكاسب على مرّ عقدٍ ونصف. يهيمن الإيرانيون على سورية ولبنان والعراق وأجزاء من اليمن، ولكن ليس لديهم ما يتباهون به في هذا المجال سوى بلدان في حالة خراب يواجه فيها حلفاء طهران مشاعر كره متزايدة. النموذج الوحيد الذي تقدّمه إيران هو التدهور الاقتصادي والاختناق السياسي، ما أثار ردود فعل غاضبة في الداخل حيث انتفض الإيرانيون طوال أشهر على نظام يبدو أنه فقد كامل شرعيته. تُدرك قيادة البلاد أن المرحلة الانتقالية بعد وفاة آية الله علي خامنئي قد تكون أصعب بكثير مما كان متوقّعًا، مع بلوغ النفوذ الإقليمي الإيراني حدوده القصوى فعليًا.

سترحّب معظم القوى الكبرى في المنطقة، وجميع القوى الصغرى، بنظام إقليمي مستقر. تتخبّط بلدانٌ كثيرة في مواجهة استياء محلّي عميق، إذ إن الحكومات لم تعد قادرة على الوفاء بالعقد الاجتماعي القديم الذي يقضي بتزويد مجتمعاتها بدرجة معيّنة من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي مقابل الرضوخ السياسي. أحد المسارات لبلوغ الاستقرار الداخلي هو الاعتماد على نظام إقليمي آمن لأنه يقلّل من احتمالات قيام الدول بتسوية خلافاتها في أراضي دول إقليمية منقسمة.

خلافًا لمنظومة الدول العربية التي انهارت في تسعينيات القرن العشرين، بعدما ملأت الولايات المتحدة كامل المساحة المتاحة في المشهد السياسي العربي، سيشتمل النظام الإقليمي الجديد –أو بالأحرى يشتمل الآن– على دول غير عربية تقع عند أطراف العالم العربي، وتحديدًا إيران وتركيا وإسرائيل. تقرّ المصالحة السعودية مع إيران ضمنًا بالمصالح الإقليمية الإيرانية، تمامًا مثلما أقرّت المصالحة بين دول عربية عدة وتركيا واتفاقيات السلام مع إسرائيل بالمصالح الإقليمية التركية والإسرائيلية.

حين يتحدّث البعض عن نظام إقليمي جديد، يبدون عادةً متفائلين. فكل ما يحدّ من الحروب المدمّرة بالوكالة التي أنهكت الدول والمجتمعات في مختلف أنحاء المنطقة يُنظَر إليه بأنه أمرٌ جيّد، ولا سيما أن تداعيات هذه الحروب طالت الجميع ولم يخرج منها أحد سالمًا. هذا الاعتقاد صحيحٌ، ولكن لا بدّ من التدقيق فيه عن كثب.

ميّز الكاتب الراحل سمير قصير، في مقال كتبه لـBeirut Review في ربيع العام 1993، بين أنواع مختلفة من أنظمة الدول العربية. فمنذ خمسينيات القرن العشرين حتى الثمانينيات، انطبعت المنطقة بما عُرِف بـ"سياسة المحاور"، حيث كانت العلاقات بين العرب مدفوعةً بالتنافس بين العواصم العربية. ولكن بحلول التسعينيات، بعد حرب الخليج الأولى، جسّدت العلاقات بين الدول ما وصفه قصير بأنه "حالة الانحلال"، إذ "تفكّكت قدرة عدد من الدول على التدخّل سياسيًا خارج حدودها، مثلما تفكّكت قدرتها على الاضطلاع بأيّ دور على الساحة السياسية العربية".

اليوم، نحن في وضعٍ مشابه لـ"سياسة المحاور"، ولكن المحاور كثيرة جدًّا إلى درجة ينعدم معها الاتّساق الإقليمي على وقع تبديل الدول تحالفاتها بصورة مستمرة وفقًا لأجنداتها. علاوةً على ذلك، واظبت دول عربية كثيرة، إضافةً إلى إيران وتركيا وإسرائيل، طوال عقدٍ من الزمن، على التدخّل خارج حدودها، ما أدّى إلى تفاقم الالتباس على الساحة الإقليمية.

لم تُفضِ منظومة الدول العربية السابقة بتاتًا إلى إنهاء الخصومات الإقليمية، ومما لا شك فيه أن أي نظام إقليمي جديد سيفشل في تحقيق ذلك أيضًا. ولكن كانت للدول العربية آليات فعّالة تعكس إجماعًا حول الدفاع عن الأنظمة السلطوية الواعِدة بتحقيق الاستقرار، ونجحت أحيانًا في احتواء صراعات خطيرة، وأتاحت لائتلافات الدول تحييد التهديدات المُحدقة بأمنها القومي. وهذه ستكون ركائز أي نظام إقليمي جديد يُبصر النور.

سيستند هذا النظام إلى نزعات غير ديمقراطية، بما في ذلك حماية الأنظمة الحاكمة، والتنسيق المضاد للثورات (على غرار الحلف المقدّس الذي أنشأته الأنظمة الملَكية الأوروبية المحافِظة في العام 1815)، والدفاع المطلق عن السيادة. وقد يتطوّر لاحقًا إلى شيءٍ أكثر طموحًا، مثل اعتماد ترتيبات في مجال الأمن الإقليمي، على الرغم من أن محدوديات هذا المسعى واضحة نظرًا إلى أن العداوة ستستمر بين إسرائيل وإيران.

بعد عقدٍ من الانتفاضات، يدرك قادة المنطقة الخطر الأكبر المُحدق بهم. وسيرتكز أي نظام جديد يبنونه على معالجة هذا الخطر. فالرابط بين جميع هذه الدول سيكون الالتزام بإسكات الأصوات المستقلة التي عَلَت في العقد الأخير. هذه ستكون العقيدة المشتركة في عصرنا الشرق أوسطي الجديد.

اضف تعليق