في ذكرى وفاة عمّ رسول الله، وكافله في صغره، وناصره في كبره، السيد أبوطالب بن عبد المطلب، عليهما السلام، نستذكر هذه الايام ليس فقط هذه الشخصية العظيمة ومواقفها وتضحياتها، وايضاً ظلامتها، إنما نستذكر المشكلة المنهجية التي وقع فيها الكثير من العلماء والكتاب والمؤرخين، في العهود الماضية، وفي الوقت الحاضر...

"أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"

النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وهو يشير الى سبابته والوسطى.

هذا الحديث الشريف متفقٌ عليه من المسلمين في كتبهم الروائية عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وإن كان ثمة حاجة لإثبات إسلام أبي طالب، عليه السلام، لكفى هذا الدليل العقلي والنقلي؛ ألم يكن رسول الله يتيماً؟ ألم يكن أبوطالب كافلاً لرسول الله في السابعة من عمره؟

لا يختلف المؤرخون على الجواب بالايجاب على السؤالين.

بل وأجزم بالقول؛ أن الحديث المنسوب كذباً وزوراً على رسول الله بأنه قال: "إن عبدالله وآمنة بنت وهب وأباطالب جمرة من جمرات جهنم، وإنه في ضحضاح من نار"، لم يكن عند علماء أهل السُنة والعارفين بالأمور، إلا محاولة مستميتة للتقليل من شأن أمير المؤمنين، عليه السلام، بين أبناء الأمة على مر الاجيال، لا غير.

الى متى الاستخفاف بالعقول؟

في ذكرى وفاة عمّ رسول الله، وكافله في صغره، وناصره في كبره، السيد أبوطالب بن عبد المطلب، عليهما السلام، نستذكر هذه الايام ليس فقط هذه الشخصية العظيمة ومواقفها وتضحياتها، وايضاً ظلامتها، إنما نستذكر المشكلة المنهجية التي وقع فيها الكثير من العلماء والكتاب والمؤرخين، في العهود الماضية، وفي الوقت الحاضر، جعلتهم يكفرون أبا طالب، وأنه مات مشركاً، ولم يعلن إسلامه كما فعل الآخرون.

حصر هؤلاء الإسلام والرسالة الخاتمة التي جاءت من عند الله –تعالى- وايضاً؛ تضحيات رسول الله، صلى الله عليه وآله، في أمر واحد هو؛ التلفّظ بالشهادتين ليكون الانسان مسلماً فيضمن ماله ودمه، ويكون ضمن المجتمع الاسلامي، بينما نظرة سريعة على آيات الذكر الحكيم نلاحظ الرؤية العميقة والشاملة للقضية، وأنها ترمي الى البناء الانساني والحضاري، {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، وقد أكد القرآن الكريم وجود شريحة المنافقين في كيان المجتمع الاسلامي الأول، ونزلت سورة كاملة تكشف مواصفاتهم لنحذر منهم على مر الزمان، كما وردت آيات عديدة في سور مدنية، تفصّل أحوالهم وكيف كانوا يصلون خلف النبي الأكرم، ويتزوجون من المسلمات، ويعيشون بينهم في الظاهر مسلمين، ولكنهم يتخلفون عن نداء الجهاد، ويحاولون دائماً التنصّل من أوامر النبي، وحتى اتهامه احياناً بعدم العدل في تقسيم الغنائم! وغيرها من المواقف المشينة.

أما الذي كان يعرف الأبعاد الحقيقية للإسلام في وقت مبكر، هو أبو طالب مع القلّة القليلة آنذاك، وأن القضية تحتاج الى اساليب وطرق لنصرة هذا الدين، ونصرة النبي في مهمته الرسالية. وكان من هؤلاء؛ عمار بن ياسر الذي أُكره على الكفر وهو ينظر الى أمه سمية وأبيه ياسر كيف قتلهما أبو جهل بتلك الصورة الشنيعة، فبشره النبي الأكرم فيما بعد بالآية الكريمة: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}.

وهكذا كان أبوطالب منذ الايام الاولى للمبعث النبوي الشريف، وعندما عرف بتوجه ابنه علياً نحو النبي ليعلن انضمامه كأول رجل يدخل الاسلام، فهو يعرف ما سيكون عليه مستقبل هذا الدين، ولو بشكل إشارات أودعها اليه أباه عبدالمطلب عندما دنت منه المنيّة، والنبي يومذاك في الثامنة من عمره "فأوصى أولاده العشرة بمحمد، واختار من بينهم عبد مناف –ابوطالب- فعهد اليه برعايته وأن يضمه الى أولاده، ولوّح بما سيكون له من شأن في مستقبل حياته، وكان مما قال لهم: إني قد خلّفت لكم الشرف العظيم الذي تطأون به رقاب الناس"، سيرة المصطفى- السيد هاشم معروف الحسني.

فقد أخذ من أبيه سيادة قريش، كما أخذ مسؤولية تكفّل ابن اخيه على عاتقه ايضاً، لتكون مهمة مزدوجة وخطيرة في آن، فهو يحظى بشخصية محترمة ومطاعة في قريش المشركة والكافرة بالله، ومطلوب منه في الوقت نفسه الحفاظ على حياة النبي الخاتم، وأشرف الانبياء والمرسلين، والذي سيكون في قادم الأيام رحمة للعالمين.

ولي أن اسأل أي مدّعٍ على أبي طالب بأنه في النار، يتصور نفسه في تلك الأيام في مكة وبين صقور قريش وعامة المشركين الذين كان القتل عندهم أسهل الاعمال اذا ما زاحمهم أحد في عقيدتهم وشخصيتهم وامتيازاتهم، ثم يطلب من أبي طالب بأن يعلن إسلامه ويفقد سيادة قريش وطاعتهم واحترامهم، ويكون كأي واحد من المسلمين المضطهدين، هل كان ينجو النبي من القتل والابادة من المشركين؟

طيلة عشر سنوات من عمر الرسالة في مكة، وأبوطالب يوفر الحماية الاجتماعية والسياسية للنبي، فقد تقمّص دور الوسيط بينه وبين المشركين، وهي بحد ذاتها تعد منقبة تضاف الى مناقبه ومنجزاً عظيماً للإسلام كدين جديد يفرض نفسه آنذاك على المشركين، وكتب التاريخ تنقل الرسائل والمقترحات بين المشركين، وبين النبي بواسطة عمه ابوطالب، وكان النبي تارةً يرشدهم الى سواء السبيل ويبشرهم بمستقبل زاهر إن آمنوا به وبرسالته: "أعطوني كلمة واحدة تملكون به العرب وتدين لكم العجم"، فقال له أبوجهل، وكان هذا في حضرة ابوطالب: نعم وأبيك، وعشر كلمات لا كلمة واحدة، فقال: تقولون: لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه! فكانوا يسارعون الى مغادرة دار أبوطالب مغضبين، وفي وقت آخر عرضوا عليه أن يعبد هو الاصنام لفترة من الزمن، ثم يعبدون هم الله والواحد فترة اخرى، وعرضٌ آخر بأن يملكونه ويعطونه ما يريد ليكون سيد قريش والعرب وغيرها من المغريات والخيارات ليتخلصوا منه بشكل سلمي، بعد أن عرفوا في سرّهم أن أمر النبوة واقعة في رسول الله لا محالة، لكن خاب فألهم، وبقي موقف النبي كالجبل الأشمّ لا يتزحزح، وهذا بفضل سياسة وكياسة أبي طالب وتعامله مع الاحداث آنذاك في منتهى الذكاء.

أبوطالب بركة للهداية طول الزمن

ينقل عن المفكر والباحث السوداني معتصم سيد أحمد أنه اتخذ من شخصية ابي طالب خير وسيلة لنشر مذهب أهل البيت من خلال المحاججة في أمر إسلام أبي طالب لكثرة الأدلة والبراهين من السيرة النبوية ومن القرآن الكريم ايضاً، فيتضح لهم حجم التضليل طيلة سنوات حياتهم، بل وعلى طيلة القرون الماضية من التاريخ الاسلامي، فعندما ينهار عندهم هذا الأصل في البنية العقدية لديهم تنهار سائر الأصول والثوابت بشكل تدريجي، ومن أقوى الأدلة من الكتاب المجيد {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، الذي يؤكد حرمة بقاء المرأة المسلمة في ذمة زوجها المشرك، وبإجماع المسلمين جميعاً كانت فاطمة بنت أسد مسلمة في مكة، فكيف يبقيها رسول الله مع ابي طالب وهو مشرك؟!

وكيف يكون ابوطالب مشركاً ويدعو ابنه علياً أمير المؤمنين لينام في فراش النبي في ليلة هجرته ليوهم المشركين بأنه موجود لم يخرج من مكة، وليكون الإمام الدرع الواقي أمام سيوف ورماح المشركين في عملية الاغتيال الفاشلة والمعروفة؟

وكيف يكون أبوطالب مشركاً وهو يرى النبي الأكرم يقف في المسجد الحرام يصلي لربه وخلفه خديجة وعلي، ثم يقول لابنه جعفر: صِل جناح ابن عمّك؟

وكثير شعره في مباركة الرسالة والنبوة، ومدحه النبي بما لا يدع مجالاً للشك في إيمانه العميق والراسخ برسالة السماء، بل وكونه موحداً، كما كان أخاه عبدالله، وأبوه عبد المطلب، وجميع السلسلة المتصلة بنبي الله اسماعيل:

ألم تعلموا إنّا وجدنا محمداً

رسولاً كموسى خُطّ في أول الكتبِ

وأن عليه في العباد محبّة

ولا حيف فيمن خصّه الله في الحبِّ

ويقول في أبيات له:

نصرت الرسول رسول المليك

ببيض تلألأ كلمع البروق

أذبّ وأحمي رسول الإله

حماية حامٍ عليه شفيق

حقاً؛ إنها لمسؤولية رسالية وأخلاقية على كل ذي مِكنة بأن ينصر الحق ويكشف الحقيقة للمسلمين في هذه الأيام المباركة من شهر رمضان، فالمسلمون يعدون أنفسهم أنهم يؤدون فريضة الصيام كما أمرهم الله في كتابه، يتناولون طعام الاسحار ثم يفطرون مساءً، مع أداء بعض الاعمال العبادية وهم يجهلون حقيقة ظلامة رجل له عظيم الفضل على الإسلام في تقوية اركانه، ثم انتشاره، ثم وصوله الينا بالشكل الذي يتغنّى الجميع بالأخوة والتسامح والتكافل في ظل الاسلام، وإن تحدث البعض عن غياب العدل والمساواة والحرية والقانون الإلهي في البلاد الاسلامية، علينا أن نعود الى تاريخ الحكومات التي مثّلت الاسلام منذ معاوية والى يومنا هذا، بل والى يوم القيامة ونرى كيف أنها تبعد شخصيات مثل أبي طالب عن الرمزية في حياة المسلمين، واستبدالها بشخصيات مثل خالد بن الوليد، ومعاوية، و أبناء مروان بن الحكم، وهارون الرشيد، والمنصور الدوانيقي وأشباههم، والى يومنا هذا نلاحظ من يحترم هذه الإرادة ويلتزم بما قاله السلف من تكفير أبو طالب، وأنه في النار، بينما أبوسفيان، والطلقاء من مشركي مكة، ممن كانوا من ألدّ أعداء الدين ورسالة السماء، في الجنة لأنهم نطقوا بالشهادتين!

اضف تعليق


التعليقات

محمد زين
بارك الله بك على هذا المقال الرائع والمفيد2022-04-10