q
كيف السبيل لمعالجة ظاهرة النكوص على الاعقاب المبتلى به الإنسان على مر التاريخ؟ وما يصنع الامام الحسن بأفراد في المجتمع يؤثرون الترف والرفاهية والسلامة على الإيمان بالله وبرسوله وبالقيم السماوية؟ إنها بصمة الأخلاق في وجدان الامة جمعاء لتتخلص من كل تلك الشوائب والادران التي حجبتها عن نور الرسالة...

من الطبيعي أن يزدان بيت النبوة والإمامة بالبهجة والفرحة العارمة بأول سبط يولد لرسول الله من عزيزته فاطمة، وهو؛ الامام الحسن المجتبى، يحمله أباه؛ أمير المؤمنين الى رسول الله قبل أن يسميه او يفعل أي شيء آخر، فيضمه الرسول الى صدره، ويغدقه بوافر الحب والحنان، ويجري عليه ما سنّه للمسلمين، من الآذان والإقامة في اذنيه، ثم حلق شعر رأسه والتصدق بوزنه فضة، والعقّ عنه بكبش، وتسميته.

ولد الإمام الحسن واستقر في مهده الوثير، بينما كانت الاحداث الجسام تضطرب حوله في السنة الثالثة من الهجرة، فقد كان المسلمون قد حققوا أول وأعظم انتصار لهم على المشركين في غزوة بدر، و تقدموا خطوة بعيدة نحو تشكيل كيان الدولة والمجتمع في المدينة بقيادة الرسول الأكرم، في الوقت نفسه كانوا يتوقعون كل يوم ردة فعل المشركين على تلك الهزيمة النكراء، والتي تمثلت في الاستعداد لمعركة أحد، وما جرى خلالها من أحداث مريرة على المسلمين.

نفحة عاطفية من المهد الوثير 

كان النبي الأكرم يلحظ الحاجة الى بناء الشخصية الايمانية لأفراد الأمة على الصعيدين: المادي والمعنوي؛ على صعيد الطاعة للقيادة، وعلى صعيد الايمان بالقيم الأخلاقية والدينية ايضاً، فكان لابد من مسحة عاطفية تجلي القلوب القاسية بفعل الحروب وحياة البداوة، والنفحة الأولى صدرت من مهد الحسن المجتبى، وتسللت الى مفاصل المجتمع الإسلامي الصغير آنذاك في المدينة.

النبي الأكرم يحمل سبطه الحسن فيراه رجل من الأنصار وهو يضمه الى صدره ويشمّه ويقبله بلهفة، فاستغرب الموقف وقال للنبي: إن لي ابناً ما قبلته قط، فقال له النبي: "أرأيت اذا كان الله قد نزع من قلبك الرحمة فما أصنع لك، الحسن والحسين ابناي، من أحبهما أحبني، ومن أحبني أحبّه الله، ومن أحبه الله أدخله الجنة، ومن ابغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النار".

إنها الفرصة التاريخية لتتعرف الأمة على مكانة السبط الحسن، وايضاً؛ أخاه الحسين عند رسول الله، وعند السماء، فتلين قلوب بعد قساوتها، ثم لتكون مؤهلة للولاء والحب الحقيقيين لأهل البيت في قادم الأيام.

الوقت حرجٌ للغاية في حركة الزمن المتخللة بناء كيان الامة والمجتمع، فقد بقيت ترسبات الجاهلية في النفوس الى عهد إمامة الحسن، فأبناء ذلك الرجل المستغرب حالة العطف والحنان النبوي للحسن وهو طفل صغير، اصبحوا رجالاً لا يحملون شيئاً من الخصال والصفات النبوية، رغم أن خاتم الأنبياء والمرسلين يعيش بينهم، ويرونه ويسمعون كلامه كل يوم، ولكن "ران على قلوبهم"، وربما الأبناء صار لهم أولاد يتوارثون القسوة والغلظة في جميع تفاصيل حياتهم، ولاسيما المتعلقة بالعلاقة مع القيادة والولاية الإلهية، وهي أخطر حلقة في علاقات الانسان مع واقعه الخارجي، يفترض ان تكون وفق المعايير المنصوص عليها، وهم انفسهم من تسببوا للإمام الحسن بتلك المحن والرزايا الجسيمة إبان توليه الخلافة والإمامة بعد أبيه أمير المؤمنين، وفعلوا ما فعلوا به من طعن، و غدر، وتشكيك، وخيانة.

العلاج بالأخلاق

كيف السبيل لمعالجة ظاهرة النكوص على الاعقاب المبتلى به الإنسان على مر التاريخ؟ وما يصنع الامام الحسن بأفراد في المجتمع يؤثرون الترف والرفاهية والسلامة على الإيمان بالله وبرسوله وبالقيم السماوية؟

إنها بصمة الأخلاق في وجدان الامة جمعاء لتتخلص من كل تلك الشوائب والادران التي حجبتها عن نور الرسالة وأبناء الرسالة السماوية متمثلين بالأئمة المعصومين، عليهم السلام، وقد سبق أن أسس رسول الله مدرسة الأخلاق هذه في بدايات النشوء لتحقيق نفس الغاية.

ولم يكن الإمام الحسن المجتبى وحده من يحمل صفة الحِلم والسماحة، إنما هي صفة اشترك فيها جميع الأئمة المعصومون، عليهم السلام، إنما تفاعل هذه الصفة مع الأجواء النفسية والاجتماعية والسياسية للمجتمع الإسلامي آنذاك، أعطى لهذا الحِلم طابعاً مميزاً في شخصية الامام الحسن، عليه السلام.

يكفيه مثالاً من المئات مما أورده التاريخ وما أخفاه عنّا للأسف، أن يصادفه رجلٌ شاميّ من أتباع معاوية دخل المدينة في فترة ما بعد الهدنة، وكان الامام قد غادر الكوفة مع افراد عائلته عائداً الى مدينة جده رسول الله، فما أن رآه ذلك الرجل حتى انهال على الإمام يسبه ويسبّ أمير المؤمنين بشكل غريب و دون أية مقدمات، فأقبل اليه الإمام الحسن مسلّماً عليه ومبتسماً وقال له: "يا شيخ، أضنك غريباً، ولعلك شُبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا ارشدناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كانت لك حاجة قضيناها لك"، فلما سمع الرجل كلام الإمام بكى وقال: "أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يضع رسالته، كنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ".

هذه الحادثة العابرة في حياة الإمام، التي ربما لم تستغرق سوى دقائق، تمثل لنا منهجاً متكاملاً في التعامل مع الآخر المخالف في الرأي والفكر والعقيدة، فالإمام الحسن في بداية الأمر نأى بنفسه تماماً عن مرمى السباب وكأن الأمر لا يعنيه هو، او أن الرجل أخطأ فيمن يريد ويقصد؛ "لعلك شُبّهت"، ومن ثمّ راح الإمام يفتح أمامه واحة الأخلاق والفضيلة التي لم يتلمّسها هذا الرجل، ربما طوال حياته وهو يساير الحكام والولاة، لاسيما من رجل حاكم مثل معاوية. ولذا جاء هتافه المدويّ بعد ان ذرف دموع الندم على ما تفوّه به: "الله أعلم حيث يضع رسالته".

ليس المهم أن يحكم الصالحون والمتقون والمجاهدون بما يروه حقّاً لهم، إنما المهم والمطلوب أن يلمس الناس المحكومين المصاديق العملية لذلك الصلاح والتقوى والجهاد في الحاكمين خلال تعاملهم اليومي مع افراد المجتمع، وحينئذ يكون التمايز بينهم وبين الطغاة الظالمين، او بينهم وبين الحكّام المتاجرين باسم الدين والقيم والشعارات الرنانة.

اضف تعليق