استعباد ابناءنا واجيالنا عبر تصدير الافكار والقيم والعادات المعلبة لصنع طابور هائل من الشباب يتغنى بأبطال الغرب الفاسدين ولتصبح افكار وقيم الشباب متشكلة بالصناعة الغربية، لقد وردّوا الينا حتى فرق عبادة الشيطان والشذوذ. ضياع هوية الأمة في ظل الدعاية القوية التي تروج لها أدوات المعلوماتية...

يمكن القول بان هجوم أسراب المعلوماتية فوق سماء عقولنا وثقافتنا وإلقاءها علينا بكم هائل من المعلومات الغثة والسمينة سوف يخلف آثارا سلبية كبيرة في تشكيل الأفكار والأخلاقيات والقيم وتؤسس بناء معرفيا هشا قائما على السطحية والتغرب والتفاهة، ويمكن أن نعدد مظاهر هذه السلبيات هكذا بان المعلوماتية:

تخمة معرفية

تحتوي على الصالح والطالح وحينها يكون الصالح لا قيمة له حيث يسيطر المضر من هذه التخمة على مقدار المعلومات المنشورة، وتشير الإحصاءات إلى أن المعلومات العامة تتضاعف كل سنتين ونصف السنة مما يعني وجود تراكم معرفي ضاغط يفرز ضغوطا نفسية وعصبية مما يقلل في المقابل من الإنتاجية ومن التركيز، كما يلاحظ أن هذه التخمة اقرب للترفيه والاستغلال التجاري منها إلى المعلومات المفيدة.(1)

فقدان النقد والتحليل

إذ كيف يمكن أن يمتلك الفرد الوقت اللازم مع هذه التخمة لنقد المعلومات وتحليلها ووضعها في ميزان التقييم أو معارضتها وقد اجتاحته كطوفان لم يبق فرصة للتشبث أو البقاء، لذلك نرى إن قبول الأفكار الغربية والتسليم بها يزداد يوما بعد يوم حتى أصبح التشبه التغريبي من أهم مظاهر التقدم.

ومع اضمحلال الحاسة النقدية يصبح الفرد آلة مسيّرة تقوده أدوات المعلوماتية وتوجهه نحو سياساتها واقتصادها ليصبح مجرد زبون مستهلك لما ينتجه الملوك. ويمكن أن نرى كيف سيطرت ثقافة التلفزيون في حياة الناس فتحكمت بحياتهم بشكل مطلق وفرضت عليه شكل التفكير والأكل والشرب والملابس وأسلوب التربية فاصبح التلفزيون منبعا أساسيا للمعرفة وهي معرفة مبسطة يتملكها المشاهد دون أن يبذل أي جهد نقدي ودون أن يعبأ بخلفيات ولا أبعاد الأحداث التي يشاهدها فهو مجرد شاهد على الحدث ليس إلا.(2)

ويرى البعض أن المعلوماتية اليوم بأدواتها الأخطبوطية تساهم في نشر الكثير من السلبيات حيث تقتل الإبداع والابتكار وتشجع على الكسل والخمول بعد أن ينال الفرد كل المتعة واللذة التي يرغب بها دون أي جهد وتفكير فيستهلك وقته في التفاهات وينشأ على حب وتبعية التافهين المتشبهين بأبطال من ورق والصور الإلكترونية التي يصنعها ملوك المال ليسوقوا بضائعهم وأفكارهم وقيمهم الفاسدة. وقد أصبح الإعلام المقروء والمبثوث فضائيا في بلادنا هو نسخة أخرى للإعلام الغربي حيث لا تجد في المعلومات المنشورة غير المتابعات السطحية وبرامج اللهو الخليع التي تزيد في سطحية التفكير وضآلة العقل وتحرفه عن التفكير في أساسيات الحياة وبالتالي تقتل فيه روح المعرفة والعلم والإبداع والمسؤولية وتحوله إلى فرد غير مسؤول عن أفعاله وغير مبال بالقيم والأخلاق والدين والقانون.

وتصبح علينا الأخطار اشد إذ تعصف هذه الثورة وتكتسح أجيالنا وتستبيح عقولنا فلا وقت للتفكير والتمحيص والتردد النقدي وسائر ما يمكن أن يحمي الوعي من السقوط في إغراء الخداع وتنهار ملكة التحوط ويتحول الوعي إلى مجال مستباح لكل أنواع الاختراق، وما سيصيب نظام القيم الذي يؤدي إلى تكريس منظومة جديدة من المعايير ترفع من قيمة النفعية والفردية الأنانية والاتجاه الغرائزي المجرد من أي محتوى إنساني، نعم ستغدق ثقافة العولمة على الجسد ما سيفيض عن حاجته من الإشباع تماما مثل جدتها العولمة الاقتصادية غير أنها ستقتل الروح وتذهب بالمحتوى الأخلاقي والإنساني لسلوك الناس، أليس مرعبا أن يصبح التلفزيون المؤسسة التربوية والتعليمية الجديدة التي تقوم مقام الأسرة والمدرسة.(3)

الاغتراب والعزلة

فعندما يشعر الفرد بانه يحصل على كل شيء يريده دون ان يكون في إطار الاجتماع والتكافل مع الآخرين فانه يبدأ بالانعزال تدريجيا عن المجتمع خصوصا ان أدوات المعلوماتية تقدم له واقعا اجتماعيا فرضيا يجتمع فيه الكترونيا مع الآخرين دون ان يكون هناك أي تواصل انساني حقيقي. هذه العزلة الفردية تولد عند الفرد اغتراب عن الواقع والمجتمع خصوصا عندما يبدأ بالتهرب من مسؤولياته الحقيقية في المجتمع.

فالمعلوماتية خلقت واقعا جديدا أدى إلى اضعاف غريزة الميل للتواصل الحي مع الآخرين لان الشاشة تخلق لدينا وهم الاقتراب الزماني والمكاني من العالم الخارجي وهذا ما يترجم لدى المشاهد بالعجز عن نقل الموقف الفردي إلى موقف جماعي فيصبح الترفيه ملاذا يحرره من ثقل المشاكل والاحداث وهروبا من الشعور بالعجز التام عن الفعل وشعورا بالفرح لعدم وقوع ما يراه من كوارث واحداث عليه انما على الاخرين.(4)

فالشعور بالفردية والانانية الجشعة يقود الفرد للعيش في عالم وحيد بلا عاطفة واحساس، عالم تتغلب فيه الالة على الإنسان فتمسخه إلى مخلوق لاإنسانية فيه، فمع تطور الالة ونمو المعلوماتية يزداد الإنسان بعدا عن انسانيته. وقد غدا من تحصيل الحاصل اليوم بان التكنولوجيات الجديدة للاتصال التي تلعب دورا أيديولوجيا مركزيا تعتبر الرافعة الاساسية لعصر الثقافة المعولمة الذي يتزامن مع ميلاد شكل جديد من اشكال الاغتراب. (5)

فالعولمة التي تبشر العالم بوعودها بالسعادة والعدالة وايجاد عالم اكثر انسجاما وتوحدا بدت انها تقود البشر إلى مزيد من العزلة والغربة والتفكك، لأنها تحرر الفرد من الحواجز المادية ولكنها تغرقه في مزيد من الحواجز النفسية والاخلاقية.

إنتاج وتوليد العنف

اذ عندما يصبح هدف تجار المعلوماتية هو الربح والمنفعة الشخصية يصبح التنافس على إنتاج العنف والفساد والإباحية في اشده.. حيث تلاعب هذه القنوات الجشعة الدوافع الغريزية في الإنسان فتثيرها وتحركها لتزيد من أرباحها. ويوما بعد يوم تقدم هذه الأدوات أطباقا جديدة من حركات العنف والعدوان لتزيد من شهية البشر في الاعتداء على الآخرين وصناعة الحروب وتوليد الإجرام. ففي الولايات المتحدة يمضي المواطن الأمريكي وفقا لبعض الإحصائيات 56 يوما في مشاهدة التلفزيون و11 عاما من عمره عندما يبلغ الثالثة والسبعين، وتعترف تقارير عديدة ومنها تقرير نشرته اليونسكو مؤخرا بان التلفزيون ينمي ثقافة العدائية خصوصا بين الأطفال ويشجع تحول العنف إلى ظاهرة عالمية.(6)

ذلك ان التعرض المتكرر للعنف يقلل من حساسية الفرد ويجعله لا مباليا إزاء العنف المنزلي فتغيب لديه مشاعر الشفقة تجاه الضحية فيقف متفرجا متبلدا لان المثابرة على مشاهدة العنف تفرض عليه التعامل مع الناس الحقيقيين كما لو كانوا على الشاشة. علما أن العنف المتلفز هو نتاج نظام ترويجي عالمي رأى فيه بعض الباحثين انه يمارس اثرا تخميريا ثقافيا مساهما على المدى الطويل في تسفيه العالم والحط من قيمته.(7)

والمفارقة في الأمر أن المخزون الأكبر لإنتاج المعلوماتية يعتمد على نشر اللذة والمتعة والاباحية والعنف والجنس وهي بذلك تقود العالم باستمرار نحو الانحطاط والانحلال عن الاخلاق والقيم والانسانية، فإنجيل الاعلام والقائمين عليه هو المادية والمال، والاعمدة التي يقوم عليها هي الجريمة والجنس والاستهلاكية. هذا التلوث الحضاري والثقافي هو ماتقوم به الجهود الرامية لعولمة الاعلام وتصديره إلى دول العالم المختلفة والعالم تجعله يصاب بنوبة جنون مفاجئة تجعله يقبل على هذا الذي يباع له ويولع به(8)

لقد امتزج العنف بحياتنا وهو يطل علينا يوميا من نافذة التلفزيون وقصص الصحف والمجلات والعاب التخيل الإلكتروني، وانه لأمر مؤسف ان يمطرنا التلفزيون بوابل من العنف ولكن مالا يقل سوءا ان نشارك نحن في هذا العنف حتى ولو بصيغة تخيلية فما يمكن ان نطلق عليه عنف المشاركة يثير الرعب حقا فألعاب وبرامج الجنس والعنف قد تصل في تأثيرها على الناس إلى ابعاد لانستوعبها الان.(9)

إلى اين تقودنا المعلوماتية؟

لا نقصد من طرح المعلوماتية بهذه السلبية إلا ان نوضح خطورة هذا المد الجديد على العالم وعلينا بالخصوص لو لم نتعامل بوعي وتعقل وتخطيط واستيعاب لأدواتها بشكل إيجابي ومفيد يخدم البشرية في إطارها الديني والاخلاقي والانساني.

ولكننا نعيش ازمة تخلف حقيقية تضرب في أعماق البنية الفكرية والاجتماعية لتضع الأمة مفتوحة دون تحصن وحماية ذاتية أمام هبوب اعصار المعلوماتية، لان هذه الظاهرة تتجه إلى:

1) استعباد ابناءنا واجيالنا عبر تصدير الافكار والقيم والعادات المعلبة لصنع طابور هائل من الشباب يتغنى بأبطال الغرب الفاسدين ولتصبح افكار وقيم الشباب متشكلة بالصناعة الغربية، لقد وردّوا الينا حتى فرق عبادة الشيطان والشذوذ.

2) ضياع هوية الأمة في ظل الدعاية القوية التي تروج لها أدوات المعلوماتية من ضياع القيم الدينية واللغة والمفاهيم الاخلاقية، حتى أصبحت الهوية الامريكية هي الهوية الاكثر انتشارا ووجودا. والاخطر من ذلك ان تضيّع الأمة وجودها وتغترب عن نفسها فتصبح مهمشة تسيطر عليها الازدواجية والضبابية وتسحقها الانهزامية، كما هو حال المتغربين الذين اصبحوا بلا هوية.

3) ان يؤدي الاندماج العالمي الذي تطرحه ادوات المعلوماتية لعولمة العالم إلى الاندماج التام وضياع اصالتنا وقيمنا وأخلاقياتنا لانهم يريدون ان يصنعوا عالما تسيطر فيه قيمهم الاستهلاكية المنحطة بشكل مطلق.

4) ان تؤدي الثورة المعلوماتية إلى سحق اقتصاديات دولنا باعتبارهم يسيطرون على كل المعلومات الاقتصادية لذلك فقد يستخدمون هذا الأمر لضرب البنى الاقتصادية لدولنا وجعلها فقيرة لمزيد من التبعية السياسية والثقافية كما حصل ذلك في دول جنوب آسيا.

5) ان يؤدي الانفتاح الثقافي والاعلامي المطلق دون وجود تحصين ذاتي وعمل مضاد إلى نشر الاباحية والفساد الجنسي والشذوذ والمخدرات وهي أمور تروج لها أدوات المعلوماتية بقوة في بلادنا لتمييع اجيالنا وتفكيك الأواصر الأخلاقية والأسرية والاجتماعية.

ويبقى السؤال الرئيسي وهو كيف يمكن ان نواجه هذه التحديات الخطيرة هل بغلق ابوابنا وبناء أسوار حديدية شاهقة لصد الاثير وهو أمر مستحيل..! أم نقوم بإيجاد عوامل وعناصر التحصن الذاتي والمناعة الداخلية عبر رفع مستوى الوعي والفكر أولا والقيام بعمل مضاد يستوعب هذه الادوات في إطارها الإيجابي في نشر قيم الخير والسلام والدين ثانياً...!؟

* مقتطف من مقال نشر في مجلة النبأ-العدد 51-شعبان1421/ تشرين الثاني 2000-تحت عنوان: المعلوماتية استباحة الفكر وتدمير الذات

.................................
الهوامش
1- حضارة الحاسوب، كتاب العربي، ص87.
2- النهج، العدد 50، ص43.
3- العرب والعولمة، ص316.
4- باحثات، الكتاب السادس، ص 168.
5- صحيفة الشرق الاوسط، العدد7660، ص10.
6- النهج، 50، ص43.
7- باحثات، ص159.
8- نذر العولمة، عبد الحي زلوم، صحيفة الخليج 7288.
9- ثورة الانفوميديا، فرانك كيلش، ص503.

اضف تعليق


التعليقات

علي حسين عبيد
العراق
يسعى أرباب العولمة إلى استغلال حاجة الأمم والبشرية عموما إلى المعلومات بكل أنواعها، وبسبب حاجة الإنسان المصيرية لهذه المعلومات وعدم القدرة على الاستغناء عنها، فالجهات المنتجة والمتحكمة تبذل قصارى جهدها للتحكم بالبشرية عبر احتكار المعلومات والتلاعب بالهويات.. أجاد قلمكم في مناقشة موضوع يشغل العصر والأمم التي باتت ضحية عناصر ورموز ومؤثثات عالمنا الجديد.2018-07-03