يا صديقي لا يكفي أن تؤمن بأن سلوكك عفويّ وطبيعي، فالناس لا تعرف ولا ترى ما في داخلك، الكلمات واللغة هي الجسر الذي تعبر عليه المشاعر بين الناس، وهي التي تزيد العلاقات الإنسانية جمالا وعمقا، لذلك قيل في حديث شريف الكلمة الطيبة صدقة، فليس كافيا أن تشعر بأنك إنسان جيد...

لم يفصل بين بيتي وبيته سوى بيت واحد، فنحن (هو و أنا) جيران نسكن في حيّ واحد بل في زقاق واحد، ومع هذا لا أعرف سوى اسمهُ فقط، وأكاد أجزم أنه لا يعرف اسمي، بيني وبين نفسي أسمّيه الرجل الغامض، لم أخبر أحدا بهذه التسمية أو الصفة التي ألصقتها به، أخي الذي يسكن معي في بيتي هو الوحيد الذي عرف أنني أسمي جاري بالرجل الغامض وأيَّدني في ذلك!

وحين سألتُ أخي عن السبب في تأييدهِ لي عن وصف جاري بالرجل الغامض قال:

لا أتذكّر أن هذا الجار تحدّث معي يوما، أو ألقى عليَّ السلام، بل حتى حين ألقي عليه التحية أكاد لا أسمع صوته حين يرد، وربما كان لا يرد أصلا، عيناه نصف مغمضتين وهو يسير، لا ينظر إلى الجوانب أو الزوايا، ولا أتذكر أن أجفانه ترمش، في إحدى المرات كنت جالسا في مقهى بقلب المدينة، كان الوقت بعد الغروب، في المقهى كثير من الجلّاس، وأنا وصديقي دخلنا في حوار عن أوضاع الساعة، رأيتُ جارك الذي تسميه بـ الرجل الغامض يتوجّه إلى المقهى، كان يخطو بهدوء وبحركة رتيبة كأنه رجل آلي، دخل المقهى، لم يلقِ التحية على الزبائن كما هو سائد، مرَّ من جانبي، فنهضت وأمسكت يده بلطف مرحِّبا به، فالتف لي وتبسَّم بفتور، بدتْ عيناه نصف مغمضتين، فارق شفتيه عن بعضهما ببطء، خرجت الكلمات كأنها همس، ردَّ على تحيتي كأنه تخلص من عبء ما، ثم خطا نحو مقعد في زاوية المقهى وغاص في عالمه الفرديّ، كان بصره ينطلق إلى أمام، ثم ما لبث أن أخرج كتابا صغيرا يشبه كتب الجيب أيام زمان، وراح يقرأ بصمت، وبين حين وآخر كنت أرى شفتيه تتحركان وطيف ابتسامة يرتسم في وجهه، ثم يطفو الحزن بوضوح ليرسم ملامحه الحزينة الصامتة، نهضتُ من مكاني واقفا، رافعاً يدي وحيّيتهُ مرات متتالية بصوتٍ عال، وتعمدتُ أن أظهر اهتماما عاليا به أمام الجميع، وحين خرجتُ من المقهى أنا وصاحبي دفعتُ حسابه لصاحب المقهى وأخبرته بالإشارة والصوت دلالة اهتمامي به، لكنه لم يكلّف نفسه بالنهوض من مقعده، ولم أسمع كلمة شكر منه، ما قدّمه لي متكلّفا هو طيف ابتسامة ضئيل أكاد لم ألمحه، صديقي الذي كان جالسا معي وخرجنا معا سألني:

- هل تعتقد أن هذا الرجل يستحق كل هذا الاهتمام الذي أبديته له؟

فقلتُ لصديقي:

- إنه جارنا نسكنُ في زقاق واحد....

قال صديقي:

- لكنه شخص متكبّر جدا...

فأجبته بهدوء:

- كلا إنه رجل غامض وليس متكبرا......

.......................................

بعد ذلك اللقاء أخبرني أخي بأنه التقى جاري الغامض في المقهى، وشرح لي تفاصيل الترحيب الذي أبداه له، ثم ذكر لي نقطة مهمة أتشارك بها مع جاري الغامض حين قال، إنه يقرأ الكتب، وأغلب الظن يهتم بالكتب الأدبية لأن جارنا الغامض كان يتفاعل مع القراءة، فكانت ملامح وجهه تتغير بين الفرح والحزن ويتبسّم أحيانا وهو يقرأ.

ملاحظة أخي هذه جعلتني أخطط بدقة كي أرتبط بالرجل الغامض في علاقة صداقة، فأنا من محبي الكتب لاسيما الأدبية، وجل وقتي أقضيه في القراءة، إنها عالمي المفضّل حقا، وبعد أيام كنت أحضر في أمسية أدبية، فاندهشت وأنا أرى جاري الغامض جالسا في الصف الأول من المقاعد، وبعد قليل انتقل من مكانه ليجلس خلف المنصة، بعد أن قدمه مقدِّم الجلسة على أنه شاعر متميز، ثم بدأ جاري بقراءة قصائده بإلقاء هادئ ونبرة مدهشة أجبرت الجمهور على الدخول في صمت مطبق، لأول مرة أعرف أن جاري الغامض شاعرا وأديبا، وهذا ما جعلني أتّخذ قرارا حاسما بمصادقته.

وما أن انتهت الأمسية الأدبية حتى نهضتُ مسرعا من مكاني بين الجمهور وتقدمتُ إليه وأطريته بكلمات كبيرة يستحقها، في تلك اللحظات رأيتُ عينيه مفتوحتين بشكل كامل وليس إلى النصف، وسمعتُ صوته بنبرة كاملة وليس همسا، ثم اقترب منّا صديق مشترك وطلب أن نذهب إلى مقهى المدينة ثلاثتنا وهذا لقاء يجمع بيننا للمرة الأولى، ومع مرور الأيام والشهور صار الرجلُ الغامض من أقرب، أو أقرب أصدقائي.....

بعد عشرين سنة مرّت على علاقتي الأدبية الإنسانية مع جاري الغامض، رجعتُ بذاكرتي إلى السنين الخوالي، وذكَّرتهُ كيف كنتُ أنظرُ له قبل أن نتصادق، وشرحتُ له لماذا أسميتهُ بالرجل الغامض، فضحك طويلا وفوجئ بكلامي هذا، وأخبرني بأنه لم يكن يقصد أبدا أن يترَّفع على أحد، ولم يقصد إحاطة نفسه وشخصه بالغموض، فهو كما قال كان يتصرف بعفوية تامة ولم يكن يعرف مطلقا بأن الآخرين كانوا ينظرون له على أنه غامض أو متكبّر....

حينها قلتُ له: يا صديقي لا يكفي أن تؤمن بأن سلوكك عفويّ وطبيعي، فالناس لا تعرف ولا ترى ما في داخلك، الكلمات واللغة هي الجسر الذي تعبر عليه المشاعر بين الناس، وهي التي تزيد العلاقات الإنسانية جمالا وعمقا، لذلك قيل في حديث شريف (الكلمة الطيبة صدقة)، فليس كافيا أن تشعر بأنك إنسان جيد وطبيعي وعفوي، المطلوب أن تظهر هذه الصفات في سلوكك وعلاقاتك مع الآخرين عبر السلوك والكلمات لأنها سوف تسعدهم كثيرا وتنقذهم من أمراض العصر الكثيرة كالكآبة والاستلاب والعزلة، وتعزز التماسك الاجتماعي، وقد قال الكاتب اليوناني المعروف نيكوس كازانتزاكي:

الطريقة الوحيدة لإنقاذ نفسك هي أن تناضل لإنقاذ الآخرين.

اضف تعليق