لا أعرف من القائل أن الأسماء تُضفي شيئا من معانيها على حامليها، ولا أدري هل هناك ترابط بين خارج الإنسان وداخله، وهل هذا الاستنتاج صحيح أم أنه محض كلام لا يستند إلى تجارب أو حقائق، ولكن ما أثارني في معلّم اللغة العربية الذي كان يطل علينا في الصف بشكل يومي...

لا أعرف من القائل أن الأسماء تُضفي شيئا من معانيها على حامليها، ولا أدري هل هناك ترابط بين خارج الإنسان وداخله، وهل هذا الاستنتاج صحيح أم أنه محض كلام لا يستند إلى تجارب أو حقائق، ولكن ما أثارني في معلّم اللغة العربية الذي كان يطل علينا في الصف بشكل يومي، ذلك التناقض الحاد بين القنوط الذي يعرّش في مساحة وجههِ، وبين كلماته المتفائلة التي تسرّ السامعين.

لم يحدث أن سمعنا منه ولو لمرة واحدة، كلمة مؤلمة أو مؤذية أو حزينة أو محبِطة، فمع الحزن المهيمن على وجهه كانت كلماته (أثناء إعطاء الدرس)، تنثال علينا كرذاذ المطر، باردة ناعمة تبثّ فينا الأمل بأيام قادمة أفضل وأجمل.

على العكس منه كان معلّم الرياضيات أو (الحساب)، فكان وجهه منبسطا لا تعقيد فيه، ولكن لسانه في خصام دائم مع الكلمات المشجِّعة أو اللطيفة، بل كان يحسب كلماته بالمثاقيل كأنها الذهب، فهو قليل الكلام إلى درجة عجيبة، وإذا تكلم فلا نجد في كلامه سوى الأرقام وعلامات الجمع والضرب والتقسيم والناقص، وما عدا ذلك قد نسمع مفردات قليلة لكنها مثبطة وناسفة للمعنويات.

هاتان الصورتان لمعلميّْ اللغة العربية والرياضيات لا تزالان تحضران بقوة في ذاكرتي، ولا يزال الفارق بينهما من حيث تناقض المظهر مع الجوهر يحيّرني، فمن يكون وجهه عبوسا حزينا نتوقع منه الإحباط والتثبيط، ومن يكون وجهه منفتحا بشوشا نتوقع داخله جميلا.

في أحد الأيام كتبتُ بيتا شعريا يتكون من الصدر والعجز كما يطلق النقاد على بيت الشِعْر، الشطر الأول هو الصدر والشطر الثاني هو العجز، كتبت هذا البيت الشعري بعد شعوري بأنني أحب الأناشيد المدرسية والمحفوظات وقصائد الأطفال التي حفظتها جميعا عن ظهر قلب، حدث لي نوع من الحثّ مع ما حفظته من أناشيد ووجدتُ بي رغبة لكتابتها، فكتبت البيت الشعريّ الأول في حياتي وأنا في الصف الخامس الابتدائي.

كنتُ فرِحا جدا بما كتبت، وفي نفس الوقت كنت خائفا مترددا من عرْضهِ على المعلم أو على أحد الطلاب في صفي، كنت وأنا في ذلك العمر أخشى السخرية أو الهزء الذي قد أتعرض له عندما أعرض بيتي الشعريّ على المعلم أو على الطلاب، لكن أخيرا قررتُ أن أتوجه بما كتبتُ إلى معلم اللغة العربية ذي الوجه الحزين والباطن المنشرِح.

وصلتُ إلى معلم العربية وقلتُ له على خجل واستحياء كبير، استاذ لقد كتبتُ بيتا شعريا ونظرتُ إلى عينيه ووجهه كي أكتشف رد فعله قبل أن ينطق بالجواب، بدا وجهه أكثر حزنا بحيث وأنا في ذلك العمر شعرتُ أنني أتيتهُ في الوقت غير المناسب، وأن باطنه السَمح لا يستطيع إنقاذي من الموقف الذي وضعت نفسي فيه.

لم يجبني معلم العربية بشيء لكنه نصحني بالذهاب إلى معلّم الرياضيات (لأنه كما قال يحب الشعر ويكتبهُ)، فكرتُ فعلا بالذهاب إلى معلّم الرياضيات مع أنني وطلاب الصف كلهم نعرف المفردات التي طالما سمعناها منه، فهو صاحب قاموس فقير إلا من المفردات الجافة التي تتعلق بالرياضيات، لم نسمع منه يوما كلمة خارج قاموس الحساب.

ثم سألت نفسي كيف لمعلّم الرياضيات أنْ يكتب شعرا يحتاج إلى ثروة لغوية تتكون من مئات الكلمات المرنة اللطيفة، ثم سألت نفسي بوضوح، هل أذهب لمعلّم الرياضيات كما نصحني معلّم العربية وأسأله عن مدى جودة بيتي الشعري، أم أصرف النظر عن ذلك وأترك كتابة الأناشيد والقصائد وأخلّص نفسي من الإحراج والسخرية؟؟

وبعد تردّد وتأجيل إلى اليوم التالي، حملتُ معي بيتي الشعري اليتيم إلى المدرسة، وما أن حانت الفرصة ذهبتُ إلى معلّم الرياضيات، وأنا في طريقي إليه سطعَ وجههُ الأبيض في عينيّ، ورأيت الورود تُزهر في مساحة وجهه، وهناك ابتسامة تنعش القلب مرسومة على فمه، لكنني مع ذلك كنتُ متردّدا لأنني أعرف جفاف دواخله وفقره في لفظ وحفظ الكلمات التي تريح السمع والقلب معا.

لم يكن أمامي خيار، لابد أن أسمع رأي معلّم الرياضيات الذي يكتب القصائد والأناشيد، صرتُ الآن قريبا منه، يفصل بيننا متر لا أكثر، ولم يكن معنا أحد آخر، لا من الطلاب ولا من المعلمين، كانت يدي اليسرى تحمل الورقة التي كتبت فيها البيت الشعري، وكانت ترتعش بوضوح، وأُصيب وجهي بالاصفرار، تلعثمتُ وأنا أتخيل ردّه، أستاذ:

- لقد كتبتُ بيتا شعريا لأول مرة، هل أسمعُ رأيك فيه وهل أستمر أم أبحث عن هواية أخرى؟

ابتسامة معلّم الرياضيات اختفت فجأة، وتحول وجههُ إلى الصرامة والجدّية، كان بيتي الشعريّ بين يديه، قرأه في المرة الأولى مع نفسه، ثم قرأه بنبرة شاعرية مسموعة، ثم طلب مني أن أنشده بأهدأ ما أستطيع، وحين فعلت مرة وأخرى، قال لي معلّم الرياضيات الذي لم يدخل في قاموسه الكلام الجميل:

- من كتب هذا البيت الشعريّ؟

- أنا أستاذ.....

صمت قليلا، وتأملني بهدوء، وعادت قسمات الانشراح والانبساط والبشاشة إلى وجهه وقال لي:

- أنت موهوب أيها الفتى، استمر.. استمر.. استمر......

أحيانا كلمات تشجيع قليلة لا تتجاوز أصابع الكف، ترسم لك موهبتك وطريقك في الحياة، وهذا ما حدث معي بسبب ذلك المعلّم الكبير...

اضف تعليق


التعليقات

الاء
العراق
من جميل ما يقرأ2022-02-27