q
تتحقق مفاهيم التنمية من تشجيع المواكب الحسينية، على أن يكون عملها ساند ومتكامل، شامل وتطوعي يستمر طول السنة، يدخل في ميدان التعليم، ودعم المدارس وميدان الصحة والثقافة والعمل المؤسسي، وفي الميادين الأخرى وأن يكون لها دور مستدام وليس مجرد مواكب وقتية، وإنما هي مواكب للتعبير عن الجهد الجمعي...

عندما نقرأ التاريخ نجد هناك انعطافات كبيرة تؤدي إلى تحولات كبيرة، كالحروب الكبرى، والكوارث الطبيعة، على سبيل المثال جائحة كورونا التي حصلت قبل سنوات، أدت الى تحول كبير، وانعطافة في التاريخ اوجدت تغييرا كبيرا في حياة البشرية.

التحول والانعطافة الكبيرة، أما أن يكون تحولا إيجابيا أو سلبيا، عبر تموجات كبيرة تؤدي إلى هذه التحولات، ولكن إذا لم يتم استثمار هذه الانعطافات الكبيرة في التاريخ، تصبح سلبية، مثل الثورات إذا لم يتم استثمارها بشكل إيجابي فتتحول إلى كارثة دموية، حيث تأكل الثورة رجالها.

وقد شكل سقوط النظام البائد انعطافة كبيرة في التاريخ العراقي أدت إلى تحول كبير واطلاق عهد الحريات، ولكن لم يتم استثمار هذه الانعطافة الكبيرة بالشكل الجيد فأدى ذلك إلى تحول سلبي في الكثير من جوانبه، كانتشار الفساد والمحاصصة وتمركز الدولة الريعية، ولم يحدث تحول وطني إيجابي، وكان المفروض على النخب أن تدرس هذه الانعطافات الكبيرة وتقرأ بعمق التحدي الكبير الذي اوجدته لاستثمارها إيجابيا.

الدولة الحقيقية تحمي البنيان العقائدي

زيارة الأربعين ليست أمرا طارئا يحدث فجأة، بل هو حدث يقع كل سنة، ولكنها مع ذلك تشكل هذه الزريارة انعطافة كبيرة بما تحدثه من تموجات، وتؤدي باستمرار إلى حركة كبيرة في العراق، خلال شهري محرم وصفر، لذلك لابد أن نقرأ هذه الانعطافة ونعرف كيفية استثمارها ومن خلالها نحدث تحولا إيجابيا.

زيارة الأربعين بحد ذاتها هي قضية عقائدية راسخة ولا تتوقف بل تتصاعد خصوصا عندما تكون هناك حرية وحرية ممارسة الشعائر. لذلك دائما يكون لها آثار قوية على ارض الواقع وتشكل تحديا كبيرا للجميع.

واذا كانت تمثل قضية عقائدية، لكنها كذلك تُحدث تأثيرا كبير على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، فكيف نستطيع أن نستثمر الانعطافة السنوية الكبيرة لهذه الزيارة وإحداث تحول وطني شامل ضروري في الدولة العراقية، لأن الدولة الحقيقية في العراق هي التي تحمي البنيان العقائدي.

فالزيارة الأربعينية يجب ان تحميها دولة حقيقية مستقرة فيها حريات، دولة تحمي التعددية والتنوع، فزيارة الأربعين تحتاج إلى أن تحمي نفسها بنفسها من خلال تأثيرها الإيجابي في التحول الوطني المطلوب، وإلا ففي المستقبل قد يأتي دكتاتورا آخر مثل صدام ويقمع الشعائر الدينية ويسلب الحريات.

تكامل الابعاد الثلاثة

لذلك نحن نحتاج إلى بناء ثقافي شامل، يؤدي إلى استثمار زيارة الأربعين باعتبارها انعطافة كبيرة في إيجاد التحول الوطني الذي هو مفتاح للتحرر الوطني الشامل، وذلك من خلال ثلاثة أبعاد هي:

العطاء الجسدي: وهو موجود الآن من خلال الحركة المادية في الخدمات الكبيرة التي تقدمها المواكب الحسينية.

العطاء المعنوي: الذي يتجسد في التفاني والإخلاص والتضحية والتكافل الذي يعكسه المشاركون في هذا الحدث العظيم.

العطاء الفكري: تعميق مستوى التفكير وبناء الأفكار التي تحول هذه الطاقة المنبثقة الى مشروع حضاري يحقق التقدم على ارض الواقع.

هذه الثلاثية جسديا وفكريا ومعنويا تعطي تغذية متكاملة للبناء السليم للامة، فإذا اختل أحد جوانب هذه الثلاثية سوف يختل التكامل، لذلك نحتاج إلى تغذية شاملة لكل هذه الأبعاد الثلاثة، فبالإضافة إلى الخدمات المادية من خلال وجود مواكب لخدمة الزوار في الإطعام والمشرب والإسكان وكافة الخدمات المادية، نحتاج في نفس الوقت إلى خدمات فكرية ومعرفية، فقراءة الأحاديث المروية هو بحد ذاته معرفة، لأن جوهر الحضور في هذه الزيارة هو معرفي من اجل بناء الذات وإصلاح الامة.

فعن الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام): (من أتى قبر الحسين (عليه السلام) عارفا بحقه غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر).

لابد أن يأتي الزائر إلى زيارة الأربعين وهو يعرف الهدف من زيارته، لذا يجب أن يكون هناك برامج معرفية وثقافية وندوات فكرية ومؤتمرات ثقافية حول نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، تكون بجانب المواكب الخدمية، فوجود موكب خدمي يتطلب أيضا وجود موكب فكري، فبعض ممن يحضر إلى الزيارة قد يكون من أصحاب الكفاءات والتخصص، فيمكن الاستفادة منهم عبر اقامة مؤتمرات يمكن من خلالها أن يقدموا تصورات جيدة بما يرتبط بهذه المناسبة أو بما يرتبط بالدولة العراقية أو بما يرتبط بالدول التي جاءوا منها.

التحول الاخلاقي

كذلك يحتاج التحول الوطني إلى تحول أخلاقي، حيث لا يمكن أن توجد دولة المواطنة او دولة حقيقية إذا لم يكن هناك تحول أخلاقي يقوم على تكريس التعامل الاجتماعي والاقتصادي بالأمانة والصدق وذلك لبناء الثقة، فأي دولة ناجحة تقوم على مبدأ أساسي وهو الثقة بين الحكومة والمواطن وبين المواطن والمواطن، وإذا لم يكن هناك ثقة سوف يؤدي الى الفشل والانهيار التدريجي، فالاقتصاد كله يقوم على الثقة، لذلك يحتاج هذا الأمر إلى التحول الأخلاقي، وزيارة الأربعين تستطيع أن تحدث تحولا أخلاقيا يخدم التحول الوطني في بناء الاقتصاد والدولة.

معرفة معنى الواجب

أيضا لابد أن يكون هناك معرفة في معنى الواجب، فزيارة الأربعين واجب على الإنسان المواطن، ليس بالمعنى الشرعي ولكن بالمعنى العقلي او العقائدي او الأخلاقي والشعور الإنساني بالمسؤولية، فالإنسان يشارك في هذه الزيارة حبا ومودة للإمام الحسين (عليه السلام) وإيمانا به، فهو بهذا المعنى يؤدي واجبا ينبع من خلال دافعه الذاتي القائم على الولاء.

كذلك لابد أن يعرف المواطن معنى الواجب تجاه وطنه، لأن وطنه هو الإمام الحسين (عليه السلام) وهويته المستقرة في داخله التي تشعره بالانتماء الوثيق بهذه الارض، فهو كذلك يحمي هويته ويحمي دولته من خلال خدمته في زيارة الأربعين.

كذلك إدراك المسؤولية وثقافة التعاون، فثقافة التعاون ضرورة في عملية دعم الزائرين من خلال تقديم الخدمات والتعاون فيما بين المواكب والزائرين من أجل تسهيل الزيارة، كذلك التعاون فيما بين الدوائر الحكومية ومختلف الجهات والمؤسسات، لهذا يجب أن تكون ثقافة التعاون شاملة أثناء الزيارة، ولابد من الاستمرار بها في كل الاوقات، لأن ثقافة التعاون من أهم عناصر التحول والنهضة في الأمة، ونبذ الانانية والازدواجية في السلوك، لكن المعالجة تحتاج إلى عمل قائم على الوعي والممارسة المستدامة لثقافة التعاون.

فإذا لم يكن هناك مؤسسات رصينة تؤدي إلى جمع النشاط الحركي في قناة مشتركة، مثل الماء إذا لم يكن هناك قنوات تجمعه وتضعه في سدود فإنه يصبح سيلا هادرا يدمر كل شيء، كذلك الحركة الكبيرة تحتاج إلى قنوات عبر المؤسسات المتعاونة من اجل تحقيق التأثير والهدف.

زيارة الأربعين دولة مصغّرة

زيارة الأربعين هي دولة مصغّرة، حيث ترى الدولة كلها تجتمع في هذا المفهوم والتجمع، فهي دولة مصغرة، وهي تجربة لبناء الدولة، فلماذا لا نستفيد من هذه التجربة لإيجاد تحول وطني شامل، في كافة البرامج والمستويات.

مثلا لماذا لا يكون في كربلاء بداية لتأسيس بنى تحتية عميقة ورصينة وشاملة حتى تستوعب بنجاح الملايين من الزائرين وتقدم لهم الخدمات بشكل سلس ومفيد، ثم نقل هذا النموذج الى المحافظات الأخرى تدريجيا.

التنمية المستدامة من خلال زيارة الاربعين

التنمية المستدامة هي هدف من أهداف التحول الوطني، فأي تحول وطني لا يوجد فيه تنمية مستدامة هو فاشل، فالدولة فاشلة لأنه لا يوجد فيها تنمية مستدامة، لذلك يجب أن تكون هناك تنمية حقيقية تشمل جميع برامج التنمية المستدامة الموجودة في علوم الاقتصاد والاجتماع. وذلك عبر:

أولا: المعرفة الحقيقية بمنهج الامام الحسين (عليه السلام)

لابد أن تكون هناك معرفة بنهج الإمام الحسين (عليه السلام) لأن كل شيء يبدأ من المعرفة، والتنمية تبدأ من التعليم العميق، لأنه هو الذي يحقق النهضة والتنمية في الأمة، وبالنتيجة لابد أن يصبح هذا المنهج معرفة راسخة في نفوس وعقول كل الذين يشاركون في هذه الزيارة المباركة.

ثانيا: مفهوم العمل الحقيقي.

فبعض المجتمعات تعيش مفهوم العمل المزيف، بالكسل والبطالة والتراخي والريع المجاني، وهذا مناقض لمفهوم العمل، فكما يأتي الناس ويعملون لمدة 20 يوما متواصلة بجهود متواصلة عملا كبيرا، حبا بالإمام الحسين (عليه السلام)، كذلك لابد أن يتحول هذا الاجتهاد إلى آفاق في بناء الدولة العراقية من خلال حب العمل، وحب الخدمة، فيكون عملا إنتاجيا حقيقيا وليس مجرد عمل شكلي في دولة ريعية استهلاكية تقوم على استنزاف الموارد وهدرها.

ثالثا: بناء البيئة الخضراء

كذلك من مفاهيم التنمية المستدامة حل مشكلة البطالة، والتركيز على تطبيق الصحة الجسدية فالأمراض منتشرة في العراق نتيجة لغياب واختلال مفهوم التنمية المستدامة في الصحة حيث تكاليف العلاج كبيرة والآلام لاتتوقف.

كذلك قضية التغير المناخي والتصحر وغياب البيئة الخضراء، هذا الأمر يحتاج إلى وعي نستثمره من خلال زيارة الأربعين في عميلة بناء البيئة الخضراء.

كذلك يجب الاهتمام بقضايا الشباب وتمكينهم وتطوير مهاراتهم، والاهتمام بالأطفال والتربية السليمة، منذ الصغر، كذلك المرأة يجب أن يكون لها دور كبير في المجتمع، بما يناسب مكانتها.

التغيير من خلال الجهد الجمعي

تتحقق مفاهيم التنمية من تشجيع المواكب الحسينية، على أن يكون عملها ساند ومتكامل، شامل وتطوعي يستمر طول السنة، يدخل في ميدان التعليم، ودعم المدارس وفي ميدان الصحة والثقافة والعمل المؤسسي، وفي الميادين الأخرى وأن يكون لها دور مستدام وليس مجرد مواكب وقتية، وإنما هي مواكب للتعبير عن الجهد الجمعي للمجتمع، فالتحول الوطني أو النهضوي يحدث من خلال الجهد الجمعي، والمشاركة المجتمعية التي يقوم بها المواطن.

وهذه المواكب تعد فرصة لأنها تجمع الناس على الولاء المبدئي، ولكن يحتاج الأمر إلى توجيه، فبعض الناس ليس مقصرا في عمله او متجاهلا لها ولكن الفكرة لم تصل إليه، على سبيل المثال في بعض البلدان تحولت الهيئات الدينية والاجتماعية إلى تجمعات شاملة، تجد عندها جامعة ومدرسة ومستشفى ومؤسسات خيرية ومكتبات وانشطة ثقافية.

ومن اجل التحول الشامل نحتاج إلى تطور في التفكير وتشجيع المواكب والهيئات على تبني برامج ثقافية معرفية، فيصبح العمل التنموي متداخلا مع المواكب الحسينية وتكون فاعلة في عملية بناء التنمية الوطنية المستدامة.

* مداخلة "بتصرف" مقدمة الى الجلسة الحوارية عقدها مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث في ملتقى النبأ الأسبوعي تحت عنوان (زيارة الأربعين وآفاق التحول الوطني)

اضف تعليق