q
إن فكرة الاستثمار في زيارة الاربعين من شأنها ان تكون نموذجاً فريداً من نوعه في نجاحه الاقتصادي، وفي الوقت نفسه تعزز الحالة الايمانية، وترفع من المشاعر الايجابية بشكل عام لدى الزائرين القادمين، ولدى أهل المدن المستضيفين، بل وعموم الشعب العراقي الذي سيجد الفرصة امامه رائعة للمشاركة في هذه المناسبة العظيمة...

اعتقد أن الظروف الاقتصادية للبلد، والوضع المعيشي لعامة الناس، ليس بالسوء لدرجة اللجوء الى مناسبة دينية – جماهيرية مثل زيارة الاربعين لنحولها الى مشروع اقتصادي نكسب من خلاله الملايين او المليارات.

ثمة افكار ومقترحات ممن يحملون هموم التنمية الاقتصادية، ويعدون انفسهم مسؤولين عن دفع العراق الى مصاف الدول المتقدمة؛ على الاقل، في جانب الاستثمار، إن عجز ان يكون منتجاً من الدرجة الاولى وحتى الثانية والثالثة، فأن تستقبل مدينة مثل كربلاء المقدسة حوالي 22 مليون زائر خلال ايام قلائل لأداء زيارة الاربعين، هذا في القاموس الاقتصادي يمثل فرصة استثمارية مغرية لتحويل هذه الملايين من البشر الى مليارات من الدولارات، بتفعيل قطاعات النقل والاتصالات والفندقة والمواد الغذائية، وأمور استهلاكية اخرى.

ولكن! ثمة رؤية اخرى موزاية مختلفة تماماً تنظر الى هذه المناسبة على أنها ذو طابع معنوي أكثر مما هو طابع مادي، نعم؛ ينتعش قطاع النقل الخاص، واسواق المواد الغذائية، والاتصالات والفندقة –بعض الشيء- في مثل هذه الزيارات المليونية، بيد أن المناسبة المتعلقة بشخص الإمام الحسين، وبقضيته، بتفاصيلها وابعادها، من الصعب تأطيرها برؤية اقتصادية ضيقة يشكل المال إطارها الدائري.

يروي أحد الزائرين لمرقد مؤسس الدولة الروسية الحديثة (الاتحاد السوفيتي السابق)؛ فلاديمير لينين، والذي يُطلق عليه في الاعلام العربي بأن "ضريح لينين"! بأن ثمة تعليمات موجهة للسائحين منها: عدم وضع القبعة على الرأس، وعدم وضع اليد في الجيب اثناء السير في هذا "الضريح"، وغيرها من التعليمات التي توحي بأننا ندخل في مزار ديني ومرقد مقدس، رغم أن الزائرين قادمين من مختلف بلاد العالم يرغبون برؤية المكان الذي يرقد فيه لينين الذي كان ينشر نظرية العدمية للانسان، فهو جاء من العدم، ويذهب الى العدم بعد موته، ومفخرته في الحياة؛ العمل، والانتاج، وخوض الصراع الأبدي مع استغلال الطبقة الثرية.

وعلينا الالتفات الى مسألة مهمة للغاية، وهي محاولة الاعلاميين والمثقفين والمفكرين القادمين من البلاد غير الاسلامية، للوصول الى تفسير منطقي وعلمي لظاهرة الزيارة الاربعينية، وهؤلاء –كما اعتقد- تيقنوا أن الجموع الزاحفة من مناطق بعيدة عن كربلاء، يحملون افكار غير ما يعرفونه عن رغبات السياح للمناطق الجميلة في العالم، فهؤلاء ينفقون آلاف الدولارات للوصول الى مناطق أثرية نادرة، فيلمسون الاهرامات، وأعمدة المعابد في مصر، أو يتطلعون بانبهار الى برج بيزا المائل في ايطاليا، وايضاً؛ يُمتعون النظر الى شلالات نياغارا في كندا، وجبال الألب في سويسرا، وشوطئ البحر الابيض المتوسط، كلها من اجل خلق حالة من الانبساط النفسي، وطرد آثار الكآبة والضيق من انفسهم، أما في طريق المشي الى كربلاء لمسافات بعيدة، يلاحظ المراقبون الاجانب خلال مسايرتهم للزائرين، إنفاق المال ايضاً، لتغطية تكاليف السفر، بيد أن المفارقة العجيبة في الانفاق الهائل والمذهل على تقديم خدمات السفر والاقامة بمختلف اشكالها للزائرين الآخرين بملء إرادتهم، كل هذا، وهم يحملون في نفوسهم الحزن والأسى واللوعة! فكيف يمكن تفسير هذه المشاعر؟

عندما ندرك حقيقة هذه المشاعر، ومنابعها، بامكاننا الحديث عن استثمار هذه الزيارة المليونية و"الاستفادة" من وجود ملايين الزائرين في مدينة كربلاء المقدسة، لأن فلسفة الاستثمار ومفهوم الفائدة ستختلف تماماً عمّا نعرفه في عالم التجارة والاقتصاد، فثمة علاقة عضوية بين الزائر ومن يقدم له مختلف اشكال الخدمة بشكل مجاني، فذاك يأتي ليقضي حاجة معنوية ملحّة في نفسه، ويشترك معه في نفس الهمّ؛ المنفق والموكب الخدمي على طريق المشاة، فالاثنين يشتركون في الحب والولاء للإمام الحسين، ولأداء زيارة الاربعين تحديداً، كما ينسحب الأمر على سائر الزيارات المليونية المتعلقة بالامام الحسين، عليه السلام، مع فارق الأهمية والأولوية في الروايات عن الأئمة المعصومين، عليهم السلام.

أول خطوة ناجحة لاستثمار هذه الزيارة المليونية؛ عدم المساس بالعلاقة بين الزائر ومن يخدمه وينفق عليه، ثم التفكير بالاستثمار في المرافق المحيطة ، مثل؛ النقل، والبيئة، والسكن، وغيرها، ويكون محور الاستثمار صاحب الموكب الخدمي، والمتبرع بالمواد الغذائية، و والمفروشات، والسكن، والأواني ذات الاستخدام لمرة واحدة (السفري)، بما يعني؛ أن الاستثمار والتفكير بالارباح لن يكون على حساب زائر الامام الحسين، وإنما يكون على حساب المتبرع كونه مهيئ نفسياً على الانفاق في سبيل قضية مقدسة يطلب من خلالها أجر معنوي، ولن يضير الزائر دفع مبالغ معينة غير مرتفعة على السكن والنقل والاتصالات على وجه التحديد، فهو الآخر موطن نفسه لبذل المال للوصول الى مرقد الامام الحسين وأداء مناسك هذه الزيارة، لكن المهم ألا يشعر أنه يتم استغلاله تجارياً من قبل مشاريع استثمارية، كما لو أنه في مصيف، او في مدينة سياحية.

هذا النوع من الاستثمار من شأنه ان يحقق مسألة جوهرية واساس بالنسبة للزيارات المليونية المتعلقة بالامام الحسين، وهي إبعاد مفهوم الاستغلال المالي عن هذه الزيارة، إنما يكون لدينا نوع من التخادم بين المستثمر والمُنفق والمستهلك، وايضاً؛ من يعملون في قطاعات النقل والاتصالات والسكن وغيرها، فالجميع سينتفعون مادياً بشكل مقبول دون أن يستشعر أحد بالغبن، او مساس بمشاعره الدينية.

ولن يكون ثمة حاجة لأن يطلب المتبرع من التاجر التلطّف معه في أسعار ما يحتاجه من المواد الغذائية والانشائية وغيرها مما يحتاجه الزائر، بل التلطّف والتعاطف سيكون حاضراً بالاساس في عقود الاستثمار بين الطرفين، فيكون الشراء بسعر أقل مع كمية أكبر، وبذلك تكون الحركة الانتاجية أكبر، حتى وإن كانت المواد مستوردة من الخارج، فان الجهات المنتجة ستكون مضطرة لمواكبة الحالة الجديدة في العراق، ومحاولة التسامح في الاسعار مقابل التسويق المضاعف.

إن فكرة الاستثمار في زيارة الاربعين من شأنها ان تكون نموذجاً فريداً من نوعه في نجاحه الاقتصادي، وفي الوقت نفسه تعزز الحالة الايمانية، وترفع من المشاعر الايجابية بشكل عام لدى الزائرين القادمين، ولدى أهل المدن المستضيفين، بل وعموم الشعب العراقي الذي سيجد الفرصة امامه رائعة للمشاركة في هذه المناسبة العظيمة، و يمكن تكرار التجربة على سائر الزيارات المليونية في جميع المراقد المقدسة في العراق، وفي أوقات مختلفة من العام.

اضف تعليق