q
فارق النبي الأكرم الحياة في حجر أمير المؤمنين، عليه السلام، وسط ذهول الناس وارتباك شديد عمّ الجميع، فكان الموقف الاجتماعي والسياسي غاية في الحساسية والخطورة، فقد كان الآلاف من الناس معسكرين خارج المدينة لمهمة قتالية بأمر من رسول الله، والقليل من بقي في المدينة، ربما كانوا على وشك الخروج...

"كأني قد دُعيت فأجبت، إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".

قالها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في مقدمة خطبته الغديرية الشهيرة، معلناً للمرة الاولى للمسلمين دنو أجله، مع تحذير من مغبة انتهاك حرمة و حقوق أهل بيته.

فشل مُخزٍ في اختبار الطاعة للقيادة

تزامن تدهور صحة النبي بشكل مفاجئ مع تعبئته العسكرية الشاملة لمواجهة دولة الروم شمال الجزيرة العربية التي كشفت عن نوايا سيئة للدولة الاسلامية بسفك دماء من أسلم من اتباعهم على المناطق المتاخمة للحدود، وهي الحملة التي أعقبت غزوة مؤتة، واستشهد عدد من المسلمين؛ أبرزهم القادة الثلاثة؛ جعفر الطيار، و زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وقد أكد، صلى لله عليه وآله وسلم، للأمة حنكته السياسية، وقيادته الرشيدة لمواجهة التحديات، بل وحرصه على حاضر ومستقبل الأمة من تهديدات المتربصين بهم، لاسيما من دولة متاخمة لهم من الشمال، وهي دولة الروم المسيحية، بما لديها الكثير من الدوافع للإغارة الى دولة الاسلام الفتية والتخلص من خطر سياسي وحضاري يهدد وجودهم بالكامل.

من أجل ذلك عبأ النبي الأكرم جيشاً لم يسبق ان شهدته المدينة من قبل، فقد دعا اليها عديد القبائل و وجوه القوم من المهاجرين والانصار، ربما يفوق عدد الثلاثين ألفاً ممن شكلوا جيش الاسلام في غزوة تبوك التي قادها بنفسه ضد حصون الروم وعاد منها بعد انسحابهم من مواجهة المسلمين وحصول النبي على معاهدات سلام مع ولاة المناطق المتاخمة للحدود مع الدولة الاسلامية بأن لا يشكلوا تهديداً او يعينوا الاعداء عليهم.

المفارقة في هذه الحملة الجديدة؛ القيادة الجديدة، باختيار رجل شاب دون من يدّعون لانفسهم الوجاهة والزعامة لكبر سنّهم وصحبتهم للنبي الأكرم، فكانت صدمتهم في اختيار أسامة بن زيد بن حارثة، ابن شهيد مؤتة، فلم يتورعوا لحظة واحدة عن رفضهم لهذا الاختيار، وكيف يكون قائد جيش بهذا الحجم، فيه زعماء القبائل وكبار الصحابة، شاب لم يتجاوز عمره العشرين سنة وفق المصادر التاريخية، الامر الذي اضطر الرسول لأن يخرج بنفسه الى الناس رغم وعكته الصحية المتفاقمة، ويشدد على أمره بالانضام الى جيش أسامة: "انفذوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عن جيش أسامة"، هذا الإعلان الصريح من فم رسول الله، تكرر غير مرة كما يؤكدها المحدثون والمؤرخون.

ثم يكشف النبي الأكرم بواطن بعض النفوس المريضة بداء الزعامة والكِبر: "لعمري لئن قلتم في إمارته –أسامة- اليوم لفقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وأنه لخليق بالإمارة كما كان أبوه خليقاً بالإمارة من قبل"، وهذا يكشف لنا أن رسول الله أبتلي بمعارضة هؤلاء على اختيار زيد بن حارثة كقائد في جيش المسلمين في غزوة مؤتة حيث جعله الرجل الثاني بعد جعفر الطيار، وهو الجيش الذي أبلى بلاءً حسناً في مواجهة الروم ذو الكثافة في العدّة والعدد، وكان من بين الرموز العسكرية في الجيش الاسلامي في هذه الغزوة؛ خالد بن الوليد الذي فضّل الفرار من المواجهة على الصمود والاستشهاد كما سبقه الى هذا الفوز العديد من المسلمين، وعاد مهزوماً الى المدينة، أما هذه المرة فقد أصرّ النبي على دعوة كلٌ من أبي بكر وعمر بن الخطاب ليكونا رؤوساً لقومهما في حرب مصيرية يفترض ان يكونا في مقدمة المدافعين عن حصون الاسلام، ولكن! المفاجئة التاريخية كانت في تخلّفهم عن الالتحاق بجيش أسامة والبقاء في المدينة أمام دهشة واستغراب المسلمين، وغضب النبي الأكرم.

ولا نخوض أكثر في التفاصيل التاريخية عن الاعذار الواهية لعدم الامتثال لأوامر النبي الأكرم، وهو في أيامه الاخيرة، إنما نسلط الضوء على محنة القيادة التي سقطت فيها الأمة، فيما كان النبي يسعى لتكريس مفهوم انساني وحضاري عظيم يذيب كل العصبيات الجاهلية والتصورات الوهمية عن التفوق والتسيّد بناءً على اعتبارات غير حقيقية مثل؛ كِبر السن، والوجاهة الاجتماعية، والمال، فكان من الصعب عليهم القبول بفكرة الطاعة لقائد جيش ينحدر من أصول العبيد، وكان أسامة ابن زيد مولى رسول الله لسنوات طويلة، ومن نافلة القول التطرق الى قصة زواج النبي من طليقة عبده (زيد) في حادثة أثارت استغراب الناس آنذاك، بيد أن البناء الحضاري للإسلام له تخطيط متكامل أكبر بكثير مما في عقول أولئك الناس، وربما حتى في عقول الكثير من المعاصرين اليوم، ولعل خلود اسم زيد في آية قرآنية لأول وآخر مرة، دليل قاطع على منهج سماوي يدعو الى المساواة والتفضيل على أساس الكفاءة والإيمان والتقوى.

المؤرخون وأصحاب السير طرحوا هذا التساؤل عن سبب إصرار النبي الأكرم تعبئة جيش جرار غير مسبوق، ودعوة جميع رؤساء القبائل والاصحاب للإنضمام الى هذا الجيش وبقيادة شاب دون كبار السن ومشاهير الحرب والقتال، وهو في أيامه الأخيرة حيث كان يعاني وطأة المرض بشكل واضح يراه جميع المسلمين، بيد أن هذا التساؤل ظلّ حائراً دون جواب دقيق، مع علمه، صلى الله عليه وآله وسلم، بما في نفوس البعض من الضغينة على الإسلام ومبادئه وقيمه، وأن هذا الجيش لن يقاتل الروم ابداً بتلك النفوس المريضة، ولكن حسبُ الأمة اختبارها المستمر لأمر القيادة الشرعية، وربما في غفلة منها، وهي مغترّة بوجوه كبيرة موزونة وفق المعايير الجاهلية، وحتى يكون النبي الأكرم قد أتمّ الحجة على الجميع بعد حُجّة الغدير، وليبين للناس وللتاريخ المؤمن الحقيقي من المنافق المؤثر السلطة على الدين، وهذا ما يفسّر استثناء أمير المؤمنين من الدعوة الشاملة للانضام الى جيش أسامة، وهو ما رآه البعض بأنه مؤشر خطير يهدد مستقبلهم السياسي إن كانوا من المطيعين لأمر رسول الله والانضمام الى جيش أسامة المتجحفل خارج المدينة.

حرب نفسية والخديعة الكبرى

فارق النبي الأكرم الحياة في حجر أمير المؤمنين، عليه السلام، وسط ذهول الناس وارتباك شديد عمّ الجميع، فكان الموقف الاجتماعي والسياسي غاية في الحساسية والخطورة، فقد كان الآلاف من الناس معسكرين خارج المدينة لمهمة قتالية بأمر من رسول الله، والقليل من بقي في المدينة، ربما كانوا على وشك الخروج، وبينا المسلمون يستعدون لتقبل الخبر بروح إيمانية، وقد ربّاهم نبيهم على أن {كلُّ نَفسٍ ذَائِقةُ المَوت}، وآيات تلاها عليهم تؤكد أن الموت حقيقة وسنّة إلهية في الحياة، وإذا بعمر بن الخطاب يخرج اليهم شاهراً سيفه مهدداً كل من يقول بموت النبي الأكرم! و راح يصيح بين الناس: "إن محمداً ما مات، ولكنه ذهب الى ربه، وسيرجع كما رجع موسى بن عمران بعد أن غاب عن قومه أربعين ليلة"! وهذا وكان أبوبكر خارج المدينة لعذر أوجده لنفسه غير واضح تاريخياً.

واستمر عمر يتوعد الناس المصدومين بالخبر المؤلم، و راح اتباعه يشيعون هذه المقولة بين الناس لفترة من الزمن، حتى عاد ابوبكر الى المدينة ودخل حجرة رسول الله وهو مسجّى، وكشف الرداء عن وجه النبي الأكرم، وخرج الى الناس بهذه المقولة التي نقضت مقولة عمر وهو الى جانبه: "أيها الناس! من كان يعبد محمداً فان محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فان الله حيّ لا يموت"، ثم تلا على الناس قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}، وجاء في سيرة ابن هشام: أن الراوي قال: والله لكأن الناس لم يعلموا بنزول هذه الآية حتى تلاها أبو بكر! (سيرة المصطفى- السيد هاشم معروف الحسني).

ومن يستطلع تلك اللحظات الحاسمة والمصيرية من تاريخ الاسلام، يجد أن تحرك عمر وغياب أبو بكر عن الواجهة، وخلق هذه الجعجعة لسد الطريق على أمير المؤمنين، عليه السلام، من الظهور والإفصاح عن حقيقة ما جرى للمسلمين، فليس من السهل عليه، عليه السلام، الخروج مسرعاً من الدار والإعلان عن وفاة النبي ثم تذكير الناس بأنه الخليفة الشرعي والقائد للأمة بأمر رسول الله، كما هو في ذهن كل انسان طامح للقيادة والمنصب، فلا يتأخر حتى يقطفها غيره، علماً أن عامة المسلمين يعلمون أن أمير المؤمنين أحقّ من غيره بها، لما سمعوه من فائض الاحاديث والتأكيدات من رسول الله بحقّه، وبشأن الخلافة من بعده، وفي تلك اللحظات العصيبة من حياة النبي، كانوا يرون كيف أن أمير المؤمنين هو الأقرب الى رسول الله في أيامه الاخيرة، ولم يكن يدعو أحداً غيره الى جانبه، فضلاً عن "رزية الخميس" كما يصفها عبد الله بن عباس عندما بان خبث طوية البعض في الامتناع عن تلبية طلب نبيهم بدواة وكتف ليكتب اليهم ما لن يضلوا بعده أبدا، وقد أجمع الرواة والباحثين على أنه، صلى الله عليه وآله وسلم، كان ينوي أن يكتب لأمير المؤمنين الوثيقة النهائية التي من شأنها تغيير مصير الأمة الى يوم القيامة، وهو ما لم يسمح به لم يكن يهمهم ضلال الأمة وضياعها في متاهات الفتن والحروب وسفك الدماء والانحراف عن قيم السماء.

لابد من العودة الى نتائج حركة عمر بن الخطاب، وتلاعبه الواضح والغريب بمشاعر المسلمين، فهو ابتكر طريقة ربما غير مسبوقة آنذاك في الحرب النفسية باستغلال مشاعر نفسية متضاربة ألمّت بالمسلمين لتحقيق هدف واحد، فقد كانت مشاعر الحزن على النبي الأكرم، مختلطة بمشاعر الخوف والرعب من سيف عمر بن الخطاب، مع مشاعر اخرى ذات صلة بالجاهلية تبرر لهم احترام مقولة الكبير في القوم، وعدم تجاهل كلام شخصية قيادية في المجتمع مثل عمر، الامر الذي أدى الى تحييد الناس و خلق حالة الوهن والخذلان والانصياع لأي أمر يأتيهم لينقذهم من الحيرة والخوف والقلق، فكان ما كان من انقلاب السقيفة بعد فترة وجيزة من رحلة النبي الأكرم من هذه الحياة الدنيا، فقد غاب "الاصحاب" عن النبي لحظة موته، كما غابوا لحظة تجهيزه ودفنه، وهو ما يفترض لأي انسان مكرّم وعزيز، فكان الوفاء من أمير المؤمنين والثلّة المؤمنة من الاصحاب الأجلاء ممن تجلّت فيهم أخلاق النبي ومنهجه وسيرته، أكثر مما أثرت فيهم مظاهر الحياة والأموال والغنائم التي تحولت فيما بعد الى منابع للفساد والظلم والعدوان.

اضف تعليق


التعليقات

رقيه طالب حمودي
العراق
لم افهم ما تقصد ب نص التعليم عا أية حال كتبت تعليقي2023-09-15