وانّ من أخطر البدع هو الاستبداد بإِسم الدين، والذي جذْرُهُ ثقافياً الاتّجار بالدّين، وهو الامر الذي شرعنتهُ مدرسة الخلفاء وكرّسهُ الامويّون في حياة الامّة، فعندما يَقُولُ متحدّثهم شاهراً سيفهُ في حضرة طاغيتهم؛

أمير المؤمنين هذا، وأشارَ الى مُعاوية، فإِن هلكَ فهذا، وأشار الى ابنهِ يزيد، ومن أبى فهذا، ملوّحاً بسيفهِ.

انّهُ الاستبداد الدّيني الذي ما أنزلَ الله به من سُلطان؛

فعلى الصّعيد الديني والعقائدي قال العظيم في محكم كتابه الكريم {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

وعلى صعيد حرّية التّعبير قال تعالى {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} وقال تعالى {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

امّا على صعيد الاختيار والعمل والممارسة فقال تعالى {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}.

ولقد كرّس رسول الله (ص) هذه المفاهيم الحضاريّة والإنسانيّة في دولةِ المدينة، فلم يُكره أحداً على الاسلام، كما شرّع الشورى كأداةٍ ووسيلةٍ واسلوبٍ للحكم رافضاً ايّ نوعٍ من انواع الاكراه، اعتماداً على قول المشرّع في محكم كتابه الكريم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} وقوله تعالى {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.

امّا على صعيد الاختيار فقد تميّزت دولة المدينة بأرقى انواع حرّية التعبير، ولذلك لم يُسجل التّاريخ حتّى حالة واحدة لسجين رأي او معتقل عقيدة.

كما حافظ أمير المؤمنين (ع) على هذه القيم بشكلٍ واسعٍ خلال فترة خلافتهِ، فكانت استراتيجيتهُ قائمة على أساس العدل والانصاف والمساواة وتكافؤ الفرص، واعتماد معايير الكفاءة في الادارة، فلم يعيّن والياً او قائدًا محاباةً او أثرةً ابداً، بل انّه كان يُبادر فوراً الى توبيخ أقرب المقرّبين اليه بمجرد ان يثبُت عِنْدَهُ فشلهُ او شبهة فسادٍ او ما يُخدش عدالتهُ اذا كان قاضياً مثلاً، فلم يكن الامام (ع) يتهاون في كلّ ما يتعلّق بأمور الناس قيدَ أنملة.

فلقد كتب مرّة لابن عباس يقول؛

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي، وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِي رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفَسِي، لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي وَأَدَاءِ الاْمَانَةِ إِلَيَّ.

فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ، وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ، وأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ، وَهذهِ الاْمَّةَ قَدْ فَتَنَتْ وَشَغَرَتْ، قَلَبْتَ لاِبْنِ

عَمِّكَ ظَهْرَ الْمجَنِّ، فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ، وَخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ وَخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ، فَلاَ ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ، وَلاَ الاْمَانَةَ أَدَّيْتَ.

وَكَأَّنكَ لَمْ تَكُنِ اللهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّكَ، وَكَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هذِهِ الاُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَتَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ! فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الاْمَّةِ، أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لاِرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الاْزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ، فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ رَحيِبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ، غَيْرَ مُتَأَثِّم مِنْ أَخْذِهِ، كَأَنَّكَ ـ لاَ أَبَا لِغَيْرِكَ ـ حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَسُبْحَانَ اللهِ! أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ؟ أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ! أَيُّهَا الْمَعْدُودُ ـ كَانَ ـ عِنْدَنَا مِنْ ذَوِي الاْلْبَابَ، كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً، وَتَشْرَبُ حَرَاماً، وَتَبْتَاعُ الاْمَاءَ وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ مَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُجَاهِدِينَ، الَّذِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِمْ هذِهِ الاْمْوَالَ، وَأَحْرَزَ بِهِمْ هذِهِ الْبِلاَدَ؟! فَاتَّقِ اللهَ، وَارْدُدْ إِلَى هؤُلاَءِ الْقَوْمِ أمَوَالَهُمْ، فإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللهُ مِنْكَ لاَعْذِرَنَّ إِلَى اللهِ فِيكَ، وَلاَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ!.

وكان يُعلّم النّاس احترامَ القانون، الذي كانَ في عهدهِ فوق الجميع لَمْ يجرؤ احدٌ على تجاوزهِ او كسرهِ بحجّة قُربهِ من الحاكم أو انّهُ من عشيرتهِ وبطانتهِ ومحازبيهِ وشيعتهِ وجلاوزتهِ، فكتب لبعض عماله مرّة {وَوَاللهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فعَلاَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ، وَلاَ ظَفِرَا مِنِّي بَإِرَادَة، حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا، وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا}.

لدرجةٍ انّهُ قال للحكَمين، حين بعثهُما {أُحكما بكتابِ الله وسنّةِ نبيّهِ وَإِنْ كان فيهما حزُّ حَلقي} على الرّغمِ من انّهُ، كإمامٍ وكخليفةٍ والقائد العام للقّوات المسلّحة، لَمْ يكنْ راضياً بالرّأي الذّي اختارهُ قادة جيشهِ وجماعتهم!.

نعم، هو كان يتنازل عن حقوقهِ الذّاتية اذا تعارضَت مع الصّالح العام لظرفٍ ما من الظّروف بسبب السّياسات الخاطِئة التي انتهجها مَنْ سبقهُ من الخُلفاء، فقال {لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي، وَوَاللهِ لاَسْلِمَنَّ مَاسَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِا جَوْرٌ إِلاَّ عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتمَاساً لاِجْرِ ذلِكَ وَفَضْلِهِ، وَزُهْداً فِيَما تَنافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ}.

انّ الاتّجار بالدين الذي يلجأ اليه الحّكام الظّلمة، هو نوعٌ من انواع الارهاب الفكري الذي يكمّمون به الأفواه ويقطعونَ به الالسن عن النّطقِ والصدحِ بِالْحَقِّ، ويحولون به بين الرّاي العام وحرّيّة التّعبير، فتراهم يلجأون الى الفتوى الدّينية كلّما حاول مُصلحٌ إماطة الّلثام عن حقيقةٍ ما، او فضح فسادٍ او ظلمٍ او ما أشبه.

امّا امير المؤمنين عليه السلام فقد سعى لنسفِ هذا المفهوم من القواعد عندما كان يشجّع على حرّيّة التّعبير والإصغاء الى الرّأي الآخر مهما اختلف مع رأي الحاكم او السّلطة، فكان يقول {فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالٍ بِحَقّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ} لأنّ السّلطة التي تلجأ لقمعِ الرّأي الاخر وتمنع حرّية التّعبير لا يمكن أبداً ان تحقّق العدالة الاجتماعيّة، اذ انّ من طبيعة الحاكم، أيّ حاكم، التجاوز على حقوق النّاس ما لم يكن يجد رادعاً من نوعٍ ما، كأن يكون الدّين او الاخلاق او الثّقافة او القانون، فما بالك اذا كان الحاكم فاقداً لكلّ هذا وأكثر؟!.

لقد نجحَ الامام الحسين (ع) في تحطيم الاستبداد بإسم الدّين عندما سفّهَ فكرة انّ الخليفة هو ظلّ الله في الارض أو انّه نصفُ اله لا يجوز الخروج عليه وفضحهِ وإماطة اللثام عن انحرافاتهِ وجرائمهِ الّتي يرتكبها بالسرّ.

فبعدَ ان حاول الامويّون تكريس فكرة (الجبر والتفويض) والتي تعني انّ النّاس مجبورون على فعلِ الأشياء وانّ السُّلطان مفوّض من قبل الله تعالى، لا يحقُّ لاحدٍ ان يعارضهُ او يُحاسبهُ، أسقطت عاشوراء كلّ هذه المفاهيم الباطلة التي شرَعنها الامويّون بفتاوى فقهاء البلاط والمحدّثين الذين زوّروا السُّنَّة الشّريفة، لتحطّم، بالتّالي، نظريّة الاستبداد باسم الدّين.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق