في آذار 1946 ألقى ونستون تشرشل خطابه الشهير في فولتون محذراً من "التحدي المتنامي والخطر الذي يهدد الحضارة" داعياً إلى مواجهة التهديد السوفيتي وتحجيم نفوذه معلنا "أن السوفييت قد أسدلوا ستارا حديديا على مناطق سيطرتهم"، لتدشن هذه الكلمات لتحولات كبرى في القارة الأوروبية والعالم والتي أنقسم العالم على إثرها إلى كتلتين متضادتين متصارعتين أصبح على إثر ذلك غياب الأمن والحروب والمجاعات السمة البارزة للنظام الدولي المتشكل بعد الحرب العالمية الثانية.

قيل إن التأريخ لا يكرر نفسه! قد يكون ذلك صحيحاً لكن سلوك الطرق ذاتها التي سلكها الغير قد تؤدي إلى نتائج متقاربة إن لم تكن متطابقة. ففي 21/أيار الجاري وبحضور أكثر من خمسين من قادة الدول العربية والإسلامية، ذكّر خطابا العاهل السعودي والرئيس الأميركي بتلك الحقبة من التأريخ والعودة إلى سياسات الحرب الباردة والتي تميزت بالتوتر العالي والصراعات الحادة، هذه التحركات وغيرها قد تقرأ من قبل إيران على إنها خطوة باتجاه إذكاء صراع إقليمي أكثر شدة ودعوة إلى تغيير موازين القوى الحالية في الإطارين المحلي والإقليمي وهذا أمر غير مسموح به من قبل إيران نظراً إلى توسع نفوذها وتجذر مصالحها في المنطقة.

لقد شكلت قمة الرياض لحظة فارقة في تأريخ المنطقة من حيث توقيتها وما تمخض عنها، وأنها أكدت حقيقة الصراع السعودي الإيراني وإعطاءه الصفة الرسمية وإطلاقا لمرحلة جديدة من مراحل صراع النفوذ في المنطقة على أسس الحرب الباردة. فلسنوات والمملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية ينأيان بنفسيهما عن التصريح بحقيقة وجود صراع بينهما لكن الحق أن كل المؤشرات تدل أنهما يخوضان-إن جاز لنا وصفها– "حرباً باردة إقليمية" في المنطقة سيشكل فيها الاقتصاد وكسب حلفاء أقوياء بالإضافة إلى الحصول على دعم الدول الكبرى عوامل حاسمة في الصراع الدائر بين النظامين، كما وأنه لن يكون بوسع أحدهما التراجع وتقديم التنازلات فما يربحه طرف يمثل بالمقابل خسارة للآخـر.

فمن الواضح جدا رؤية أن صراع النفوذ بين النظامين هذا قد قسم الإقليم إلى معسكرين متخاصمين أو قل محورين سعودي-إيراني يستندان إلى أشبه ما يكون إلى أيديولوجيتين سياسيتين متناوئتين برؤى وأهداف متنافرة شديدة التباعد متأثرتين بروح دينية مذهبية الأمر الذي ساهم في زيادة حدة الصراع واتساع مدياته. يدفع الطرفين إلى السيطرة وكسب النفوذ على الإقليم بمساعدة حلفاءهما.

استخدم النظامان السعودي والإيراني في صراعهما جميع أدوات الصراع السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية الدعائية. ويعد التهديد باستخدام القوة لحل المشكلات الإقليمية أبرز مظاهر الصراع السعودي الإيراني، الأمر الذي أدى إلى إشعال حروب بالوكالة في المنطقة في سوريا والعراق واليمن للتنفيس عن حدة الصراع بين النظامين ومنع وقوع مواجهة مباشرة. كما يسعى النظامان ليس إلى كسب حلفاء من الدول فحسب بل امتدت دعايتهم إلى الشعوب لكسب تعاطفهم وتأييدهم مما تسبب باختلال واضح في الانسجام المجتمعي والتماسك الوطني لدول المنطقة. وتعد الآلة الدعائية للنظامين من الضخامة بحيث تلعب دوراً مهماً ومحوريا في الصراع الدائر في الدفاع عن أهدافهم رؤاهم ونشر أفكارهم.

لقد أفضى صراع النفوذ السعودي الإيراني إلى جرجرة المنطقة إلى منعطف خطير بفعل اتساع رقعة الصراع والذي بدء يؤثر على السلم والأمن الدوليين وهو ما أدى إلى زيادة التدخلات الأجنبية وفتح الباب على مصراعيه للدول الكبرى للتغلغل في المنطقة سياسياً وأمنيا واستخباراتيا وعسكرياً بفعل التدفقات الناجمة عن عدم الاستقرار كتنامي ظاهرة الإرهاب الدولي واللاجئين وانتشار الأمراض والمجاعات والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان. كما أدى هذا الصراع الى إشعال سباق تسلح غير مسبوق في المنطقة نتيجة الشعور المتزايد بغياب الأمن وهو ما كان له أعظم الأثر في تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية لشعوب المنطقة.

إذ أسهم الصراع في إذكاء مشكلات الوحدة الوطنية والتماسك المجتمعي وتشجيع دعوات التفتيت والتجزئة في بلدان المنطقة ولعبت الآلة الدعائية للنظامين دورا هاما ومحوريا في هذا الشأن ولم تنته إلى هذا الحد بل إلى تأسيس طوابير خامسة ودعوة جماعات وفئات إلى الخروج على أنظمتها السياسية مما أدى إلى جعل الفوضى عنواناً بارزاً للمنطقة مستغلين حالة التنوع الاجتماعي الديني والمذهبي والعرقي لإدامة نفوذهم.

يمكن القول أن دعوة الولايات المتحدة الأمريكية للدول المؤتمرة إلى مواجهة التهديد الإيراني هي في حقيقتها دعوة إلى احتواء إيران وتضييق الخناق عليها، إذ تؤكد صفقات السلاح التي عقدتها السعودية مع الجانب الأميركي والتي وصلت قيمتها إلى أكثر من مئة مليار دولار شملت الصفقة شراء طائرات وأنظمة دفاع متطورة والتي ربما من شأنها قلب معادلة التوازن الاستراتيجي بين إيران والسعودية الأمر الذي سيقابل بخطوات مقابلة من قبل إيران التي تتمتع بعلاقات جيدة مع الروس والصينين لتحصين أمنها وتعزيز تفوقها العسكري ، إلا أن وجود قيادة إصلاحية في إيران وتدهور وضعها الاقتصادي قد تعمل على الحد من قدرتها على تجاوز تلك الخطط الرامية إلى محاصرتها وتحجيم دورها.

يبقى أن نشير إلى أن استثناء إسرائيل من دائرة الصراع ودورها الحاسم فيه يعد تطورا بارزا وذا دلالة كبيرة، إذ يؤشر إلى رغبة أميركية لإعادة هندسة الأوضاع في المنطقة تكون إسرائيل أحد أطرافها في إطار تسوية كبرى، تنبئ هذه الرغبة عن الخطط بتصفية الصراع العربي الإسرائيلي وتطبيع الأوضاع معها، ربما تكون خطط عقد لقاء رباعي يضم السعودية ومصر إلى جانب السلطة الفلسطينية وإسرائيل برعاية أميركية، ستكون مصداقا لتلك الرغبة الأميركية. إن قمة الرياض ستكون البداية لتحولات قادمة للمنطقة ستكون حاسمة ومؤثرة في تحديد شكل الصراع وطبيعته وقواه المؤثرة.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017
www.fcdrs.com

اضف تعليق