المفاهيم الباعثة على العلاقة بالوجود، يتحول الوجود الى مفاهيم تكرسها العلاقة بالوجود وبشكل أدق طبيعة هذه العلاقة، وهنا أولا يتشكل وعي الانسان بالوجود، وثانيا يتحمل مسؤوليته تجاه الوجود أو في الوجود، هكذا فكرة القدرية مفهوم وجودي تكرسه العلاقة بالوجود في لحظات الإحساس بالضعف البشري، فيحيل الإنسان الوضع برمته إلى القدر، وهكذا فكرة الرحمة مفهوم وجودي تكرسه العلاقة بالوجود في لحظات الاغتناء والامتلاء الإنساني، وتندرج فيها أيضا فكرة الرأفة كمفهوم وجودي تكرسه العلاقة بالوجود في لحظات الذروة في هذا الاغتناء والامتلاء، وهكذا فكرة العدل مفهوم وجودي تكرسه العلاقة بالوجود في ديمومة القناعة بالتوازن الكوني في علاقة الأشياء بعضها بالبعض الوجودي، وهي تتملك الحس الإنساني في العالم البدائي، وتتملك الفكر الإنساني في الحالة الحضارية.

هكذا نجد تلك المفاهيم منغرسة بالوجود بالقوة ومتطورة بالفعل، وتندرج فيها فكرة القوة مفهوم وجودي تكرسه العلاقة بالوجود في لحظات التحدي الماثلة بالطبيعة ـ الجغرافيا ـ والاستجابة الماثلة بالثقافة ـ التاريخ، وجدل الجغرافيا والتاريخ هو تعبير عن تفاعل الثقافة والطبيعة، وينتمي التحدي إلى الطبيعة بينما تنتمي الاستجابة إلى الثقافة، وحين تكرس الثقافة مفهوم القوة في لحظات السلطة والغرور البشري فإنه يفقد تماسكه الطبيعي كمفهوم وجودي ويتحول إلى سلوك صادم بإزاء الوجود الذي يتماسك بالقوة، وهي صفة أو اسم الله جلً وعلا، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) - فاطر41- مما يحيل إلى المواجهة المباشرة مع الله تعالى في هذا السلوك الصادم إزاء الوجود، وهنا يكمن تفسير العقوبات التي يوقعها الله تعالى بالبشر لغرض ردع السلوك الصادم إزاء الوجود، لكن القوة التي تندرج في اطار ثقافة البقاء للأصلح وليس للأقوى - الذي تروّج لفكرته الرأسمالية - لتكتمل حلقات السعي الوجودي فيها في قانون التطور الطبيعي، الذي يجد تفسيره وتحليله في التطور الثقافي للوعي البشري. ويكون توينبي مصيبا في تفسير لحظة نشوء التاريخ حين بدأ في أرض سومر ضمن تفسيراته في تحدي الطبيعة للإنسان العراقي القديم، واستجابة هذا الإنسان في بناء الحضارة لتكون القوة هي العنصر المؤسس للحضارة والتاريخ معا.

ومما يؤكد هيمنة القوة في تفسير نشأة الحضارة والتاريخ معا هو ذلك الانهمام الثقافي القديم بالقوة التي تكرس أساطير الشعوب القديمة مركزيتها، أي القوة في الوجود والحياة، حتى وضعت تسمية عصر الأبطال في تحقيب تلك الفترة تاريخيا، وظلت فكرة القوة تشكل أبرز معالم العالم القديم التي انعكست في كم وحجم الحروب والدمار للدول والمدن تحت وطأة القناعة القديمة بأهمية القوة.

وأول ابتكارات القناعة الحديثة أو افكار العالم الحديث هو مفهوم إحتكار القوة لطرف واحد يمتلك شرعية استخدامها وهي الدولة، وبذلك تم تقنين مبدأ القوة والغاية في توثيق أو تقنين القوة والسيطرة على تداعياتها ونتائجها التي يتحول الافراط في استخدامها الى التفريط بالوجود البشري، وهو ماحدث ويحدث دائما في التاريخ البشري، ويشير د. علي الوردي الى عقيدة العرب في هذا العالم باقتران الحق بالقوة، ويفسر إسلام القبائل العربية بعد فتح مكة الى حقيقة أن العرب قد آمنوا بالاسلام لان القوة صارت الى جانب الاسلام فهو على الحق وفق تفسيرهم الاجتماعي للعلاقة بين الحق والقوة، لاسيما مع هذا الاندفاع الكلي لقبائل العرب باعتناق الاسلام بعد الفتح وعزوفها عن الاسلام قبل الفتح إلا أناس اختاروا الايمان بمحض قناعتهم واستجابة الى دعوة النبي محمد "صلى الله عليه وآله وسلم".

وفي ظل هيمنة وسيادة فكرة القوة في العالم القديم ومنافذ بلوغ الاهداف بواسطتها، جاء الانبياء في ذلك العالم بمفهوم الدعوة وسبيلها الى بلوغ الهدف الإلهي، وطرح الانبياء فكرة الدعوة والمحاججة من خلالها اسلوبا بديلا عن وسائل القوة في العالم القديم، فقد كانت واحدة من وسائل اثبات الحق هو المبارزة بالسيف ومن ينتصر بقتل غريمه يكون الحق له، واستمر هذا التقليد ماثلا في أوربا الى عصور متأخرة.

وفي الوقت الذي كان العالم القديم في ثقافته الفكرية والدينية لم يفكر بوسائل المحاججة في اثبات الحق جاء الانبياء بالدعوة الى الحق عبر المحاججة التي اكتنفت مفهوم الدعوة، لكن أثينا وروما لجأت في ثقافتها السياسية والقانونية الى مبدأ المحاججة والمجادلة، وكانت المعاهد الاغريقية والرومانية تؤهل الخطباء الذين تكون لهم القدرة على التصرف بالكلام والاقوال واثبات الحق من وجهة نظرهم، لكن لجوء أثينا وروما الى تلك الممارسة بعد ان تكافأت قدرات وامكانات القوة بين الاطراف المختلفة والمتخاصمة، ثم هي حصرت ذلك الاسلوب في إداء الحقوق في فئات محددة ومعينة بمعنى لم تكن المحاججة هي المبدأ الاول أو المسيّر للعقلية القديمة في اداء الحقوق.

البديل ورسالة الله

جاءت النبوات بالمحاججة والدعوة اسلوبا أوليا ووسيلة لم يعتد عليها المجتمع البشري القديم الذي فاجأته قدرات هؤلاء الانبياء ووسائلهم في الكشف عن اهدافهم ورسم خططهم الإلهية، فكانت المحاججة تتأسس وتتكون بالطريقة التي ابتدأها الانبياء وفق روايات التاريخ البشري العام، ان التاريخ لم يذكر لنا أشخاصا مارسوا ذلك النوع من الممارسة الكلامية والرسائل القولية التي هي رسالة الله تعالى في جذب الاخرين الى الحق واحراز ميلهم وايمانهم بالحق سوى الأنبياء.

وكان الانبياء يستهدفون مفهوم القوة بالتفنيد في الفكر القديم كأولوية ضمن خطوط عمل رسالتهم الإلهية، وكان التذكير الذي هو وسيلة النبوة بقوة الله وقدرته الازلية والابدية لدفع ذلك العالم القديم الى التخلي عن الايمان بالقوة كمحصلة نهائية في محورية الوجود البشري.

لقد احال الانبياء هذه المجتمعات الى التفكير بضعف الانسان في مولده، في نشأته، في نهايته وهشاشة خلقه، ومن ثم احالتها الى البديل في قوة الله – الحق، باعتبار عدم انفكاك مبدأ القوة عن الوجود، لكن هذه المرة القوة المقننة بالحق من الله تعالى الحق، ولقد كان تذكير الانبياء دائما بان الله هو الإله الواحد، وبان الله هو الحق، وأنه القوي لأنه الواحد الحق، فالحق هو القوة حالا، والحق هو القوي صفة، والحق إسم له والقوي إسم له، ورسالة الله التي جاء بها الانبياء في العالم القديم كانت تركز على اضافة صفة الله القوي الى صفة الحق، وقد جاءت محاججة النبي للكافر – قال ربي الذي يحيي ويميت – وفق منطق الحق لان من له فعل الإحياء كان له فعل الموت – فقال الذي كفر أنا أحيي وأميت – وفق منطق القوة بطريق السلطة والقتل – قال فان ربي يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب - وفق منطق الحق والقوة - فبهت الذي كفر وفق منطق الضعف البشري.

لقد جاء الانبياء – الرسل بالكلمات الالهية لتوكيد مبدأ المحاججة والدعوة، فكانت أسماء كتبهم وصحفهم تعبير عن ذلك العام في مسارهم انهم أنبياء الكلمة الإلهية، والى ذلك المعنى أشارت تلك المسميات الالهية – صحف ابراهيم وتوراة موسى وزبر سليمان وانجيل عيسى وقرآن النبي محمد – وأضافت اليها الرواية الاسلامية صحف شيت وصحف ادريس وغيرها، لتوكيد أن الكلمة وليس القوة هي سبيل النبوة وطريق الدعوة الى الله تعالى التي مقتصرة بطبيعتها ووظيفتها على الانبياء والرسل.

وفي استقراء تاريخ النبوة نجد ان الله لم يبعث نبيا بالقوة أو بالسيف، وانما بعثه بالكلمة والآيات الدالة والحجج البالغة، وهي تشكل أحد أهم أسس الإسلام، وفي ذلك يأتي اشتقاق كلمة القرآن من قرأ في اللغة واشتقاقه معنويا من كلمة الله فهو كلام الله التام، قال تعالى "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ " - التوبة، 6 – والمعني به هو القرآن الكريم، وقد أدرك المسلمون تنافي النبوة والقتل واعتزال الرسل الحرب في مابلغهم من القرآن أو من الاخبار ولذلك كفّوا عن استخدام القوة والسيف حتى اذا بلغ ظلم أهل الشرك – وهي كلمة تنصرف الى قريش – تهديدا لهم ولحياتهم وخشوا غزو ديارهم وهم في قعرها أذن الله تعالى بالقتال لهم وفق مبدأ القوة المقنن بالحق من الله تعالى، بل ان ابتداء الاية بالاذن للقتال في قوله تعالى "أذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق الا أن يقولوا ربنا الله" - الحج 39، 40- انما تستبطن تحريما مسبقا للقتال في الاسلام ولذلك كان الاذن والجواز بعد الترك والتحريم لاسيما وأنه اذن مباشر من الله تعالى، وعلى ضوء استقراء تاريخ القوة وتاريخ النبوة نكتشف هشاشة سند ومتن الحديث الموضوع على النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم فيما نسب اليه "بعثت بالسيف حتى يقول الناس لا اله الا الله".

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2017 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق