ليس من السهل إعطاء تعريف واضح لمفهوم "التنوير" The Enlightenment، ولكن بعبارة اوسع يمكن اعتباره كحركة فكرية تمتد في اصولها الى القرن الثامن عشر واستلزمت تغييرا راديكاليا في الطريقة التي نظر بها الفلاسفة لدور العقل. وبعبارة مبسطة، اكتسب العقل مكانة عليا لم يتمتع بها من قبل ولدرجة استبدله البعض بالايمان كأساس في فهم كلا العالمين المادي والاخلاقي. العديد من المفكرين عبّروا عن الموضوعات الاساسية لأفكار التنوير لكن مفكرا واحدا وهو عمانوئيل كانط جسّد افكاره لدرجة اصبحت مرادفة للتنوير. في مقالة له بعنوان "ما هو التنوير؟"عام 1784 لخّص كانط الفكرة الاساسية كالتالي:

" التنوير هو انبثاق الانسان من حالة الاّ نضج غير المرغوبة. عدم النضج هو عدم قدرة المرء على استعمال فهمه الخاص دون إرشاد من الآخرين".

بالنسبة لكانط، التنوير هو المقدرة والشجاعة في التفكير لأنفسنا، ومقاومة التقاليد والأعراف والسلطة كمصادر للحكمة والمعرفة. هذه الفكرة كانت واستمرت كواحدة من أعظم الافكار المثيرة والشائكة في تاريخ الفلسفة. اساس الفكرة هو ان العالم قابل للفهم بواسطة الذهن الانساني. التنوير ايضا أعلن عن فهم جديد لأهمية الفرد الذي اصبح الآن قادرا ليقرر لنفسه في كل من مجال الحقائق التجريبية والقيم الاخلاقية.

ان الجذور التاريخية للفردانية الجديدة هذه يمكن العثور عليها في الصراعات الدينية للقرن السابع عشر، والتي تطلبت الى جانب اشياء اخرى الحاجة الى الضمير والضوء الداخلي لإرشاد حياة الفرد بدلا من الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.

كانت الحاجة للتسامح محدودة جدا، والعديد من الجماعات الدينية الجديدة كانت ذاتها غير متسامحة، لكن النقاشات المتزامنة مع اعمال كوبرنيكوس وغاليلو وآخرين هي التي اطلقت عفريت التنوير من سباته.

ان خطوط المعارك الفكرية بدأت حالا بين قادة الأفكار الجديدة واولئك الذين اعتبروها خطيرة ولم يُخطط لها بعناية. المرحلة المبكرة تضمنت إعلان ادموند بورك Edmund Burke بان ما يراه من فخر مفرط بالعقل قاد الى رعب الارهاب اثناء الثورة الفرنسية. في كتابه "تفكير حول الثورة الفرنسية "( 1790)، وقف بورك مع التحيز او "الحكم المسبق"ضد "العقل العاري" على اساس ان التحيز ينطوي على "الحكمة الكامنة" للتقاليد والعادات المتأسسة جيدا. في عمل كهذا، يكون بورك وضع الحجر الاساس للمحافظة السياسية الحديثة. العقل وحده، كما يرى، اساس غير موثوق للفعل الاخلاقي ويميل للانحراف بسهولة. بكلمة اخرى، اي شيء ربما يتم تعقّله، وان التفكير المعقول ربما يقودنا نحو منزلق ينتهي بنا الى المقصلة. القرنان وربع القرن اللاحقان شهدا تباينا تجاه الحجج ذاتها. في ذلك الوقت، جرى اتهام "التنوير" كسبب في كل لحظة مؤذية في التاريخ الانساني:حيث اشير للتنوير كمحطم للاخلاق، نذير للفردانية السخيفة، لص يسرق المعنى من حياة الانسان، شكل من الامبريالية الثقافية، وهو مسؤول مباشرة او ضمناً عن كل شيء من الهيليكوست وحتى الإحتباس الحراري العالمي.

اما نجاح مفرط او نجاح غير كاف

بالنسبة للمبتدئين، كانت هذه الاتهامات تبدو غريبة وسخيفة، من الغريب حقا الاعتقاد بأنفسنا كمصدر للشقاء الكبير، ونرغب ايضا الدفاع عنها بانفعال وحماس. غير ان هذا الإغواء يستحق المقاومة لأنه يكشف ان هناك الكثير من الوضوح يُكتسب من التعامل مع نقاد التنوير باحترام ملائم.

في الحقيقة، بالرغم من اختلافاتهم، فان نقاد فلسفة التنوير يشتركون بعدم الثقة بفكرتها المركزية عن الفرد.فكما تشير قصتهم، فان الفرد ليس كيانا ثقافيا وتاريخيا يستطيع الانفصال عن زمانه ومكانه لتقييم مدى نجاح ذلك السياق في ادراك الموضوعات الكونية المجردة للعقلانية.

بدلا من ذلك، فان ما يشكل عقلا جيدا هو نتاج ظروف ثقافية وتاريخية معينة. فكما ذكر احد الطلاب بتعبير نادر "ان الثقافة هي نهر لا تستطيع اجتيازه باستمرار اذا كنت تحب الطريقة التي تتدفق بها تلك الاشياء." هذا التفكير يمكن العثور عليه في اعمال ميخائيل ساندل والمحافظ الليبرالي جون غراي ومختلف فلاسفة الجماعات التنظيمية الصغيرة communitarian مثل السدار ماكلينتر Alasdair Macintyre الذي يحب ان يقال له الارسطي الجديد. ومن الغريب، ان ادّعاءات مشابهة صدرت عن الماركسيين الجدد لما سمي بمدرسة فرانكفورت، وعن ما بعد الحداثويين مثل ميخائيل فوكلت. هؤلاء الفلاسفة بينهم القليل من المشتركات لكنهم جميعا يشتركون برؤية للمعرفة وللعقلانية تتبنّى تصوراً سيء الفهم للتنوير.

بعبارة مبسطة، المحافظون وفلاسفة الجماعات الصغيرة يميلون لرؤية التنوير باعتباره كان ناجحا جدا، على الاقل كقوة ثقافية، بينما الماركسيون الجدد وما بعد الحداثويون يرون التنوير قصة المحتمل الغير منجز. فمثلا، ادورنو و هوركيمر Adorno and Horkheimer مؤسسا مدرسة فرانكفورت وجدا "تناقضات ديالكتيكية في قلب التنوير". فمن جهة، اعطى التنوير الخيرات من حيث فهمنا التقني للعالم وقدرتنا لإستغلاله. غير انه فشل في تزويدنا بالفهم الأخلاقي لنتجنب الاستنساخ القاسي للعصور الأقل تكنلوجية وبدرجة اكثر قبحا. في عبارة هيوم، العقل بقي "عبدا للعاطفة" وبالنسبة لادورنو و هركمير هذا العبد للآخر صنع كل القلق بقبوله الافكار الفرويدية حول اللاعقلانية ووحشية محفزاتنا العليا. بالنسبة لبورك قادت الثقة المفرطة بالعقل الى المقصلة، لكن ادورنو اعتبر رحلة التنوير قادت الى افران الغاز النازية.

وبالمثل، تهمة الما بعد الحداثويين التي برزت من نقد نيتشة لكانط كانت ان نقد التنوير لجميع الافتراضات لم يكن مكتملا وكان ذو قناعة فردية. اعتبر نيتشة واتباعه الما بعد حداثويين ان فشل التنوير كان فشلا للشجاعة الفلسفية. حينما تجاهل التنوير للادعاءات المبكرة للعقائد الدوغمائية، فانه كان يجب ان ينفتح لتحرير الفكر والاخلاق من فكرة اليقين ذاتها. لكن فلاسفة مثل كانط فشل في الذهاب خطوات أبعد بل قام بدلا من ذلك ببناء انظمة تستبدل القمع القديم.

يقين من نوع جديد جرى تقديسه هذه المرة بالعقل بدلا من الايمان او سلطة القدماء. هذه الانظمة الجديدة للفكر هي ذاتها اصبحت اساطير متحجرة (يصفها الما بعد الحداثويون بسرد السرد) تعمل لتقييد مقدرة الانسان على تعريف واقعه وهويته الخاصة.

حرية ام عدالة؟

ان العجز الظاهر للعقل في توفير اساس صلب للأخلاق، وهو عجز يميل ما بعد الحداثويين ليروه كمحرر، كان باعثا للاحباط لدى المحافظين وانصار الجماعات الصغيرة. فكرة ان الفرد يستعمل عقله للبحث عن حقيقة اخلاقية تنال الدعم من الناس ذوي الاهتمامات المتشابهة، هي فكرة اعتبرها هؤلاء المفكرون خطيرة. طبقا لغراي في كتابه "وجهان لليبرالية 2000"العقل في افضل الاحوال يمكن ان يقودنا الى "اتفاق للتعايش المؤقت او الدائم"وهو نوع من الاتفاق يختلف بين الناس الذين لا يتوفر لديهم مقياس عام للقيم – بدلا من ذلك النوع من الاجماع على القيم الذي حلم به الليبراليون مثل جون رولس في "نظرية العدالة عام 1972".

وباعتباره من ابرز الفلاسفة الليبراليين في القرن العشرين، كان رولس هدفا دائما لنقد كل من المحافظين وفريق الجماعات الصغيرة. تجربته في الفكر الكلاسيكي "الموقف الاصلي" الذي نتصور فيه الافراد تجردوا من اي معرفة بمواهبهم وهوياتهم الخاصة عبر "قناع الجهل"(1) بينما يحاولون تعريف طبيعة المجتمع العادل، قد انتهت الى اعتبارات سلبية. يرى رولس ان "قناع الجهل" عنصرا ضروريا لأي محاولة لفهم متطلبات العدالة بشكل متميز عن متطلبات الذات او المصالح الفرعية. هو اعتقد انه لو جرى إنكار المعرفة بالجنس او الاثنية او اي مظاهر اخرى للهوية، فلا احد سيرغب بمؤسسة للدولة يُسمح فيها بالعنصرية او الجنسانية او اشكال التمييز الاخرى لأنهم سيصبحون ضحايا لها.

المشكلة هنا من وجهة نظر كل من المحافظين وفريق الجماعات الصغيرة هي انه حالما نتجرد من كل خصوصياتنا او من السمات الثقافية المحددة للفرد، فاننا سوف لن نُترك مع باحث موضوعي ومحايد عن العدالة وانما سنبقى بدون اي فرد. من هذه الرؤية، فان هذه الخصوصيات هي التي تشكل الفرد وليست مجرد اشياء عرضية كما يفترض رولس. واذا كان الامر هكذا، فان ما يحدث هو التحليل الاخلاقي وحده تجاه خلفيات التقاليد والممارسات الثقافية المعينة. الاتهام المألوف هو ان الليبرالية خاصة في شكلها الكانطي الجديد/الرولسي، تقود الى شكل ما من النسبية الاخلاقية فيها يُترك الفرد عائما دون اي مصدر ثقافي يمكّنه من المشاركة في محادثات اخلاقية مع الآخرين. الاخلاق تُختزل الى خيار للمستهلك فيه كل فرد يجد مساره الخاص به في عزلة رائعة.

هذه التهمة اُعلن عنها من قبل ماكلنتير في كتابه "بعد الفضيلة" عام 1984 وفيه يدعو للعودة الى الاخلاق التي فيها تُعرّف الفضيلة وفق معتقدات ثقافية مشتركة كمرشد مثالي لحياة الانسان. هذا المظهر من الفكر الماكلنتيري يمكن اعتباره محافظ بعمق وهو مشابه كثيرا لعناصر غراي رغم الاختلافات بينهما. مع ذلك، كلا الكاتبين لم يكتفيا باتهام الليبرالية بالفردانية العدمية بل ادّعيا انها مذنبة بالامبريالية الثقافية المدمرة، هذا كان واضحا في عمل ماكلنتير "لمن العدالة؟ اي عقلانية؟ (1988)، وايضا جاء متضمنا في عمل غراي "وجهان لليبرالية".

ان اتهام "الامبريالية الثقافية" يسهل فهمه مقارنة بالشك الاخلاقي والنسبية. في النهاية، هدف رولس وقبله كانط كان المجيء باستنتاجات صالحة عالميا حول العدالة تنال موافقة جميع الناس العقلانيين بصرف النظر عن ثقافاتهم. وهكذا فان نوعا واحدا فقط من المجتمع يمكن اعتباره عادلا بينما المجتمعات الاخرى يُحكم عليها اوتوماتيكيا بانها قريبة او بعيدة عن هذا المثال. نتيجة هذا التفكير كان شحن الامبريالية الغربية لتستمر بقمعها ووسائلها المدمرة والتي تجسدت ظاهريا في الايديولوجية الليبرالية لحقوق الفرد. غير ان "الديمقراطية" و"حقوق الانسان" وفّرا لنا حرية تامة في التعامل العنيف مع التقاليد والعادات والمؤسسات السياسية لأي جماعة لاتميل للانسجام مع مستوياتنا. اتهامات مشابهة وجّهها كل من ادورنو وهوركمير، وقد نعترف، ان هذين الماركسيين يشتركان بهذه الرؤية ليس فقط مع غراي وماكلينتر وانما ايضا مع احد اكبر الليبراليين المتشددين في القرن العشرين اسحق برلين.

جادل برلين في مفهومان للحرية(1951) بان هناك نوعان من الليبرالية، احدهما لايستحق حتى اسمها ويطمح لتأسيس حقيقة اخلاقية مشتركة على اساس من الإجماع العقلاني بين الافراد المستقلين. هذه هي ليبرالية كانط. غير ان هذا مستحيل لأسباب ذكرناها سابقا. ماهو عقلاني ليس مصدرا عالميا وانما هو شيء معرّف ثقافيا. بالمقابل، الأساس الملائم للّيبرالية كان يكمن في الاعتراف بان هناك فقط تغيير ملتبس ومستمر في الطرق المتباينة والغير منسجمة للانسان والتي ستقاوم الى الابد الرغبة في الوصول الى إجماع. وهكذا، فان المُثل العظمى للتقدم والكمال في المؤسسات الانسانية لابد من التخلي عنها امام الحياة الانسانية الحقيقية واستحالة تأسيس عقلانية عملاقة لأي مجموعة من القيم المفتقرة لقياس مشترك.

رعب النسبية

القصة حتى الآن هي ان التنوير وايديولوجيته الوليدة –الليبرالية– يقف في قفص الاتهام بسبب كل من شكّيته الاخلاقية التآكلية وميله للتجريد. لقد لاحظنا كيف ان هذين الاتهامين لهما اصول متشابهة. الافتخار بالعقل ترك الفرد بعيدا عن الحياة الكريمة (الحياة التي تستحق ان تعاش ) التي تمنحه اليقين، ليبقى بنوع من الثقة المفرطة الجاذبة لمختلف الاوهام عن العقلانية التي رآها ملاءمة لتُفرض على الآخرين. العلاج لهذا المرض هو ان نصبح متواضعين مرة اخرى: ان نرى بان لا وجود هناك لحقيقة شاملة وان ما موجود هو فقط اتفاقات محلية بين الناس ذوي الاهتمامات المتشابه الذين ليس من مصلحتهم التدخل في شؤون الآخرين. نحن نحتاج للنظر الى مصادرنا الثقافية الخاصة لنربط أنفسنا بمصدر آخر كما فعلنا في الماضي.

هذا في افضل الاحوال نوع من الوهم وربما بالنتيجة سيقود الى رعب تام. الوهم يأتي من حقيقة اننا لكي نرى اي لحظة في الماضي كنموذج للإجماع والسلام الاجتماعي فهي لابد ان تخلو من المعرفة بالتاريخ. (غراي يؤكد على هذه النقطة في نقده لفلسفة انصار الجماعات الصغيرة). المجتمعات بحكم طبيعتها تتميز بالصراعات والاهتمامات الفرعية. وكما يدرك كل من الماركسيين وما بعد الحداثويين ان السلطة تمنح جماعات معينة المقدرة على تعريف الواقع والحياة لكل شخص اخر. فكرة وجود نوع سعيد من طريقة مشتركة للحياة ليست اكثر من دهان رديء متكرر لتغطية جروح القمع والصراعات. الرعب ينفجر بسبب عدم وجود فكرة شمولية للعدالة مما يجعل من الصعب تبنّي اي دفاع عن اولئك الذين يتعرضون للقمع. وهكذا يمكن لنا ان نرى ان اتهام النسبية والذي كان دائما ضد الليبراليين هو في الحقيقة ينطبق على متهميهم. الفرق هو في اين تبدأ النسبية واين تنتهي. فريق الجماعات الصغيرة والمحافظون يرون النسبية مشكوك فيها فقط عندما يتخذ الافراد قرارات اخلاقية. بالمقابل، هم مرتاحون للنسبية في مستوى الثقافات لأنهم لايرون هناك مصدر للحقيقة الاخلاقية له سلطة وضع الافتراضات الثقافية امام التساؤل.

التسامح مع الفرد

ان قضية العلاقة الملاءمة بين الجماعة والفرد هي السؤال المركزي في الفلسفة السياسية. الليبراليون من مختلف الاتجاهات يميلون لتفضيل الفرد. الافراد هم انواع قادرة على المعاناة، وهذه الحقيقة تبدو هامة للبعض منا. بالمقابل، الجماعات هي عادة اشياء مشكوك فيها، لها ميل للالتفات الى بعض اعضاءها، وتكون سلبية خصوصا مع من لا ينتمي اليها. هذا احد الاسباب التي تدفع الليبراليين ليكونوا اقل ايجابية من المحافظين و انصار الجماعات الصغيرة حول دور "الجماعات الوسيطة" في المجتمع المدني. الكنائس ومنظمات الجالية وغيرها هي دائما جيدة، لكن مساعدتهم هي عادة مشروطة بقبول المستفيدين لقيم معينة او اجتيازهم لاختبارات محددة. احيانا، كما في الولايات المتحدة حين وُجد في قضية العرق بانه يتوجب على الدولة العمل بفاعلية لحماية الفرد من الجماعة. ربما يقال ان الجماعات مؤلفة من افراد، لكن استنتاجات علم النفس الاجتماعي خاصة تلك المتعلقة بالطاعة او سلوك الناس غير المنتمين الى جماعة محددة ربما يجعلنا حذرين من القبول اللانقدي لمعتقدات الجماعة. هذا يجعل اتهام الاسلوب التنويري "فكر لنفسك" بالمسؤولية عن الجرائم الجماعية يبدو اتهاما مزعجا للعديد من الليبراليين. ان جوهر نقد برلين وغراي للمُثل التنويرية يبدو نوعا من المغالطة المنطقية. هم يتهمون بان المثل الليبرالية للكمال تدفع لنوع من عدم التسامح في الاختلافات. مغالطتهم هي في الاعتقاد ان المثل الليبرالية يمكن تطبيقها على الافراد بدلا من الاطر القانونية او المؤسسات. "الامبريالية الثقافية" الليبرالية هي ليست حول القول بان الخيارات التي يعملها هذا الفرد او ذاك هي خاطئة او غير ملائمة، وانما حول تحدّي المؤسسات التي تجعل مثل هذه الخيارات مستحيلة اينما كانت. نحن يجب ان نكون غير متسامحين تجاه الثقافات والانظمة غير المتسامحة، بينما نرسخ حقوق الافراد في اتخاذ خيارات مختلفة لأنفسهم. قيمة التعددية تعمل فقط في مستوى الفرد لأن قبول القيم غير المتسامحة على مستوى الجماعة يعني القبول بان بعض الافراد في الجماعة سيكونون متحاملين ضدها.

ليبراليو التنوير لا يواجهون صعوبة في تمسّك النظام بمستوى مثالي للتسامح، لكن بالنسبة لغراي وفريق الجماعات الصغيرة مثل ماكلنتير، لا وجود لمثل هذه المستويات في التطبيق. بالنتيجة، نحن نعود مرة اخرى الى بورك في "الانحياز المحلي"، وانه لا يبدو كمكان جيد للبدء لو اردنا وقف اعدام المثليين. المشكلة المركزية تبقى في ايجاد منظور نعمل منه احكاما حول المؤسسات الاجتماعية والسياسية والثقافية تكون اكثر من مجرد وجهة نظر من داخل تلك المؤسسات. نحن نحتاج لنكون قادرين "للخروج من النهر". قد يكون ذلك مستحيلا، ولكن بالنظر لكل الاسباب التي ذكرناها سنحتاج لخلق موقف نقدي لكي نقيّم ترتيبات محلية معينة.

ثلاثة خيارات

هناك ثلاثة طرق ممكنة تطرح ذاتها:

1- الاتجاه الكانطي/الرولسي القديم المرتكز على مبادئ العدالة الممكن اكتشافها بواسطة العقل الكوني. نحن استبعدنا سلفا هذا الاتجاه.

2- الخيار الثاني يستلزم الفكرة الارسطية بان حياة الانسان لها هدف نهائي. المؤسسات والممارسات التي تقيّد مقدرة الفرد على العمل او التحرك نحو الهدف النهائي يمكن اعتبارها غير شرعية. المشكلة مع هذا الخيار انه لا يقوم بالكثير تجاه سبب التسامح الذي كنا نناقشه. ارسطو لديه فكرة محدودة حول ما يجب ان يكون عليه شكل حياة الانسان المثالية، وان تبنّي مثل هذه الافكار كمقياس لنا يُحتمل ان يقود الى استنتاجات سلطوية.

3- الخيار الثالث اقترحه الليبرالي الانجليزي الكبير جون ستيوارت مل، وهو نوع منقّح للموقف الآرسطي فيه لايزال يُفترض امتلاك الافراد لهدف نهائي، لكنه هدف خاص بهم وليس عاما لكل الناس. وفق هذه الفكرة، يصبح لحياة الانسان معنى بقدر ما يتعلق بالمقدرة "على النمو طبقا للقوى الداخلية التي تجعله شيء حي"(حول الحرية، 1859). وهكذا، يرى مل لا وجود لمثال واحد للتطور الانساني وانما فقط طرق ليتميز بها كل واحد منا. هنا يمكن القول ان المؤسسات الثقافية والسياسية يمكن الحكم عليها وفق المدى الذي تكون فيه واعية بهذه التعددية. وبهذا، لا يجب على الافراد اتّباع اي صورة من الكمال، فالمجتمعات والمؤسسات السياسية تكون جيدة او سيئة بالمقدار الذي تسمح لنا لنزدهر انفراديا.

What’s wrong with The Enlightement? not as much as some people think, philosophy Now

.................................
الهوامش
(1) قناع الجهل veil of ignorance هو طريقة لتقرير اخلاقية القضايا السياسية، اقترحها الفيلسوف الامريكي جون رولس عام 1971 في عمله "الموقف الاصلي". انها تعتمد على ممارسة التصور الذهني: الناس حينما يتخذون قرارات سياسية فهم يتصورون انهم لايعرفون اي شيء حول السمات الشخصية والمواهب والقدرات والاذواق والطبقة الاجتماعية او المواقع التي سوف يشغلونها ضمن النظام الاجتماعي. عندما تختار مثل هذه الاحزاب مبادئ لتوزيع الحقوق والوظائف والموارد في المجتمع الذي يعيشون فيه، فان هذا "القناع من الجهل"يمنعهم من معرفة منْ سيستلم تلك الحقوق والوظائف والموارد في ذلك المجتمع. فمثلا، اذا كان في مجتمع معين 50% من السكان هم من العبيد، يتبع ذلك انه عند دخول المجتمع الجديد فان احتمال 50% من المشاركين سيكونون من العبيد. الفكرة هي ان الاحزاب العرضة لقناع الجهل ستتخذ خيارات مرتكزة على اعتبارات اخلاقية لأنهم لن يكونوا قادرين على عمل خيارات قائمة على مصالحهم الخاصة او الطبقية. يقول رولس "لا احد يعرف مكانه في المجتمع، او طبقته او مكانته الاجتماعية". الفكرة ستنبذ تلك الاعتبارات الشخصية غير الملاءمة اخلاقيا لمبادئ العدالة في توزيع ثمار التعاون الاجتماعي.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق