آراء وافكار - مقالات الكتاب

الافكار الأساسية في الفلسفة الغربية

محاولات الاجابة على الأسئلة الدائمة

ان تاريخ الفلسفة يجب ان يُفهم كسلسلة هامة من الادّعاءات الفكرية والاخلاقية حول القضايا الاساسية. فمثلا، الايمان بأي عقيدة يستلزم التضحية بجميع البدائل الاخرى، فهل هذا يعني ان الايمان بعقيدة معينة يجب ان يكون مسألة يقين؟ هل يمكن ان نتأكد من صحة اي شيء؟ كذلك، لو نحن نتبنّى العقيدة بدون اجراء اختبار لها، فهل ستبرز اسئلة حول المصداقية الفكرية والشخصية؟ هل البحث عن الحقيقة ذاتها هو بالنهاية قضية اخلاقية ايضا؟

مفكرو اليونان القدماء وضعوا اسسا لما يسمى حاليا الفلسفة الغربية. احد قدماء الاغريق كان كزينوفانس Xenophanes (570-480 قبل الميلاد) الذي ادّعى بان المعرفة الانسانية لها سمة العقيدة، بمعنى اننا لا نستطيع معرفة الحقيقة. على المستوى الاخلاقي الشخصي، السؤال هو ما افضل طريقة لنعيش بها الحياة، والتي اعتبرها الاغريق "الحياة الجيدة". الاجوبة الفلسفية تراوحت من تشجيع البحث عن السعادة الذاتية الى الاحساس غير الاناني بواجب خدمة الاخرين. مؤسس الرواقية زينو (334-262) قبل الميلاد اعلن بان الانسان جزء من الطبيعة وليس فوقها، لذا يجب علينا ان نعيش بفضيلة بينما نقبل بشجاعة محدوديتنا في هذا العالم. الاعتدال كان قد طرحه ارسطو (384-322 قبل الميلاد) والذي يستلزم تقييم المعنى والممارسة الملائمة لمختلف انواع الفضائل وهي العملية التي اطلق عليها "الوسط الذهبي". القاعدة الاخلاقية الشهيرة المعروفة بـ "القاعدة الذهبية" او إعمل للآخر ما تود ان يعمله لك، وُجدت في العديد من الاديان، نسخة منها نُسبت الى كونفشيوس الصين. اما بوذا فقد وضع "المسار من ثمان شعب" كطريقة للخروج من الشقاء الانساني الناتج عن عدم تحقيق رغبات المتعة او السلطة او الملكية.

من النهضة الى التنوير

مع ظهور النزعة الانسانية humanism (موقف فلسفي يؤكد على قيمة الفرد ككائن انساني، ورفض الدوغما الدينية وتلك المتجاوزة للطبيعة) في عصر النهضة بدءا من القرن الرابع عشر وحتى القرن السابع عشر، ركز اهتمام الفلاسفة وبشكل متزايد على الاستجابة للمشاكل الدنيوية، حيث بدأت الفلسفة تميل للاعتماد المتزايد على العقل بدلا من الايمان الديني. التغيرات في الموقف من المعرفة (النهضة تعني احياء المعرفة) برزت جزئيا من الوفرة الكبيرة للنصوص اليونانية والعربية المترجمة وهكذا امتزجت مختلف الثقافات. ازمات العقل والايمان الديني حدثت لكوبرنيكوس وغاليلو وكبلر، رغم ان دافنشي شعر بالحرية للكشف عن عمل الجسد الانساني من خلال تشريح الجسم.

الهياكل السياسية ايضا اصبحت عرضة للتمحيص، وفي عام 1651 نشر توماس هوبز (ليفاثان) لترسيخ فكرة الحكومة كشكل تعاقدي مؤكدا على التوازن بين النظام والحرية. امكانية العودة الى الحرب الاهلية والى فوضى الطبيعية يمكن تجنبها بحيث ان طاعة القانون تأتي مقابل الأمن العام وما يتبعه من فرص للتقدم الفردي. جون لوك(1632-1704) كان قلقا من موضوع سلطة السيادة وجادل بان عقد هوبز الاجتماعي الذي قيّد الحرية الفردية مقابل الحماية التي توفرها الدولة تجاه الفوضى، يجب ان يتضمن حقوقا مدنية معينة من بينها حرية ازالة الملكية الاستبدادية او الحكومات السيئة.

جرى تأسيس مساواة بين الحريات الفردية والحقوق الطبيعية، بينما كان مفهوم الحضارة يتطور وقد ركز على مفهوم جديد لـ "الحرية" liberty. قيم الحرية اصبحت انشغالا اوربيا خاصة في كتابات فولتير (1694-1778) وروسو (1712-1778) التي مهدت للثورة في فرنسا وامريكا.

هذا الانشغال بالحرية ظهر ايضا لاحقا في كتابات جون ستيوارت مل(1806-1873) الذي طالب بالحق في عمل ما نرغب ولا نمنع الاخرين من القيام بالشيء ذاته. افكار من فرنسا حفزت مدرسة "النفعية" البريطانية التي اسسها جيرمي بنثام(1748-1832) الذي وضع نظاما لحساب المنفعة بواسطته تكون "أعظم سعادة لأكبر عدد هي مقياس الصحيح والخطأ". يرى بنثام ان الاخلاق تتقرر بنتائج افعالنا، بالضد من تركيز مل على فكرة الحرية الفردية رغم ان مل ذاته كان نفعيا.

الرياضيات والعلوم ارتبطتا بالعقلانية – فكرة ان العقل الخالص يمكنه اكتشاف الحقيقة بواسطة التحقيق التجريبي وهو ما سمح للتقدم التكنلوجي المدهش كي يحصل في القرنين السابع عشر والثامن عشر والتمهيد للثورة الصناعية. هذين القرنين سُميا "عصر العقل" او "التنوير".

ديكارت (1596-1650) أعلن عن اثباته لوجوده من خلال مقدرته على التفكير فقط "انا افكر اذاً انا موجود". وفي عام 1949 جادل الفيلسوف البريطاني جلبرت رايل بان ديكارت ارتكب مغالطة منطقية حين اعتبر تفكير الذهن مكانا تحدث فيه المشاعر والافكار بشكل مشابه لأجسامنا كمكان للأحاسيس رغم عدم مادية الذهن. الفلسفة احتوت على الكثير من هذه الكينونات المجردة التي صُنفت خطأ ضمن عالم الاشياء.

مقابل الاتجاه العقلاني المجرد لديكارت ظهرت في القرنين 17 و18 التجريبية البريطانية التي تعاملت مع العقل عبر اختبار العالم من خلال الاحاسيس والتجربة. هوبز و لوك وصفا العالم بعبارات مادية وميكانيكية. سبقهما في ذلك فرنسيس باكون (1561-1626) بفحصه المنهجي لتلك العبارات. جميع الافكار كانت عرضة لمخاطرة التطرف، التجريبية لم تكن استثناءا. المفكرون الفرنسيون بما فيهم اوكست كومت (1798-1857) حوّل التجريبية الى وضعية – الايمان بان المعرفة محددة بما يمكن اثباته "وضعيا". هذا المطلب برز كاحتجاج ضد التفسيرات العقلانية التي بدت متأثرة بالتأمل الميتافيزيقي المفرط. طبّق كومت الوضعية في محاولة لإكتشاف قوانين السلوك الاجتماعي. (ماركس لم يوافق على سوسيولوجيا كومت رغم انه قبل تماما بان التحقيقات السوسيولوجية يجب ان تكون علمية).

صعود الافكار الألمانية

في القرن السابع عشر، تحولت الفلسفة الالمانية وبقوة الى الميتافيزيقية. المثالية النقدية لعمانوئيل كانط (1724-1804) افترضت عالما يمكن فهمه بالحواس (ما يبدو) لكنه يتأسس على حقيقة مستقلة عن المعنى الذي لايمكننا معرفته (الشيء في ذاته). اعتبر كانط ما نسميه "اصناف" لفهمنا مثل المفاهيم او الزمان والمكان هي قدرات فطرية للفكر مثلما يحصل عند مواجهتنا لأشياء جديدة في العالم، نحن ننشغل بفهمها طبقا لتلك الاصناف. كانط ايضا اكّد على فكرة الحافز وليس النتائج كعنصر اساسي للحكم الاخلاقي على سلوك الفرد، وهو استنتج بان لا يجب على المرء التعامل مع الفرد الآخر مجرد كوسيلة لغاية. هو اعتقد ايضا ان قوانين العالم الاخلاقية وُجدت كضرورات حتمية تطلبت طاعة غير مشروطة.

بعد كانط ظهرت في المانيا مجموعة من المثاليين وفلاسفة دمجوا افكارا مع العالم الاسطوري، مثال على هؤلاء جون فيتش (1762-1814) و فردريك شيلنك (1775-1854). اما ديفد هيوم من اسكتلندا (1711-1776) وافق مع كانط على ان القوانين العلمية لا يمكن اشتقاقها من مشاهدات العالم، لكن فيتش قال باننا نمتلك بناءا ذهنيا فطريا يسمح لنا باشتقاق الحقيقة، وان "الذات" - الشخص العارف- يجعل الحقيقة تبدو كانه "ليست ذات"، حتى في ظل سمة الطبيعة الاخلاقية الضرورية للانسان. شيلنك عارض فكرة ان الذات العارفة لا يمكن ان توجد بدون ان يوجد هناك شيء يعرف سلفا وان الطبيعة هي عملية خلاقة يتربع فيها الانسان على القمة (هذه الافكار تحولت في جدالات القرن التاسع عشر الى تطور اشكال الحياة عبر الاختيار الطبيعي). انها كانت ملاحظات ذكية وحادة سلطت الضوء على مشكلة الملاحظة الموضوعية للعالم الذي يتضمن الملاحظ.

آرثر شوبنهاور (1788-1860) جعل المسائل اكثر تعقيدا بقبوله الفصل الكانطي بين الشيء كما يبدو والشيء في ذاته، ولكن الآن كمظاهر للشيء ذاته: الرغبة هي شيء في ذاته، وتجسيداتها هي الظاهرة او ما يبدو. نحن نستطيع فورا معرفة رغبتنا ولكن ليس رغبة كل شيء او كل شخص اخر نستطيع تجسيده فقط لأن المكان والزمان لايوجدان في عالم الشيء بذاته، الرغبة هي مصدر عالمي للطاقة غير متميز، تبعث القوة بعالم التجسيدات المتميز.

هيجل (1770-1831) اعتبر الواقع ذاته غير مادي – روح – وفي عملية التطور التي تشكل تقدم التاريخ، والتي تكشف بناء الروح الداخلي. لذا في مقابل اصناف الفهم الثابتة لكانط، نجد مع هيجل اننا نمتلك وعيا متطورا باستمرار. ديناميكية العملية هي التفاعل الديالكتيكي بين الاضداد: الاطروحة تتصارع مع النقيض لتنتج تركيبا والذي بدوره يصبح اطروحة جديدة. فمثلا الاستبداد يتصارع مع الحرية لينتج شكلا ما من العدالة المنظمة، هذا يمثل حصيلة تقدمية نحو الأعلى. بالنسبة لهيجل كل عصر له روحه الخاصة وهما كلاهما يجسدان ويحكمان فكر وفهم ذلك العصر. اذا كانت افكارنا لا تساير الروح فاننا سنشعر بالاغتراب والعزلة والقلق واللامعنى.

لودج فيورباخ (1804-1872) قلب افكار هيجل راسا على عقب، مستبدلا مثالية هيجل بالمادية. بالنسبة له لا وجود هناك للروح، ويجب فهم الثيولوجي كانثربولوجيا. كارل ماركس(1818-1873) اعجب بفيورباخ واتفق معه على ان الاله مجرد مشروع لآمال الانسان وخوفه، فقام بتغيير مثالية هيجل لكي يفهم التاريخ الانساني كـ "مادية ديالكتيكية" فسرها باعتبارها تنطوي على عملية حتمية باتجاه المجتمع اللاطبقي – وهي عملية يمكن التعجيل بها عبر التطور. مصير الانسان يتقرر بالانسان وحده وليس بالدين. في راس المال (1867)، تجسدت الرأسمالية كنظام اقتصادي غير مستقر فيه كل من العامل ورب العمل مجرد اجسام صغيرة جدا في الماكنة الصناعية وبالتالي يغتربان عن العمل الخلاق.

القلق الوجودي

بدءا من اواسط القرن التاسع عشر فصاعدا بدأ الفلاسفة الانتقال من دراسة ميتافيزيقا الواقع الموضوعي الى المشاكل الذاتية للهوية والمسؤولية الفردية، واصبحوا يركزون بشكل اكبر على الانسان وموقفه – كشيء فان وُلد بالصدفة. اذا كان العالم بلامعنى وغير شخصي، فما هو المرشد للحياة؟ ما هي مفاهيم الجيد والسيء مثلا؟

اعادة التوجيه الاخلاقي هذه بدأت فلسفيا مع سورن كيركيجارد (1813-1855) وفردريك نيتشة (1844-1900). كيجارد رفض ان يعامل الكائن الفرد كجزء من حركة التاريخ الكوني، وادّعى لنفسه وللآخرين حرية الاختيار. هو اعتبرها مسؤولية لامهرب منها للفرد ليعيش حياته القصيرة الممتلئة، باحثا عن المعنى وراضيا بكل ما يبرز من التزامات. المسؤولية تجعلنا نشعر بالقلق.

كيركيجارد ونيتشة اثارا نوعين من التفكير – الفينومولوجي والوجودية. هذان يختلفان في اهتماماتهما واسلوبهما في التحقيق، لكنهما كلاهما ضد الميتافيزيقا بمعنى الرغبة في التركيز على العالم كما يُتصور مباشرة واستبعاد انواع معينة من الاسئلة الميتافيزيقية.

ادموند هسرل (1859-1938) مؤسس الفينومولوجي نظر في مشاكل الفردية بطريقة منهجية. هو تجاهل عمدا اي سؤال لاينبثق من وعينا المباشر بالعالم، وهو ما سماه "عالم الحياة": هو كان مهتما فقط بتجربتنا من وجهة النظر الفردية. هذا جلب اعتبارا عميقا لمعنى ومكانة الادعاءات بـ "انا": ماذا يعني القول "انا اعمل" على سبيل المثال؟ هسرل - تلميذ مارتن هايدجر(1889-1976) كسر المألوف عبر اضافة وجودنا الى وعينا – الذي حدده بالزمن. يرى هيدجر ان وجودنا الانساني يتحدد بالمدى الزمني لحياتنا، وبالحاجة لجعلها هامة عبر العيش "باصالة"، بمعنى، عبر الاعتراف باخلاقنا. وعي الذات القلقة والحاجة لخلق معنى ميّزا الوجودية كتعبير عن "معنى اللحظة". غير ان هناك خيط رفيع بين فينومونولوجيا موريس ميرلي – بونتي (1908-1961) والوجودية للفلاسفة الفنانين امثال جين بول سارتر (1905-1980)، و سيمون ديفوبير(1908-1986)، و البرت جاموس (1913-1960). بالنسبة لجميع هؤلاء المفكرين ان مجيئنا المفاجئ للوجود يمثل السؤال حول ما سنكون عليه. سارتر ادّعى باننا اثناء البحث عن الهوية الفردية لا نستطيع الفرار من المسؤولية الفردية ولا من المجتمع: "الاخرون هم الجحيم". اما جاموس فقد واجه متحديا قضية المعنى الفردي، بعبارات من "السخافة". هنري برجسون (1859-1941) متاثرا بشارلس دارون اقترح بان الحياة الانسانية منهمكة بعملية تطورية في حركة صاعدة من الخلق. جادل برجسون باننا غير مهيئين للتفكير المجرد او الفهم: خصائصنا الانسانية تتسم بالاختيار الطبيعي لبقائنا فقط وليس لكي نفهم الكون ومكاننا فيه. هو قال ان وعينا بسريان الزمن كان نتيجة لـ "قوة الحياة"المشاركة لنا في تجربتنا للواقع.

اللغة، الحقيقة، المنطق

ان صعود العلم في القرن التاسع عشر جذب الكثير من الاهتمام الفلسفي. من المهم ملاحظة الفرق بين وجهة النظر التعليلية المجردة وبين اطار علمي مفاهيمي للفهم مرتكز على التجربة. وهكذا فان السايكولوجي والاقتصاد والسوسيولوجي هي علوم ناعمة لانها تفتقر للاجراءات التجريبية الواضحة في الكيمياء والفيزياء.

اخيرا، تركز الاهتمام على اللغة كمجال للدراسة العلمية. السيماتك (دراسة الاشارات) جرى استكشافها من جانب فردينالد سوسر(1857-1913) مستخدما مفهوما ثنائيا للاشارة و المدلول. تحليل المعاني النصية اصبحت هدفا لـ "البنيويين"مثل رونالد بارثيس (1915-1980) وكلود ليفي شتراوس (1908-2009) واخرين. اما بارثيس و آلثسر طورا سيماتك الى النقطة التي قرر فيها مايكل فوكلت وجاك دريدا بان الخطاب الانساني يمكن توضيحه من خلال "التفكيك" للّغة كما سماه دريدا. الاتجاه التفكيكي قاد بالنهاية الى "ما بعد البنيوية"التي بموجبها تكون الادعاءات بشأن الواقع مرتكزة على منطق دائري وإحالة ذاتية.

في امريكا اسّس شارلس بيريس (1839-1914) مدرسة فكرية ترتكز على رؤية "برجماتية" فيها تصوراتنا للشيء تعتمد على ما هو مفيد لنا. البرجماتي يرى ان المعرفة لا يجب ان تمثل العالم اكثر مما نحتاج من تفسير كافي لمهمة او لموقف. وليم جيمس تعمق في البرجماتية وحاول ايضا اجراء دراسة علمية للوعي مخترعا مصطلح "تيار الوعي". جون ديوي اتبع اتجاها برجماتيا عبر تمديد مفهوم الفائدة الى "التعلم من خلال الفعالية". هنا المدخلات الحسية اما تهيء الذهن او تدمج الافكار المتعلمة في مكان اخر. برجماتية ديوي استغنت عن اي عقد اجتماعي وركزت فقط على حق المواطن الفرد والحاجة الى الادراك الذاتي والدعوة الى تعليم ينتج "جماعة اخلاقية".

ومؤخرا برز الاتجاه البرجماتي الجديد بزعامة ريتشارد روثي (1931-2007) الذي رفض الفكرة بان معرفتنا هي "مرآة للطبيعة"- اي ان احاسيسنا وتفكيرنا مجتمعين يشكلان انعكاس حقيقي للعالم. يرى رورثي ان وعينا يأتي من تصور معلومات حسية بصياغات لغوية وبهذا يربط الحقيقة بالاستعمال اللغوي الحالي. درجة من نسبية الحقيقة هي امر حتمي. توماس كن (1922-1996) طور مفهوم النموذج او الاطار paradigm الذي فيه تتجسد الحقيقة في صياغات مؤقتة.

في مقابل النماذج، اصر فرج Gottlob Frege بالمانيا(1848-1925) على ان المنطق هو ذاتي مستقل عن العمليات الفكرية التي كشفها علم النفس. في بريطانيا اثبتا كل من بتراند رسل ونورث وايتهد هوية الرياضيات والمنطق، وبذلك شجعا على الايمان بإمكانية المعرفة الموضوعية للعالم من خلال العلم. سلطة المنطق بدأت تطبق باجراءات عرفت بالفلسفة التحليلية. الرمزية اخترعت بهدف تجسيد افتراضات لغوية بعبارات منطقية وربطها للحصول على بيانات صحيحة او خاطئة تماما. ولكن حالا اتضح ان الافتراضات المعبر عنها لغويا هي عموما ليست بعيدة عن الغموض بحيث يمكن ترتيبها تحت اي نوع مبسط من التحليلات المنطقية.

الفلسفة التحليلية برزت ايضا في تفكير لودج وتكنستن Ludwig wittgenstein الذي اكد عام 1922 بان العالم هو "كلية الحقائق وليس الاشياء". القلق حول البناء المنطقي للغة انتقل بالنهاية الى اللسانيات او دراسة هيكل التعبيرات وفقا لما فيها من نحو وسيماتك.

التجارب الاولى مع الماركسية والفاشية بما فيها النازية اوضحت ان الايديولوجية بذاتها لا يمكن ان تزود استقرار سياسي ما لم تكن الجماعة السياسية والقيم المشتركة محدودة. ايضا لاحظنا ان النظام السياسي يجب ان يقع بايدي القلة، او سنعود فورا الى حكم الاوليغارت او الاستبداد. غير ان مفكرين في فرانكفورت امثال هربرت ماركوس ولاكاس وهابرمس حاولوا انقاذ الافكار الماركسية من افراط المستبدين كستالين بنفس مقدار ما يريدون انقاذه من الرأسمالية. هم طوروا نظرية نقدية لكي يوفروا ديناميكية ايديولوجية جديدة، طالما كل من الرأسمالية والشيوعية جسدتا ذاتيهما كمتحجرات فكرية.

لو جئنا للتفكير الاخير لسلافوك زيزك (1949-) فهو عارض القبول السلبي لفشل كل من الماركسية والراسمالية مجادلا باعادة اختبار احداهما واستغلال الانهيار الوشيك للاخرى. في امريكا ساوى جون رولس بين العدالة والانصاف بطريقة فكرية فيها يختار الناس حكام المجتمع دون معرفتهم بموقعهم في ذلك المجتمع، هذه الصياغة للعدالة هوجمت من جانب روبرت نوزك الذي ساوى العدالة ليس مع الانصاف وانما مع الحرية المرتكزة على الحقوق والملكية.

استنتاج

الفيلسوف العقلاني برنارد وليم (1990-) في كتابه "الاخلاق وحدود الفلسفة" اعلن بان الفلسفة الاخلاقية ترتكز على حقيقة ومعنى الحياة الفردية، وان العلوم الطبيعية قادرة على الوصول للحقيقة الموضوعية. الفلسفة الغربية تدور حول هاتين الفكرتين، مع ان البعض يرى ان الحقيقة الموضوعية للعلوم يمكن فهمها بشكل افضل كتمثيل، باعتبارها توفر صورة او نموذج نفهم بواسطته الواقع. تجربتنا عن الكون يبدو كأنها مترابطة الى بعضها داخليا، لكن بعض مظاهر تجربتنا تبتعد بالفعل عن الباقي كما لو انها حقائق مختلفة لاسيما الاخلاق والجمال. الفلسفة الاخلاقية، الجمال والعلوم كل منها متعدد المستويات رغم ان الترابط المتشابك بين المجالات والمستويات ربما سيبقى غير واضح لوقت ما.

ان المشكلة الاساسية امام الفلسفة في القرن الواحد والعشرين هي الاصولية، وحيث تضع بعض العقائد نفسها فوق السؤال. لا حاجة للمرء الانحياز كي يرى الكره المتبادل الذي تبديه الاصوليات الدينية والطوائف الاخرى وما فيه من استعداد للحروب والدمار، وحيثما نجد عدم اتفاق نجد الانكار الصريح لقيمة وكرامة الحياة الفردية. نظامنا التعليمي يمكنه البدء بتصحيح هذه المشكلة ليس فقط باللجوء الى التسامح المتبادل وانما في تعليم الناس التفكير الواضح: طرق واجراءات التفكير المنطقي. كل فرد يجب ان يتعلم كيفية تمييز المغالطات والقبول بالاختلاف مع الاحتفاظ بإنسانيتنا.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق