آراء وافكار - مقالات الكتاب

مبادئ سلطان تركيا الجديدة

من تصفير المشكلات مع دول الجوار إلى التدخل العسكري

السياسة الخارجية التركية بعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة بقيادة رجب طيب أردوغان، وعبد الله غول في عام 2002 انتقلت من الإنكفاء على الداخل وعدم التدخل في شؤون الدول العربية إلى وضع إستراتيجية خارجية جديدة، طورت تركيا الأردوغانية من خلالها سياسة العزلة التي إعتمدها مؤسس الجمهورية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك في التعامل مع القضايا الخارجية كردة فعل على النزعة العثمانية في تبني سلاطينها سياسة الهيمنة على الجغرافية السياسية للعالم العربي والإسلامي، وإعلان أتاتورك بناء دولة قومية علمانية وفق السياقات الغربية على أنقاض الدولة العثمانية الإسلامية.

أما تركيا الحالية بقيادة رجب طيب أردوغان الزعيم لحزب العدالة والتنمية الإسلامي، فقد أعادها إلى ماضيها التوسعي عبر (التوليف ما بين التركي القومي ـ والإسلامي أو ما عرف في الدوائر الغربية بـ(العثمنة الجديدة) (The New Ottoman)، بعد النجاح على مستوى تحقيق طفرة إقتصادية كبيرة ليس فقط عند الأتراك وإنما أبهرت العرب والمسلمين إلى حد عدها بالنموذج الإسلامي السني الناجح في قبالة النموذجين الشموليين (القومي والملكي) في العالم العربي، والحكم الإسلامي الشيعي في إيران.

من هنا وضع المنظرون الإستراتيجيون الأتراك جل تفكيرهم بالسعي لإستعادة الرصيد الجيوسياسي للتجربة العثمانية على نحو يسمح بتجاوز سلبيات الحقبة الكمالية ولاسيما منها الإنعزالية والقطيعة مع الموروث الإسلامي والعثماني إلى المربع الجغرافي الأناضولي، وإعادة ربط تركيا بحاضنتها التأريخية والتمحور حول محيطها الجيوسياسي، والجيوثقافي لإعادة هندسة العلاقات الإقليمية في الشرق الأوسط، وإعادة الشراكة الإستراتيجية مع العرب أو ما أسماه المنظر الإستراتيجي أحمد داود أوغلو في كتابه (في العمق الإستراتيجي) بسياسة (تصفير المشكلات)، المبدأ الذي عمل به حزب العدالة والتنمية بعد صعوده للحكومة عام 2002 منذ أن رفضت الحكومة المشاركة في التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لإحتلال العراق في عام 2003.

أما بالنسبة للجار الجنوبي الآخر فقد شهدت العلاقة ما بين تركيا وسوريا تغييراً ملحوظاً بعد سنوات من الخلافات والمشاكل ما بين البلدين على مسائل عديدة أهمها مشاكل الحدود، والمياه، والكُرد، واستمرت علاقة تركيا المتميزة بكلا البلدين الجارين سوريا والعراق بخاصية التعاون وحلحلة المشاكل وفق مبدأ(تصفير المشكلات) كجزء من إستراتيجية تركيا الخارجية الجديدة في التعاطي مع العالم العربي والإسلامي كإرث جيوسياسي، وجيوتأريخي، وجيوثقافي، وجيوإقتصادي بالنسبة لتركيا القديمة ـ الجديدة كما يشير أحمد داود أوغلو.

السؤال المهم طرأ بعد ما عرف بثورات الربيع العربي في عام 2011 أين مبدأ تركيا الأردوغانية بتصفير المشكلات مع دول الجوار خاصة والعالم العربي والإسلامي عامة؟، بعد أن دعمت تركيا ثورات الربيع العربي في كل البلدان العربية بمخرجاتها الإسلامية، وبالتحديد عندما تصدر حركة الإخوان المسلمين للمشهد السياسي في أغلب البلدان العربية وخاصة في مصر، وتونس، وليبيا، واليمن، وحتى سوريا ولكون تركيا بقيادة أردوغان تعد نفسها نموذج إسلامي ناجح في الحكم ويحظى بترحيب من قسم كبير من الجمهور العربي والإسلامي فهي قدمت الدعم المطلق لحركات الإسلام السياسي (الإخوان)، بصورة وصلت إلى حد زيارة مسؤولين أتراك إلى البلدان العربية ومنها زيارة أردوغان نفسه إلى مصر بعد سقوط نظام حسني مبارك مباشرة لكن التخوفات من تغول جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والخشية من إنتقال نموذجها إلى بلدان خليجية أفشلت تجربة الإخوان في مصر.

إذن هل تحولت تركيا في إستراتيجيتها الخارجية من مبدأ تصفير المشكلات إلى مبدأ التدخل العسكري؟، خاصة في البلدان المضطربة أمنيا والهشة سياسياً وطائفياً كالجارة سوريا والى حد ما العراق كجار جنوبي آخر ومحل صراع إقليمي بين تركيا، وإيران، والسعودية.

ترى تركيا الأردوغانية بأن الشرق الأوسط يشهد صراعاً دولياً وإقليماً، وأن موقعها وإرثها الجيوسياسي من دول الجوار والعالم العربي والإسلامي في الوقت الذي تشهد بلدان الشرق الأوسط خارطة جديدة من هنا، فتركيا بقيادة أردوغان تريد أن تكون أحد الأطراف الفاعلة والمؤثرة في صناعة الشرق الأوسط الجديد إلى جانب ما تعده تهديداً إرهابياً لأمنها القومي من قبل الجماعات الإسلامية الإرهابية والعقدة الكُردية الآخذة بالتوسع عبر سيطرة حزب العمال الكُردستاني والمجموعات الكُردية الأخرى على مناطق كبيرة من سوريا (الرقة، ومنبج، وكوباني، وتل عبطه، إضافةً إلى عفرين).

وفي هذا السياق تدخل تركيا عمليتها العسكرية الأخيرة في منطقة عفرين وقبل هذا تواجدها العسكرية في مدينة بعشيقة الموصلية من العراق، فإستراتيجية سلطان تركيا الخارجية الجديدة يبدو أنها إذا ما تحققت بالعامل السياسي والإقتصادي فإنها قد تحقق بالعامل العسكري، فمثلاً تهدف تركيا في عمليتها العسكرية في عفرين السورية إلى تحقيق أبعاد جيوسياسية وإستراتيجية -كما يؤكد مراقبون-، فإضافةً إلى تحجيم تمدد حزب العمال الكُردستاني والمجموعات الكُردية الأخرى في سوريا كتهديد للأمن القومي التركي، وتحقيق توازن مكوناتي لصالح حلفائها السوريين المعارضين لنظام بشار الأسد، تنظر تركيا إلى سوريا وجنوبها المجاور كمنطقة مهمة من مجالها الحيوي، وتضمن لها في أن تلعب دوراً بارزاً في مرحلة ما بعد الحرب في سوريا، إضافةً إلى عوامل أخرى تخص إعادة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم، وأخرى تتعلق باستمرار قوة الإقتصاد التركي، وتقسيم النفوذ بالتوازي مع الروس والإيرانيين.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2018Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق