نجد الكثير من المصطلحات السياسية لا ينقصها الاهتمام في الدرس المعرفي – الثقافي خارج السور الاكاديمي إضافة الى أنها تحظى بأهمية بالدرس الاكاديمي، وتشكل هذه المصطلحات أفكارا ومفاهيما في الحقل المعرفي السياسي وبعض منها يشكل آلية مستحكمة في التحليل السياسي مما يكسبها ذلك الاهتمام المتزايد لكن...

نجد الكثير من المصطلحات السياسية لا ينقصها الاهتمام في الدرس المعرفي – الثقافي خارج السور الاكاديمي إضافة الى أنها تحظى بأهمية بالدرس الاكاديمي، وتشكل هذه المصطلحات أفكارا ومفاهيما في الحقل المعرفي السياسي وبعض منها يشكل آلية مستحكمة في التحليل السياسي مما يكسبها ذلك الاهتمام المتزايد لكن وفق متطلبات المرحلة وتكتيكات الموقف، ولعل انتشارها في التحليل السياسي يعبر عن التصاقها بالواقع وحقيقة تمثلها على صعيد السياسية، لكن أحيانا تتحول الى سذاجة سياسية ووسيلة شعبوية تعكس الترهل الفكري والمعرفي الذي أصابها نتيجة العجز عن استبدالها أو فقدان المعايير الأخرى الصالحة معرفيا وسياسيا في التحليل، أو تحت ضغوط الانحياز الى أجهزة ومصالح سياسية محلية أو إقليمية او دولية مما يؤثر في موضوعية التحليل ويؤثر في قدرة المحلل السياسي على إيصال المعلومة التوثيقية والموضوعية التي هي مهمة ووظيفة التحليل السياسي، وفيها تهيمن الأفكار المستنبطة من هذه المصطلحات – المفاهيم - النظريات ونتيجة ترسخ هذه المصطلحات – المفاهيم في الدرس الاكاديمي والتحليل السياسي فإنها تتحول الى نظريات في حقل العلوم السياسية وبذلك تكتسب بعدا توثيقيا علميا ومهما في عملية التحليل السياسي.

ولعل من قبيل هذه الأفكار التي صارت محورية وتقليدية في التحليل السياسي المتبع لدينا في العراق هي التدخل الخارجي الدولي والإقليمي في صناعة التشكيلية الحكومية في البلد وأحيانا أولوية تأثيرها في الظرف الأمني والاقتصادي الذي يخضع البلد الى تأثيراته بقوة وتأثير مفرط.

فقد صارمن اليسير على المحلل السياسي – التقليدي جدا أن يتوخى العبارات ويتحدث عن التدخلات الدولية والاقليمية في تشكيل الحكومة العراقية، وبعد انجاز هذه الحكومة شكليا يتطرق الحديث في التحليل السياسي التقليدي أيضا الى هذه التدخلات وممارسة النفوذ المباشر في تسيير شؤون وسياسات هذه الحكومة.

وينبني هذا التحليل الشائع في الاعلام والوسط السياسي هذه الايام على نظرية العلاقات الدولية التي بدأت وتكونت في الولايات المتحدة الاميركية في ثلاثينات القرن العشرين، وترى هذه النظرية أن الدول بمثابة " غيلان باردة " تبحث عن القوة حصرا على مسرح العالم، وبهذا تفسر هذه النظرية ظاهرة الصراعات بين الدول وتشدد في بعض افكارها وتحليلاتها على المواجهة بين الدول، وتعد بعض مدارسها أن القوانين السياسية تجري بمعزل عن ارادتنا واختيارنا وان منطق الدفاع عن المصالح هو الذي يسير وجهة وطبيعة العلاقات بين الدول. وعليه فإن الدول تظل في حالة من التنافس، وأن التعايش هو الممكن وليس السلم الدائم – راجع معجم العلوم الانسانية، جان فرانسوا دورتيه، ترجمة د. جورج كتورة، ص711- 712 –.

وهذا التنافس بين الدول والمنظور اليه سياسيا ضمن آليات الدفاع هو الذي يدفع الى سياسات التدخل في شؤون الدول الأخرى التي تمارسها الدول القوية كحق ضمني وطبيعي في منطق الحياة – الواقع وليس في منطق القانون الدولي، لكن التشديد عليه واستحضاره دائما في الحديث السياسي الداخلي في بلدنا جعله يتحول الى ذلك النمط من التفسير والتحليل الشعبوي الذي يمارس التعبير العاطفي عن مواقف الجماهير بإزاء هذه الحكومات التي تعاقبت على العراق بعد 9/4/ 2003 م، وهي تتسم بالرفض والادانة اضافة الى فشل هذه الحكومات في احداث تغيير نوعي سياسي واجتماعي في الداخل العراقي مما شجع على تداول هذا التحليل والاتكاء عليه سياسيا وشعبويا في تفسير وتحليل ما يجري في البلد.

وقد وجدت بعض القوى السياسية ملاذا لها في الاستتار بهذا التبرير من أجل ممارسة الفساد السياسي والمالي بشكل يختفي عن الرصد خلف تقمصات أدوار المعارضة للحكومة التي لا تخلو من مواطئ قدم لهذه القوى فيها ويختبئ تحت شعارات مواجهة التدخلات الخارجية سواء الدولية – الاميركية والاقليمية - الايرانية والسعودية وادانة الحكومة التي ترتهن سياساتها وبواسطة هذه التدخلات بإرادات سياسية دولية وإقليمية التي بدت في العراق تحليلا جاهزا وحاضرا يتشارك فيه النخبوي والشعبوي والمسؤول السياسي الرسمي في المواقع العليا في الدولة والمواطن العادي، وهو يعكس اشكالية مبهمة في التحليل حين يتشارك المسؤول الرسمي المتهم بالفساد والفشل والمواطن العادي في التفسير والتحليل.

لكننا نجد وعلى مستوى أخر اهتمام التحليل السياسي وبنخبوية محدودة بالإرادة السياسية والتي ظلت بمنأى من التداول الشعبوي وأحيانا الابتذالي لها، بل ظلت لدى النخب الواعية تعبير عن آلية تضبط ايقاعاتها وتوجيهاتها معرفة وضبط الخلفية السياسية والتاريخية في تشكيل الارادة السياسية بالنسبة الى القوى العراقية والحزبية المنخرطة في العملية السياسية، هذه الارادة التي ظلت خاضعة لمؤثرات ذاتية – عاطفية وارتدادية الى حقبة الصراعات والكراهية بين الأطراف والحركات السياسية العراقية في مرحلة المعارضة في الخارج التي لم تستوفي شروط ومقومات العمل السياسي الذي يكفل نضج ونجاح هذه المعارضة، وقد استمرت آثار تلك الارتدادات وموجات الصخب في التأليب على الأخر كأبرز سمات هذه المعارضة حتى بعد ازاحة نظام الدكتاتور، وكان من آثارها تكلس أدوار السلطة لديها في عقلية المعارضة التي أثّرت بقوة على الارادة السياسية لديها.

والارادة السياسية هي العنصر الأهم في تأسيس الفعل السياسي بعيدا عن الانفعال السياسي وتكمن فيها امكانية عناصر النجاح الاستراتيجي وليس بالضرورة التكتيكي، واهمية الارادة انها تكون مشتقة من عناصرها الأيديولوجية التي تحكم المسيرة السياسية للقوى السياسية والفاعلة في الحركة السياسية، وهنا الحركة السياسية تشكل المجال القابل للتموج والتدفق في الفعل السياسي والقوى غير القادرة على ادامة هذا الزخم من الفعل السياسي فإنها تخسر البقاء.

وتكشف الارادة السياسية عن القدرة على الفعل السياسي في قدرتها على تمثل الارادة العامة او التمثيل الذي تمارسه وتؤمن به للإرادة العامة وهو يكفل لها مشروعية الفعل السياسي، وهي تستند الى مجموعة من الأفكار والتصورات التي صنعتها تجارب التاريخ والهوية والثقافة وتصب الارادة السياسية في مصالح الدولة العليا اذا تمكنت من التمثيل العام للإرادة، وفي أيديولوجيتها التي تستكمل عناصرها في خلاصة التاريخ والهوية والثقافة تكمن عناصر الدفع في استكمال مشاريعها وتتوقف قدرة هذه المشاريع على النجاح على انهمام الإرادة السياسية بالمصلحة الوطنية ومصالح البلاد العليا التي تشكل استراتيجية الإرادة السياسية وهي شرط نجاحها كفعل سياسي في تلك السيرورة للايديولوجيا الوطنية.

وبهذا يجب حصر مصطلح الإرادة السياسية بهذه السيرورة وبعملية البناء الوطني وتكريسها مفهوما من أجل المصالح الوطنية ومصالح البلاد العليا، لان التخلف عن هذا الأداء والتراجع عن هذا الدور المشروط في البقاء السياسي والقانوني للدولة فان الإدارة السياسية تتعرض الى العدم وعلى أثره تتحول الى فناء تاريخي واجتماعي كلاّ من الدولة والمجتمع بآن واحد.

ومن ناحية أخرى فإن المصير السياسي للأطراف السياسية الفاعلة والمؤثرة والفاقدة للإرادة السياسية سيتوقف عند حدود الماضي ويفتقد القدرة على التخطيط في الحاضر ناهيك عن افتقاده القدرة على التعاطي مع المستقبل وهو ما يسمح بوصف الدولة التي تهيمن عليها هذه الأطراف بالفاشلة، فالمعيار بالنجاح في الدولة هو القدرة على التعاطي مع المستقبل ناهيك عن القدرة على ادراك الحاضر وتجاوز الماضي الذي ظلت أطرافنا السياسية والحزبية في البلاد متوقفة عنده عاثرة في عقباته السياسية والثأرية.

وعلى ضوء تأطير القواعد للإرادة السياسية في خلاصات التاريخ والهوية والثقافة واشتراطها في النجاح السياسي الاستراتيجي في المستقبل والتكتيكي في الحاضر وجهوزية التفسير بها في العلوم السياسية ومن ثم امكانية التحليل السياسي من خلالها فإنها تكتسب مشروعية الاصطلاح وشرعية المفهوم، ونحيلها بذلك الى مصادر التحليل السياسي بأهمية فائقة في رصد عوامل التخلف في اطروحات القوى السياسية الداخلية والتراجع عن القدرة في البناء الوطني لديها نتيجة افتقادها للإرادة السياسية وعجزها المطلق في الحاضر عن صياغة وبناء هذه الإرادة التي تفرض المصلحة الوطنية فرضا – واجبا قائما في بنائها كإرادة فعل سياسي يوظف باتجاه مصالح البلد العليا، وهو مما يتيح للمحلل السياسي القدرة على استشراف المستقبل واستكشاف التوقعات فيه وهي سمة أو وظيفة التحليل السياسي.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق