حياتنا كلها كانت تقررت سلفا عندما خرج الكون الى الوجود. لو كانت لدينا معرفة بالحالة الاولى للكون وبالقواعد التي تحكمه، عندئذ نحن نستطيع التنبؤ بأفعالنا المستقبلية بدقة تامة كما لو كنا بالضبط مثل كرة اخرى او طير آخر. باختصار، جميع أفعالنا هي بالنهاية خارج سيطرتنا...

هناك فهم مألوف وقوي بين الناس عن الرغبة الحرة، فلو حاول اي شخص آخر اقناعي بما هو مخالف لي فسأرفع يدي لإثبات موقفي الذي أرغب به. هذا الفعل يتم بطريقة طوعية. غير ان احساسنا العاطفي بالرغبة الحرة سيصبح مشكلة عندما نحاول التوفيق بينها وبين فكرة اخرى هامة وواضحة بديهيا، تلك هي فكرة السببية. عندما نلاحظ العالم حولنا سيبدو انه يعمل باسلوب منتظم ومنسجم. الكرة التي تندفع في الهواء لا تستطيع تغيير اتجاهها او تزيد سرعتها فجأة طبقا لطبيعتها الداخلية. بدلا من ذلك، نرى مسار الكرة يتقرر كليا بقوانين نيوتن في الحركة. معظم الناس لا يشعرون بوجود مشكلة في نتائج السببية عندما يتم تطبيقها على الكرة او الطير، نحن ندرك بديهيا ان كل تأثير او نتيجة له سببه الخاص به.

ولكن عندما نطبق هذا المبدأ على أفعالنا فان نتائج الرغبة الحرة ستصبح مثار إشكالية. لو صادف ان عشنا في كون مقرر(حتمي)، عندئذ فان القرار برفع يدنا لم يكن بفعل الرغبة (بدون سبب). خيارنا هذا جاء كنتيجة لسبب معين مثل حالتنا الذهنية المعينة او البيئة التي وجدنا أنفسنا بها. بالطبع، هذه الاشياء هي ذاتها نتائج لأسباب اخرى. لو نتبع هذا الخط من التفكير وصولاً الى استنتاجه المنطقي سنجد ان القرار برفع يدنا كان نتيجة حتمية لسلسلة طويلة من العلاقات السببية التي يمكن تعقّبها رجوعا الى بداية الكون.

بكلمة اخرى، ان حياتنا كلها كانت تقررت سلفا عندما خرج الكون الى الوجود. لو كانت لدينا معرفة بالحالة الاولى للكون وبالقواعد التي تحكمه، عندئذ نحن نستطيع التنبؤ بأفعالنا المستقبلية بدقة تامة كما لو كنا بالضبط مثل كرة اخرى او طير آخر. باختصار، جميع أفعالنا هي بالنهاية خارج سيطرتنا بما يعني ان الرغبة الحرة هي مجرد وهم.

ماذا نعمل عندما تكون لدينا عقيدتان واضحتان فطريا غير منسجمتين مع بعضهما؟ نحن نحاول ايجاد طريقة يكون فيها انسجام بين الرغبة الحرة والقدرية determinism. بعض الفلاسفة مثل هيوم يرى انه يكفي بالنسبة لنا ان نتصرف طبقا لرغبتنا بصرف النظر عما اذا كان بإمكاننا التصرف بطريقة اخرى.

بكلمة اخرى، نحن احرار طالما لسنا تحت اي نوع من الاكراه – مثل تورّم الدماغ او رجل يسدد علينا بندقية – لنتصرف ضد رغبتنا. بالطبع، هذا ينطوي على مغالطة منطقية، ما الذي يقرر رغبتنا؟ حتى لو كنا غير مجبرين بعوامل خارجية لرفع يدنا، لايزال السؤال قائما عن مصدر تلك الرغبة.

شوبنهاور ربما عالج هذه المسألة باختصار عندما أعلن ان "الانسان يستطيع عمل ما يرغب لكنه لا يستطيع ان يرغب بما يرغب". اذا كانت هذه هي الحالة، فان رغبتنا الحرة ستصبح سطحية باعتبار ان الاشياء التي نرغب بها هي بالنهاية تتقرر بعوامل وراء قدرتنا. لكن مشكلتنا قد تنشأ من البحث عن حل من داخل عالمنا المادي. العديد من الناس اعتبروا ان مصدر الرغبة الحرة يكمن في وجود الذهن او الروح التي تسكن عالما ميتافيزيقيا غير مقيد بالقواعد المقررة للعالم المادي، غير ان هذا فقط يحل مشكلة واحدة بإدخال مشاكل اخرى عديدة.

نحن ليس لدينا برهان واقعي بان هذه الاشياء الميتافيزيقية موجودة حقا، وحتى لو كانت موجودة فليس من الواضح ابدا الكيفية التي تتفاعل بها هذه الاشياء الميتافيزيقية مع العالم المادي بطريقة تمنحنا الرغبة الحرة.

ربما نكون قد وصلنا الى طريق مسدود فيه تكون الرغبة الحرة والقدرية ليسا منسجمتين مع بعضهما. فلابد اذاً من نبذ احد هذين المفهومين، ولكن اي المفهومين نتخلص منه؟ في ضوء مدى تمسكنا برغبتنا الحرة، فان معظمنا يرغب بإهمال فكرة القدرية او الحتمية. هذا الخيار يستند على ادلة علمية. طبقا لتفسيراتنا الشائعة لميكانيكا الكوانتم فان الكون الذي نعيش فيه هو بطبيعته عشوائي بالاساس. اذا كانت افعالنا بالنهاية عشوائية بطبيعتها، عندئذ يمكننا القيام بشيء غير الذي قمنا به فعلا، وبهذا يتم الحفاظ على الرغبة الحرة.

غير ان هذا يبدو نصرا فارغا للمدافعين عن الرغبة الحرة. عندما يمارس شخص ما رغبته الحرة فهو يقوم بخيار مقصود من بين عدة بدائل ممكنة. نحن نعتقد ان الفرد في سيطرة تامة على عملية صنع القرار. ولكن كيف يمكن للفرد الذي يتخذ قراراته عشوائيا يكون في سيطرة على اي شيء؟ لا فرق بين الفرد الذي يتخذ قراراته طبقا لأحد وجهي العملة او ورقة اليانصيب. القرار هو بالنهاية خارج سيطرته حتى لو كان حقا منهمكا في اتخاذ خيار بديل للفعل.

كذلك، هذا الموقف يفشل في توضيح كيف تؤثر اللاحتمية indeterminism على الناس بشكل مختلف عن تلك الاشياء في الكون. اذا كانت عقيدتنا في اللاحتمية هي بالنهاية تُشتق من الكيفية التي يتصرف بها العالم على المستوى الذري عندئذ فان استنتاجنا سينطبق على الاشياء غير الحية بنفس المقدار الذي ينطبق علينا. وهكذا، اذا كانت اللاحتمية تعني اننا نمتلك رغبة حرة فستعني ايضا ان كل شيء آخر في الكون يمتلك رغبة حرة. هذا الاستنتاج لا يقبل به معظم الناس.

لذا فان نبذ مفهوم الحتمية لم يكن هو الطريقة الصحيحة. ورغم ان هذا قد يبدو سخيفا لأول وهلة، لكن عالما كهذا هو حقا ليس غريبا عنا. سواء كانت جيناتنا او تطور الطفولة او اللاوعي او الافعال بحكم العادة، فان معظمنا يقبل سلفا ان العديد من العوامل التي تؤثر على حياتنا هي بالنهاية ليست من عملنا.

لكن من المهم جدا الاشارة الى ان رفض الرغبة الحرة يجلب معه عدد من المشاكل. الكون المقرر هو كون فيه جميع خياراتنا تقررت لنا سلفا – نحن لا نستطيع عمل شيء غير ما قمنا به حقا. ولكن بدون المقدرة على عمل خيارات حرة يصبح من الصعب وجود معنى ليكون اي فرد مسؤول اخلاقيا عن خياراته. معظمنا سيكون منزعجا من اهمال فكرة شديدة التكامل مع فهمنا للعالم وهي فكرة المسؤولية. في الحقيقة، ان العديد من عواطفنا الاساسية يصبح لها معنى فقط عندما نفترض سلفا المسؤولية الاخلاقية. ما فائدة الشعور بالغضب او الحزن بغياب الرغبة الحرة؟

ربما لا يكون الناس مسؤولين عما يقومون به ان لم تكن لديهم رغبة حرة، لكن افعالهم ستظل لها نتائج سلبية خطيرة علينا. ذلك يشبه كثيرا الافعال التي نتخذها للتخفيف من دمار الزلازل او الاعاصير والتي هي ايضا غير مسؤولة عما تقوم به، نحن يجب ان نتخذ كل الاحتياطات العقلانية لنحمي انفسنا من الخطر المحتمل المتسبب بواسطة الاخرين. عواطفنا الاخلاقية ومشاعرنا يمكن ان تساعدنا اما في التأثير على الآخرين للامتناع عن الافعال التي تؤذينا او التأثير على أنفسنا لنتجنب اولئك المنخرطين في تلك الافعال.

اذاً الى اين يقودنا هذا النقاش فيما يتعلق بالرغبة الحرة؟ من جهة، نحن لدينا رؤية ذاتية بديهية واضحة عن العالم الذي تكون فيه الرغبة الحرة والمسؤولية الاخلاقية سمتان فطريتان فيه. غير ان الرؤية الموضوعية العقلانية للعالم لايبدو فيها اي مكان للرغبة الحرة: الحتمية لا تسمح بإمكانية الافعال البديلة، بينما اللاحتمية لاتمنحنا اي سيطرة على اختيارنا لأفعال بديلة. نحن علينا ان نقبل بالمأزق بين هاتين الرؤيتين المتضادتين. في النهاية، الرغبة الحرة هي شيء لن نكون قادرين ابدا على اثباته، لكننا سوف نعيش حياتنا كما لو كانت حقيقة اساسية لوجودنا.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق