هناك سيناريو يحاك من أجل تكرار أحداث حزيران/يونيو 2014، وإعادة تنظيم داعش في العراق إلى الواجهة السياسية والأمنية والعسكرية. يأتي هذا الحديث في ظل تصاعد نشاط تنظيم داعش الإرهابي في بعض مناطق العراق الهشة أمنياً، أو تلك التي سيطر عليها التنظيم أبان اجتياحه لمحافظة الموصل...

كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن أن هناك سيناريو يحاك من أجل تكرار أحداث حزيران/يونيو 2014، وإعادة تنظيم داعش في العراق إلى الواجهة السياسية والأمنية والعسكرية. يأتي هذا الحديث في ظل تصاعد نشاط تنظيم داعش الإرهابي في بعض مناطق العراق الهشة أمنياً، أو تلك التي سيطر عليها التنظيم أبان اجتياحه لمحافظة الموصل وبعض المحافظات الغربية أو حتى في تلك المناطق التي طالما سببت صداعا في رأس الحكومة العراقية والأجهزة الأمنية.

إذ قام التنظيم خلال شهر فبراير/شباط بأكثر من عملية تعرضية ضد المدنيين العزل في مدينة حديثة في محافظة الأنبار وفي مدينة النخيب بين محافظتي كربلاء والأنبار، وفي جبال مكحول في صلاح الدين، فضلاً عن تعرضاته الأمنية ضد قوات الأمن العراقي المرابطة في تلك المناطق.

بموازاة ذلك وعلى الصعيد السياسي، فهناك من يتحدث عن مجريات العملية السياسية والظروف التي رافقت عملية تشكيل الحكومة العراقية بعد انتخابات 12 آيار 2018، وللتأكيد من فرضية المقال لابد لنا أن نتناول الأوضاع الداخلية والتطورات الإقليمية والدولية بجوانبها المختلفة بالمقارنة مع الظروف والأوضاع ما قبل عام 2014.

الأوضاع الداخلية

إن الحديث عن الوضع الداخلي العراقي بعد تحرير الأراضي العراقية من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي نهاية العام 2017 لا يختلف كثيراً عن الوضع الداخلي قبل 10 حزيران عام 2014. فالوضع السياسي لا يزال متأزماً وعملية تشكيل الحكومة العراقية لم تكتمل لحد الآن، وبدايات تشكيلها وسلوكها على الصعيد (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) لا يختلف عن عملية تشكيل الحكومات العراقية السابقة، فما زال الفقر والبطالة وغياب الرؤى الاقتصادية معوقات حقيقية في بناء الدولة، كذلك ما تزال حالة عدم الاستقرار وعدم الثقة بين الفرقاء السياسيين وتغليب المصالح الحزبية على المصالح الوطنية وتصاعد الصراع السياسي على الحقائب الوزارية، معوقات تعتلي المشهد السياسي العراقي.

أما على الصعيد الاجتماعي، فما تزال أغلب المدن التي حُررت تعاني من أزمات حقيقية على المستوى الاقتصادية والخدمي وما يزال بعض سكانها نازحين لحد الآن، لكن المفارقة بين الفترتين (فترة ما قبل عام 2014 وفترة ما بعد التحرير) تكمن في طبيعة تعاطي سكان المحافظات الغربية مع عناصر تنظيم داعش، فقبل عام 2014 كان هناك ترحيب كبير لعناصر التنظيم نتيجة تراكم السياسات الفاشلة للحكومات العراقية التي سبقت حكومة السيد العبادي؛ ولذلك مثلت تلك المحافظات بيئة ملائمة وحاضنة كبيرة لتجمعات عناصر التنظيم.

أما اليوم فإن عناصر تنظيم داعش منبوذة ومطاردة داخل المجتمع السني، وجميعنا يتذكر مشاهد تجوال عناصر التنظيم في مدينة الرمادي في العام قبل وبعد عام 2014 أمام مرأى أهل الأنبار والموصل وصلاح الدين، أما اليوم فلا يمكن لعناصر التنظيم أن تظهر ولاءها للتنظيم أمام سكان تلك المدن، بل أن بعض العشائر العراقية في محافظة الأنبار أخذت تلاحق عناصر التنظيم في الصحراء والمناطق المأهولة.

فضلاً عن ذلك، فالقوات الأمنية العراقية بمختلف تشكيلاتها والمؤسسة العسكرية بشكل عام، تختلف عما عليه قبل العام 2014. على الرغم من ذلك، فما تزال كثير من مسببات دخول تنظيم داعش موجودة، لاسيما ما يتعلق بحجم الفساد المالي والسياسي والإداري الموجود في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية (بشكل أقل) نوعا ما، كذلك ما تزال الفجوة الأمنية موجودة بين الأجهزة الأمنية والمواطن العراقي، فالكثير من عناصر قوات الأمن العراقية غير منضبطة في تعاملها مع المواطن، سواء في السيطرات والأماكن العامة أو أثناء المداهمات. فضلاً عن ذلك، فأن الأحزاب والقوى السياسية العراقية لم تصل بعد إلى النضوج السياسي، وما تزال الكثير من سلوكياتها دون المستوى المطلوب، وأن الحكومة لم تمتلك البرنامج الشامل والأدوات الكافية في التصدي لكل تلك التحديات والمعوقات على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي. فما يزال السلاح المنتشر خارج إطار الدولة، وهذا بمثابة تهديد حقيقي لهيبة الدولة وأمن المواطن بشكل مستمر، فضلاً عن استمرار أزمة النازحين وغياب الفاعلية الحكومية في بناء المدن المحررة.

الأوضاع الإقليمية والدولية

ما يزال العامل الإقليمي، العامل الأكثر تأثيراً في الساحة السياسية العراقية، وتزداد شدته عندما يمتزج مع العامل الدولي، فلا يمكن الحديث عن التأثير الإقليمي في العراق دون الإشارة إلى دور العامل الدولي. هذا التأثير يأتي من طبيعة الصراع الموجود على السلطة وطبيعة تعاطي الاحزاب والقوى السياسية العراقية معه. فالعملية السياسية العراقية منقسمة في صراعها السياسي الإقليمي بين دور إيران في العراق والمنطقة وبين دور العرب وطبيعة تعاطيهم مع الحكومات العراقية بعد عام 2003، أو حالة التغيير السياسي بشكل عام. تكمن مشكلة الدولة العراقية الحالية، بأنها تمثل ساحة للصراع الإقليمي والدولي، فما يزال الصراع الإيراني – السعودي أو الإيراني – الأمريكي، يشكل التهديد الأكبر والتحدي الحقيقي أمام صانع القرار العراقي.

وهذا ما يزيد من هشاشة العملية السياسية العراقية، ويغذي نشاط الحركات الإرهابية والمتطرفة في العراق، فالانسحاب الأمريكي من سوريا وإعادة انتشاره في العراق، يزيد من فرضيات الصراع الإيراني – الأمريكي، لاسيما وأن الولايات المتحدة الأمريكية تريد أن تعوض خسارتها للصراع ضد إيران في سوريا على الساحة العراقية؛ ولهذا يرى البعض بأن هذا الصراع ربما يعيد تكرار سيناريو داعش في العراق. لكن ربما يبدو الوضع مختلفاً عما كان عليه قبل 2014، فالموقف الدولي والإقليمي اليوم يبدو أكثر انفتاحاً وتوافقاً مع الدولة العراقية، وداعم بشكل كبير للحكومة العراقية الحالية، لاسيما بعد هزيمة داعش عسكرياً. وهذا بحاجة إلى تعزيز فعلي على المستوى التطبيقي لسياسات الحكومة العراقية من أجل إصلاح سياساتها الاقتصادية والاجتماعية وطريقة إدارة الحكم فيها.

أن تراكم الأزمات العراقية منذ عام 2003، واستمرار حالة عدم الاستقرار السياسي، وطبيعة تعاطي الحكومات السابقة مع المظاهرات والاعتصامات، فضلاً عن حجم الفساد الذي أصاب جميع مرافق الدولة (المدنية والعسكرية) أدى إلى ظهور تنظيم داعش. وعلى الرغم من أن مسببات داعش كانت في معظمها عوامل داخلية، تتعلق بإدارة الحكم وطبيعة تعاطي الحكومات السابقة مع المحافظات الغربية، إلا أنها وجدت التمويل والدعم اللازمين (الإقليمي والدولي) من أجل إنجاح مشروعها من أجل فرض ارادات إقليمية توازي الدور الإيراني في العراق.

لكن تجربة داعش كانت تجربة فاشلة بالنسبة للإرادات الداخلية والخارجية سواء كانت على المستوى الإقليمي في سوريا أو على المستوى المحلي في العراق، وأن فرضية التعويل على تكرار سيناريو آخر لداعش مستبعدة تماماً في الوقت الراهن أو في المدى المتوسط (على أقل تقدير). إلا أن استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي في العراق، واستمرار الفجوة السياسية بين السلطة والشعب في ظل إنعدام ثقة المواطن العراقي بالعملية السياسية، ربما سينتج مشروع داعش أو مشروع مماثل له على المستوى البعيد، لاسيما في ظل استمرار سياسة تهميش المواطن وعدم تمكن الدولة العراقية ومؤسساتها من بناء وإحتواء الإنسان العراقي وكسب ثقته من أجل إعادة الثقة بالدولة والعملية السياسية بشكل عام وسد الفجوة والانقسام الاجتماعي الذي تسبب به سياسات ما بعد 2003 على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2019Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق