في جميع الأسئلة التي أجاب عليها العلم وفي جميع الدروس التي تعلّمناها منه، هو لا يعلّمنا كل شيء. كل نظرية علمية، لا يهم كم هي قوية ومهما نالت الدعم من كل المعرفة التي انتجتها الانسانية عبر التاريخ، فهي تمتلك فقط نطاقا محدودا من المعرفة تبدو...

منذ مئات الآلاف من السنين لم تكن لدينا أجوبة محددة لبعض الأسئلة الوجودية الكبرى، مثل السؤال عن الكيفية التي جاء بها الانسان للوجود على الارض؟ او السؤال عن الشيء الذي صُنعنا منه في المستوى الاساسي؟ او كم هو حجم الكون، وما أصله؟. لعدة قرون كانت هذه الأسئلة محل نقاش الثيولوجيين والفلاسفة والشعراء.

ولكن في القرون الأخيرة الماضية، اكتشفت الانسانية اكثر الأجوبة اقناعا لتلك الأسئلة. ومن خلال عملية إجراء التجارب وعمل الملاحظات، تضاعفت معرفتنا العلمية بشكل كبير، بما مكننا من طرح استنتاجات بدلا من مجرد الانخراط في تأملات غير مؤكدة. ولكن مع ذلك، وحتى مع المنظور العلمي، فان الفلسفة والدين سيبقيان حاضرين. والآن سنحاول معرفة لماذا:

العلم

عندما يفكر أغلب الناس حول ماهية العلم، فهم يحصلون فقط على نصف جواب. العلم ينطوي في نفس الوقت على كل من المعنيين التاليين:

1- هو مجموعة كاملة من المعرفة المحددة التي نمتلكها حول الكون. جميع النتائج التراكمية لكل التجارب، القياسات، الملاحظات التي سجلناها تكوّن مجموعة الحقائق العلمية التي نمتلكها عن الكون. النظريات، النماذج التنبؤية، الاطر والمعادلات التي تحكم الكون هي دائما جزء هام وأساسي للعلم.

2- هو العملية التي بواسطتها نحقق ونتعلم الكثير عن الكون.

العلم عملية مستمرة وهو يكشف باستمرار عن حقائق جديدة عن الكون، وان كامل عملية التحقيق العلمي –الافتراض، التجريب، طرح الاستنتاجات في سياق من اطار كامل للمعرفة– هي لاغنى عنها لما يُعرف كعلم.

ولكن في جميع الأسئلة التي أجاب عليها العلم وفي جميع الدروس التي تعلّمناها منه، هو لا يعلّمنا كل شيء. كل نظرية علمية، لا يهم كم هي قوية ومهما نالت الدعم من كل المعرفة التي انتجتها الانسانية عبر التاريخ، فهي تمتلك فقط نطاقا محدودا من المعرفة تبدو فيه صحيحة. حتى افكارنا التي ندين لها بولاء شديد لها محدودياتها.

ان أسباب هذه المحدودية تتمثل بالتالي:

اولا: التطور يوضح كيف تورث الصفات ويعطي آلية لكيفية تغيّر الكائنات الحية بمرور الزمن، لكنه لا يوضح أصل الحياة.

ثانيا: الانفجار العظيم يوضح ان الكون نشأ من الحالة الحارة المكثفة المبكرة، لكنه لا يوضح كيف نشأ الكون في تلك الظروف.

ثالثا، النسبية العامة توضح كيف ان المادة والطاقة خلقا الجاذبية وكانا السبب في انحراف الزمكان، لكنها لا توضح ما يحدث من اسلوب غريب داخل الثقوب السوداء.

بكلمة اخرى، لا يهم الى أي مدى وصلنا في فهمنا العلمي للعالم والكون، يبقى هناك دائما مكان ينتهي به فهمنا العلمي. حالما نمتلك معرفة محددة للظاهرة وفهم مفصّل للعمليات التي تؤطر تلك الظاهرة، نحن نستطيع ان نضع بأمان تلك الظاهرة ضمن مجال العلم.

لكن هناك عدة اسئلة نستطيع طرحها والتي لاتقع حتى الآن ضمن رؤية العلماء. بالتأكيد، نحن نستطيع التأمل بان الافكار العلمية قد تتمكن بالنهاية من حل هذه الالغاز، لكن هذا يعتمد على توسيع معرفتنا العلمية الحالية الى مجال لم تصله بعد. العديد من الألغاز المثيرة اليوم بدءاً من اصل الحياة مرورا بجاذبية الكوانتم وحتى ألغاز المادة المظلمة والطاقة المعتمة، كلها تكمن حاليا وراء المجال المفهوم علميا وبشكل جيد.

الثيولوجي

هناك أديان وتصورات أخلاقية نمتلكها حول الكون، والتي نفهمها كمجال للثيولوجي. ومهما تكن رؤانا الدينية الشخصية، فان الثيولوجي بشكل عام يتعامل مع الأسئلة مثل الهدف، الصحيح والخطأ، والمصدر الموثوق الذي يحدد بعض المبادئ التي يجب قبولها كحقائق غير قابلة للجدل.

العلم يحاول الاجابة على الاسئلة التي تبدأ بـ "كيف"، مجازفا لتوضيح والتنبؤ بما ستكون عليه حصيلة النظام الفيزيائي القائم في ظروف معينة. اما الثيولوجي فهو يحاول الاجابة على الاسئلة التي تسأل "لماذا"، يتأمل اسئلة تتجاوز المعرفة التامة ويقدم أجوبة موثوقة لتلك الأسئلة – وان كانت للبعض مثيرة للجدل.

من الصحيح ان العديد من الاسئلة التي كانت اُعتبرت في يوم ما تقع في عالم الثيولوجي، وحيث كنا نفتقر للمعرفة التامة، اصبحت الان اسئلة علمية لها اجابات نهائية. علميا، نحن نعرف الآن:

1- كيف نشأ كوكب الارض اثناء تكوّن نظامنا الشمسي قبل 4.5 بليون سنة.

2- كيف تطورت الحياة ومختلف انواع النباتات والحيوانات خلال عصور من عمر الارض.

3- كيف صاغت الأحداث الحالية والقديمة التاريخ الجيولوجي والمناخي والهايدرولوجيني لكوكبنا.

4- كيف تكونت النجوم والمجرات والهياكل الكبرى في الكون وكيف نمت من ماض اكثر نمطية وحرارة وكثافة.

مع ذلك، فان الفلسفة تكمن في المنطقة الرمادية بين هذين الحقلين (العلم والثيولوجي)، كونها تتعامل مع ما وراء معرفتنا المحددة ولكن دون اللجوء الى مصدر موثوق.

الفلسفة

هذه، بمعنى ما، المنطقة التي تزحف الى مساحة الالتقاء وحدود كل من العلم والدين، الفلسفة تسعى للتحقق من اسئلة لم يستطع العلم الاجابة عليها بعد. لكنها، خلافا للدين، تقترب من هذه الاسئلة باللجوء الى العقل والمنطق، وتحاول استخدام هذه الوسائل لإستكشاف اسئلة لم تُعرف أجوبتها بعد، ولكن ربما تُعرف في يوم ما.

الفلسفة تبقى محاولة مفيدة متى ما كانت معرفتنا العلمية غير كافية ومتى ما فشلت الاجوبة الثيولوجية في إقناعنا. تبحث الفلسفة في الاسئلة المتعلقة بالوعي، الهدف من الكون، ما اذا كان الواقع موضوعي ام معتمد على ملاحظة المراقب، ما اذا كانت قوانين الطبيعة والثوابت الفيزيائية للكون ثابتة عبر الزمن، ام انها متغيرة.

في كل الاسئلة التي نطرحها، يجب ان يكون الهدف النهائي هو ايجاد جواب علمي، اي لكي نقود التحقيق الذي حصيلته غير معروفة الى استنتاج مقنع مرتكز على معرفة تامة. اذا استطعنا ان نخلق حياة من لا حياة في المختبر، او نكتشف طريقة لإختبار مختلف التفسيرات لميكانيكا الكوانتم ضد طريقة اخرى، او قياس الثوابت الفيزيائية عبر المسافات الكونية والأزمان، فسوف يكون لدينا التبرير الجيد لطرح استنتاجات علمية.

ولكن يجب ان نعترف بجهلنا طالما لم نستطع بعد من تحقيق ذلك. أحسن النظريات العلمية لدينا هي فقط المتأسسة جيدا ضمن نطاق معين من الصلاحية، اما خارج ذلك النطاق، فلا نعرف على وجه التحديد أين وكيف ستنهار تلك القواعد. نحن نستطيع إستكشاف سيناريوهات، ندير نماذج محاكاة، نضع نماذج لسلوك الانظمة مرتكز على افتراضات معينة. لكن ان لم تكن لدينا بيانات كافية وملائمة لنتعلم الجواب التام، فنحن لا نستطيع القيام بأكثر من توظيف الأدوات التي في حوزتنا.

هذه هي الفرصة الحقيقية للفلسفة كي تتألق. عبر الزحف الى الحدود العلمية وفهم ماهية المعرفة العلمية الحالية وكيف حصلنا عليها سنستطيع النظر للتخوم ونستكشف مجموعة مختلفة من الافكار التأملية. اما الافكار التي تقود الى عدم انسجام منطقي او الى استحالة الاستنتاج فهي يمكن استبعادها، بما يمكننا من تفضيل او عدم تفضيل افكار حتى بدون معرفة علمية تامة.

غير ان هذه ليست مهمة سهلة ابدا. انها تتطلب من الفيلسوف ان يفهم العلم المناسب بالاضافة الى ما يقوم به العالم، بما في ذلك محدداته. انها تتطلب ان نفهم القواعد المنطقية التي يلعب بها الكون، والتي قد تتعارض مع تجربتنا المألوفة. افكار مثل السبب والنتيجة، او الفكرة بان حاصل ضرب س في ص = ص في س، او فكرة ان الجزيئات التي توضع في صندوق مغلق تبقى في الصندوق لكنها ليست صحيحة في جميع الظروف.

لا يهم مدى حجم معرفتنا العلمية، هناك دائما اسئلة تتجاوز ما يستطيع العلم الاجابة عليها بما يكفي. ان عدد الجزيئات المحتواة ضمن الكون المشاهد هي محدودة، كمية المعلومات المشفرة في كل الكون هي محدودة، لا يهم كم نتعلم، الكمية التي نعرفها سوف تكون دائما محدودة. وراء كل المعرفة المحدودة، سيكون هناك دائما مكان للفلسفة.

ذلك لا يعني ان كل التفلسف القائم عند الحدود هو مفيد ومهم. الفلسفة الجاهلة بالعلم او في القواعد المنطقية غير العادية التي عادة يتبعها العلماء، سوف تقود حتى المفكرين الأكثر ذكاءً الى الوهم. ما يُعرف اليوم لدى الذهن التأملي الفضولي، سوف لن يكون مقنعا ابدا. وحتى يأتي اليوم الذي يحقق فيه العلم ذلك التقدم الحاسم، فان التفلسف سيبقى اداة ضرورية للنظر في ما وراء حدود اليوم.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق