لابد من الحوار الفوري والجاد والهادف من أجل التغيير السلمي لكل ما تسبب في تعطيل تقدم العراق وازدهاره، وهدر ثروته ونهبه، من دون ذلك ستشهد الأيام القادمة غيوما سوداء أخرى، ستغطي سماء العراق من أقصاه إلى أقصاه، وستكون تحتها أحداث دموية، تذهل كل مرضعة ما أرضعت...

هناك من يرى أن خيار اندلاع حرب أهلية شيعية–شيعية، هو خيار مرجح ما دام أفق الحوار منسد، والتداول السلمي للسلطة مغيب، فمع إعلان اعتزال السيد مقتدى الصدر العمل السياسي، وغلق مقار التيار الصدري بالكامل، اندلعت المناوشات بين المتظاهرين من أنصار التيار الصدري، وبين جزء من قوات الحشد الشعبي المحسوبين على الإطار التنسيقي، بقيادة السيد نوري المالكي، في المنطقة الخضراء، وفي محيطها، بينما طلب رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة من الجيش العراقي والقوات الأمنية ألا تدخل في القتال البتة، وأن تكون مهماتها منحصرة في غلق أبواب المنطقة الخضراء فقط.

لم تشهد المنطقة الخضراء قتالا بين فصلين مسلحين، منذ عام 2003، كما شهدته ليلة الثلاثين من الشهر الثامن من عام 2022، وقد ترتب على ذلك سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى من الطرفين المتحاربين، ومن الجيش، ومن سكنة المنطقة الخضراء، والمناطق المحيطة بها.

هناك من يعتقد أن بعض أنصار الإطار التنسيقي قد أطلقوا الرصاصة الأولى تجاه المتظاهرين من أنصار التيار الصدري أثناء توجههم نحو قصر السيد المالكي، بينما قامت سرايا السلام المناصرة للتيار الصدري، وهم أيضا من القوات المسلحة الذين يتلقون دعما من الدولة بتطويق جزء من المنطقة الخضراء بالقرب من كرادة مريم، وأخذوا يقصفون المنطقة الخضراء ومحيطها بقنابل الهاون من مناطق شرق بغداد، دون أن يعبؤا بمن فيها، ومن فيها، فوقعت قنابلهم على بيوت آمنة ومستقرة، لا مع هؤلاء، ولا مع هؤلاء.

أخيرا نجح دعاة اندلاع حرب شيعية–شيعية، وأثمرت أموالهم ودعاياتهم حربا سيسقط فيها العشرات من الأبرياء، وستهدم فيها مئات الأبنية، وستخرب فيها مئات المؤسسات العامة والخاصة، وكأن الزمن يعود بنا سريعا إلى 2003، وهذا ما راهن عليه البعثيون وأنصارهم، حقا لهم أن يفخروا بمنجزهم هذا، وأن يجعلوه لهم عيدا.

فلا أنصار (الإصلاح) يُدركون خطورة ما يحدث لهم، ولا أنصار (هيبة الدولة) يُدركون أنهم يُدكون أخر حصن من حصون الدولة. لقد اثبت هؤلاء جميعا أنهم لا دعاة (إصلاح) ولا دعاة (دولة) بل أنهم طلاب سلطة ومناصب ومغانهم وامتيازات، وهم مستعدون للقتال من أجل كل ذلك، والتضحية بأبناء الشعب حتى يظلوا في السلطة يتمتعون بثرواتها.

لقد برهن هؤلاء السياسيين أن الشيعة -وهم المكون الاجتماعي الأكبر في العراق- ما عادوا قادرين على الاستمرار في قيادة دفة هذا البلاد، وفي تحقيق الأمن والاستقرار والرفاهية. فقد فشلوا فشلا ذريعا، منذ نحو 18 عاما في إدارة الدولة على النحو الذي يضمن وحدة هذا البلد أرضا وشعبا، كما هم يبرهنون اليوم قدرتهم اللامتناهية على شق الصف الشيعي–الشيعي.

كل الدماء التي سقطت الأيام الماضية، سواء كانوا من أنصار التيار الصدري، أو من أنصار الإطار التنسيقي هي دماء غالبية، وهي دماء من لون واحد فقط، هو اللون الشيعي، والشباب الذين كانوا يحملون السلاح ضد التنظيمات الإرهابية هم اليوم يقاتل بعضهم بعضا بدم بارد.

هل ستقف هذه الحرب؟ هل سيحقق أنصار (الإصلاح) بحربهم هذه أهدافهم في التغيير؟ هل سيحافظ أنصار (هيبة الدولة) على وحدة هذه الدولة بقتلهم أخوتهم من أنصار التيار؟ لا أظن ذلك يحدث، بل نحن ماضون إلى مزيد من الفساد، وإلى مزيد من الفرقة، وإلى مزيد من الدماء!!!

حصل ما حصل، واندلعت الشرارة الأولى للحرب، ووقع من وقع بين قتيل وجريح، وتأزم الوضع السياسي والاجتماعي، ليس في بغداد، وحسب، بل في كل محافظات الوسط والجنوب التي يشكل الشيعة فيها الغالبية السكانية؟ هل يمكن أن تهدأ هذه الحرب وتضع أوزارها ولو مؤقتا حتى لا تستفحل فتأكل اليابس والأخضر على حد سواء، فلا تبقي ولا تذر؟

الجواب؛ نعم. مازالت هناك فرصة لتدارك الأمر، وعلى قادة (الإصلاح) وقادة (هيبة الدولة) أن يوعزوا لفصالهم المسلحة بالانسحاب فورا من ساحة القتال. وهكذا فعل السيد مقتدى الصدر بعد نحو 24 ساعة على اندلاع المعركة، فقد دعا أنصاره كافة للانسحاب من المنطقة الخضراء، سواء كانوا متظاهرين سلميين أم كانوا مسلحين، وتبرأ من أفعالهم في استعمال السلاح، وطالبهم بان تكون ثورتهم الإصلاحية ثورة سلمية وتستمر سلمية. وهكذا قابله بعض دعاة (الدولة) بالمثل في خطوة للمحافظ على الأمن المجتمعي، ودرء مخاطر اندلاع حرب أهلية شاملة. فماذا بعد؟

1. إن خطوة السيد مقتدى الصدر في دعوة إتباعه للانسحاب من المنطقة الخضراء، هي خطوة تستحق كل التقدير والاحترام، فلولا هذه الدعوة لاستمرت المعركة واستعرت، خصوصا أن هناك أطرافا سياسية وإعلامية تدعو إلى استمرارها لحاجة في نفس يعقوب قضاها.

2. إن مقابلة خطوة السيد مقتدى الصدر من بعض أطراف الإطار التنسيقي، والدعوة إلى انسحاب قوى الحشد الشعبي المؤيدة لها، من المنطقة الخضراء، هي أيضا خطوة إيجابية ستساعد في درأ الفتنة الشيعية–الشيعية، وتحد من حظوظ المراهنين على القتال الشيع-الشيعي.

3. على الأطراف السياسية والاجتماعية والدينية جميعا، لا سيما الطرف الشيعي، وهو الطرف الأكثر تأثيرا في الساحة السياسية، وهو من يمتلك زمام المبادرة، ويمتلك زمام التعطيل، أن يُدرك خطورة ما حدث البارحة واليوم، وأن ينزع فتيل الحرب الأهلية والتي خمدت نيرانها برحمة من الله وفضله.

4. لا تبقى الأوضاع على حالها إلى ما لا نهاية، ما لم يحدث تغيير حقيقي في المشهد السياسي والنظام السياسي برمته، وهذا التغيير لابد أن يحدث بتدخل الأطراف الأربعة الآتية:

أولا: التدخل الشعبي الواسع النطاق: على الشعب أن يجدد آليات رفض إدارة هذه الدولة، بطرق سليمة متينة، فلا سلاح، ولا حرب، ولا تخريب، ولا نهب، لأن كل ذلك سيكون فسادا لا إصلاحا.

ثانيا: التدخل المرجعي: من خلال المرجعية الدينية الممثلة بالسيد السيستاني بأن تتدخل مباشرة في التوصل إلى حلول تخدم العراقيين، وتمنع المزيد من هدر الدماء، فاذا ما كان تدخلها في تنظيم العملية السياسية والانتخابية في المراحل السابقة مبررا بالمصلحة العليا للوطن والمذهب، فلا شك أن الوطن والمذهب هما الآن في أخطر ما يكون وهو ما يفرض على المرجعية أن تتدخل مباشرة لما لها من تأثير فعال في الساحة الوطنية والدولية.

ثالثا: التدخل الإيراني: على إيران أن تمارس دورا أكبر في كبح جماح أنصارها وأتباعها في العراق، وممن تمتلك تأثيرا عليه، كما كانت تفعل من قبل، فليس من مصلحة العراق، ولا إيران أن يدخل العراقيون، خصوصا الشيعة مع بعضهم البعض في حرب طاحنة يذبح فيها الأبرياء.

رابعا: التدخل الأممي: على المجتمع الدولي الممثل في الأمم المتحدة أن تأخذ هي الأخرى موقفا حازما وواضحا من الأطراف المتحاربة والمتصارعة، وأن تدعو لزاما إلى حوار برعايتها قائما على أساس التغيير والإصلاح، لا على أساس البقاء والمحاصصة والتوافقية، فالعراقيون جميعا ما عادوا يتحملوا حتى لفظ هذه المصطلحات، فضلا عن تقبلها.

إذن لابد من الحوار الفوري والجاد والهادف من أجل التغيير السلمي لكل ما تسبب في تعطيل تقدم العراق وازدهاره، وهدر ثروته ونهبه، من دون ذلك ستشهد الأيام القادمة غيوما سوداء أخرى، ستغطي سماء العراق من أقصاه إلى أقصاه، وستكون تحتها أحداث دموية، تذهل كل مرضعة ما أرضعت!!!

...........................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2022
هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
[email protected]
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق