اليوم، تحاول أميركا أن تعالج خطأها الستراتيجي، لأنها ربما تعاملت بواقعية أملتها ظروف المرحلة وترشيد الجهد العسكري الذي توزع جبهات كبيرة، حينذاك، اذ من غير الممكن أن تواجه بقواتها المحمولة عبر البحار القوات اليابانية المنتشرة في اكثر من ميدان، من دون مساعدة السوفييت الذين كان لهم الدور البارز في حسم الحرب لصالح الحلفاء...

يتساءل كثيرون اليوم، لاسيما من الشباب، عن جذور الجدل الاميركي الصيني بشأن وضع (تايوان) السياسي ومستقبلها.. الصين ترى أن (تايوان) جزء لا يتجزأ من اراضيها، وهذه حقيقة، واميركا تراها جزءا من مجالها الحيوي، وظلت تحت حمايتها بشكل غير مباشر إلى اليوم. يعود اصل الخلاف إلى ايام الحرب العالمية الثانية أو نهاياتها بشكل ادق.. ففي العام 1945 كانت الصين جمهورية (قومية) اقامها (صن يات صن) في العام 1912 بعد اطاحته اسرة (تشينج) الملكية التي حكمت البلاد منذ العام 1644.

وبعد وفاة صن في العام 1925 تسلم مقاليد الحكم بعده (شيانك كاي شيك) الذي تزامن تسلمه السلطة مع ظهور حزب اشتراكي قوي في الصين، بدأ ينمو بسرعة، لا سيما بعد اشتراكه في مؤتمر (الاممية الثالثة) بموسكو الذي دعا اليه لينين مطلع العام 1919 بعد وصول البلاشفة (الاشتراكيين) إلى السلطة في روسيا المجاورة على خلفية ثورة اكتوبر 1917.

وقد تحول هذا الحزب الاشتراكي إلى حزب شيوعي (ماركسي لينيني) باسم (حزب الشعب)، وفقا لمخرجات مؤتمر (الاممية الثالثة) وبات جزءا من (الكومنترون - الشيوعية الدولية)، التي تسعى لنشر ثقافتها ومشروعها على مستوى العالم، ما دفع بالقوى الرأسمالية إلى التوحد ضد (الخطر الشيوعي).

لكن التحدي الذي فرضته دول المحور، المانيا النازية واليابان وايطاليا، أواخر الثلاثينيات، دفع الغرماء العقائديين، (الرأسماليين والشيوعيين) لتشكيل حلف عسكري لمواجهة الخطر المشترك، وهو ما سيبلغ ذروته أواخر الحرب العالمية الثانية... قبل الحرب وقع حدث كبير، تمثل بالغزو الياباني لإقليم منشوريا الصينية العام 1931 وقبل هذا كانت اليابان قد غزت جزر الكوريل الروسية في اقليم سخالين شرقي البلاد، ايام القياصرة.

وعندما بدأت المقاومة الصينية لليابانيين قبل الحرب العالمية الثانية، طلب الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين من رفاقه الشيوعيين، القتال إلى جانب ابناء وطنهم تحت زعامة القومي (شيانك كاي شيك) لتحرير منشوريا، وقد انخرطوا فعلا في القتال، لكنهم تعرضوا إلى ما يقولون عنه بطشا من قبل نظام شيك المعادي للشيوعية.

الامر الذي جعل ستالين نفسه يتعرض إلى لوم من قبل رفاقه، كون دعوته الشيوعيين للقتال إلى جانب القوميين تسببت بخسارة الكثيرين من كوادر حزب (الشعب) الشيوعي الصيني.. ومع كل ما تم تقديمه من تضحيات لن يتحرر اقليم منشوريا، حتى جاءت لحظة الحقيقة، التي تقررت في اجتماع القرم العام 1945 الذي جمع ستالين بالرئيس الاميركي روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل، والذي دشّن مرحلة جديدة في تاريخ العالم.

اذ وضع القادة الكبار الثلاثة الخطة النهائية لتدمير المانيا النازية واليابان، بعد ان وحدوا جهودهم ونظموا صفوفهم، ووزعوا المهام في ما بينهم، وقد كانت لكل منهم أولوياته، فالروس يريدون تحرير اراضيهم التي يحتلها الالمان في الغرب بعد غزو هتلر للاتحاد السوفييتي، ومن الشرق يريدون تحرير اقليم سخالين وجزر الكوريل من اليابانيين، فالمواجهة باتت شاملة والسوفييت حسموا امرهم بالتعاون مع الاميركان والبريطانيين بعد مؤتمرات سابقة مهدت للقاء القرم (الحاسم) في العام 1945 حيث عقدوا قبل ذلك لقاءين في طهران والقاهرة، قبل أن يقتنع ستالين بالتعاون الجاد معهم، وقد وضع كل منهم مصالحه التي سيحققها في سياق التكامل العسكري القادم والذي سيكسر ظهر دول المحور، وهو ما حصل.. تعاون السوفييت بشكل مباشر مع الصينيين ودحروا اليابانيين في منشوريا، وكان هذا مدخلا كبيرا لدعم حليفهم (حزب الشعب) الذي سيجعل من الصين عمقا ستراتيجيا هائلا للاتحاد السوفييتي، أو هكذا اعتقد السوفييت، وكذلك حرروا سخالين وجزر الكوريل.

بينما بدأ الاميركان والبريطانيون بمهاجمة البر الياباني، وقد قرروا رسم مستقبل اليابان بأنفسهم ولم يشركوا السوفييت معهم، وهو ما اغضب ستالين لاحقا، وصار يتحايل بشكل واضح على تفاهماتهم السابقة بشأن مستقبل بولونيا وغيرها.. لقد كان الاميركان والبريطانيون لا يريدون أن يكون للشيوعية دور في مستقبل بلد صناعي كبير مثل اليابان، لان ذلك قد يقلب المعادلة في آسيا لصالح الشيوعية، ولعلهم كانوا مصيبين في رؤيتهم هذه، اذ تمكنوا من التفاهم مع الامبراطور الياباني على مستقبل بلاده، وقد فضّلهم على السوفييت، كونه يلتقي معهم في عدائهم العقائدي للشيوعية، وايضا يعني ابقاءه امبراطورا وابقاء اليابان دولة رأسمالية، ولو بدون مخالب عسكرية، لأنها ستكون محمية اميركيا وغربيا من اي تهديد سوفييتي.

لقد كان من بين ابرز تداعيات ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، هو الصراع الذي كان لا بد له من أن ينفجر، بين (حزب الشعب) الشيوعي الصيني بزعامة ماوتسي تونغ المدعوم سوفييتيا بقوة، وبين قوات الكومنتاج (القوميين) بقيادة (شيانك كاي شيك)، وقد ترك الأميركان والبريطانيون الاخير لينفرد به وبقواته الشيوعيون ويجتاحوا الصين كلها تقريبا في العام 1949 ويعلنوا عن قيام الدولة الشيوعية، بينما هرب (شيانك كاي شيك) وحكومته (القومية - الكومنتاج) إلى جزيرة تايوان الصينية، ليعلنوا من هناك أن الذي حصل غير شرعي، وقد اعترفت بهم اميركا ودول الغرب الراسمالي بوصفهم ممثلين شرعيين للصين، بينما اعترف السوفييت والمعسكر الاشتراكي (الشيوعي) بالصين الشيوعية.. ولهذه قصة طويلة!

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم؛ هل اخطأ الاميركان والبريطانيون حين تركوا القوميين الصينيين في مواجهة الشيوعيين المدعومين من قبل السوفييت، ليمهدوا الطريق أمام دولة عظيمة قادمة معادية للرأسمالية؟!.

لا شك أن حساباتهم بضرورة عدم جعل اليابان بعلمائها وثرواتها في يد ستالين كانت دقيقة، لكن اعتقادهم أن الصين ستبقى دولة متخلفة وغير مؤثرة، أو لم يتوقعوا أنها ستكون بهذه القدرات الهائلة، كان خطأ تاريخيا كبيرا.. فالصين لو بقيت دولة رأسمالية، لكانت أشبه بالهند اليوم، لاسيما انها متعددة الاعراق، وستعلق بمشكلات كثيرة تحول دون تطورها السريع، الذي ما كان له أن يتحقق لو لم يكن فيها النظام اشتراكيا وغير مترهل، وعالج الكثير من المشكلات براديكالية وحزم، وإن دفع الشعب ثمنا باهظا للكثير من الممارسات، لكنها أبقت على وحدة البلاد واعطت حيوية مضاعفة لماكينة الدولة ومؤسساتها التي نهضت بقوة، وتحديدا منذ سبعينيات القرن الماضي.

اليوم، تحاول أميركا أن تعالج خطأها الستراتيجي هذا، إن صح وصفه بالخطأ، لأنها ربما تعاملت بواقعية أملتها ظروف المرحلة وترشيد الجهد العسكري الذي توزع جبهات كبيرة، حينذاك، اذ من غير الممكن أن تواجه بقواتها المحمولة عبر البحار القوات اليابانية المنتشرة في اكثر من ميدان، من دون مساعدة السوفييت الذين كان لهم الدور البارز في حسم الحرب لصالح الحلفاء، بعد أن وجد اليابانيون انفسهم وقد تقطعت قواتهم إلى أشلاء محاصرة من قبل السوفييت، والامر نفسه سيحصل مع الالمان، وكان لكل ما حصل ثمن.. دفعته الشعوب سابقا، وتدفع تبعاته اليوم.. ولكن هذه المرة اذا ما اندلعت الحرب.. فمن الصعب تخيل حجم الثمن القادم.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق