q
الحج فريضة يتعاهد من خلالها المؤمنون على اجتناب الإثم والبغي والعدوان، وأن دم المسلم على المسلم حرام، وعرضه حرام، وماله حرام، وليبحثوا عن سبل الارتقاء بواقع الأمة في مجالات الإيمان والعلم والفضيلة والرفاه والحياة، ومد يد العون لاستنقاذها من الجور والقهر، وتحشيد الإمكانيات لانتشال شبابها من وحل التعصب...

يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة"

(بحار الأنوار. العلامة المجلسي، ج96، ص57)

فرض الله تعالى الحج وجعله ركناً من أركان الإسلام، وبيّن سبحانه أن في الحج منافع دنيوية وأخروية، ومعنوية ومادية، ومنها ما هو روحي وأخلاقي، ومنها ماهو سياسي واقتصادي وثقافي، وكل ذلك يتجلى في قوله سبحانه: (ليشهدوا منافع لهم)(الحج 28).

وروي: "أن رجلاً سأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) أهي منافع الدنيا أم الآخرة، فقال: الكل)(الكافي.ج4، ص 422).

فعلى الصعيد الروحي يمثل الحج بكل مناسكه سلوكاً روحانياً يتمثل بانقطاع الحاج عن العالم المادي وتحثه على الكدح في التغيير نحو الأفضل والأحسن في بناء الذات الصالحة، والتوجه نحو الله والتسليم له، ودخوله إلى عالم النور والصفاء والتسامي الأخلاقي والروحي، حيث يتجرد قلبه من كل شاغل عن الله، فيما تتوطد علاقته بالخالق جل وعلا، ويتوثق إيمانه وتدينه.

في السياق، الحج وقفة يختلي بها الإنسان مع نفسه ليحاورها ويكاشفها ويعاتبها، والحج مواجهة يستكشف بها الحاج موقعه، هل ما زال في ساحة الإيمان أم إنه قد في حالة استدراج؛ من حيث يعلم أو لا يعلم، إلى خارج ساحة الإيمان والتقوى؟! وهل ما زال في مراتب الإيمان الدنيـا، حيث استوقفت صعوده صغائر ذنوبه وفلتات أفعاله؟!

كما أن الحج رحلة ينطلق الحاج فيها؛ بعد ندم وتوبة، لمحاسبة الذات إزاء مسؤوليتها، فيما عليها للأهل، والجيران، والأصدقاء، والأمة، والإنسانية جمعاء، ليتساءل: هل الناس منه في راحة؟! وهل هو من أخيار الناس، من حيث إنه مِنْ أنفعهم لهم؟! وهل يتقرب من خلالهم إلى رب الخلائق، فيراهم إما أخاً في الدين أو نظيراً في الخلق؟! وهل هو ما قبل الحج وبعده سيان؟!

ومن جانب آخر فان الحج يمثل أكبر مؤتمر إسلامي يجتمع فيه المسلمون - من شرق الأرض وغربها - في أيام معلومات وفي بقعة من الأرض، كل عام، و ينعقد على أرض مباركة، يتعارف من خلاله المسلمون على بعضهم بعضا، ويبحثون في مشاكل بلدانهم وشعوبهم وسبل حلها أو حتى تحجيمها على الأقل. يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا" (وسائل الشيعة (آل البيت). الحر العاملي، ج11، ص14).

بالموازاة، الحج مشهد عظيم؛ عظيم في شأنه وتفاصيله ومعانيه ودلالاته وبركاته ومنافعه، ويجدر بالمؤمنين إدراك ذلك والانتفاع منه، وكل ذلك على طريق الكدح والاستعداد للقاء الله جل في علاه.

دلالات وبركات

الحج ليس عملاً عبادياً فحسب، بل هو شعيرة إلهية عظيمة الشأن والدلالات والبركات، وقد أنعم الله بها على الأمة الإسلامية، دون غيرها من الأمم، لتكون رافداً استثنائياً يرتوي منه المؤمن والمؤمنة قيم التوحيد ثم التسليم لله، والامتثال لأوامره، وتجنب معصيته، والورع في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم وحقوقهم وحرياتهم وأفكارهم ومشاعرهم.

يقول الإمام الشيرازي الراحل(قده): "هناك روايات تؤكد، أن الهدف من الحج هو ذكر الله أولاً، ثم التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فحينما يشاهد الناس آثاره (صلى الله عليه وآله) ومشاهده الكريمة، فإنهم يستذكرون ويعيشون أيام الله، وبزوغ أنوار الرسالة الخاتمة، ويتذكرون أتعاب الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله) وتضحياته وجهوده من أجل تثبيت أسسها وأركانها."

كما أن الحج مؤتمر عالمي للمسلمين، يبعث في نفوسهم روح الإيمان والتقوى، ونبذ التفرقة، وترسيخ الوحدة بينهم، وتوطيد فضيلة التعاون على البر والتقوى، وهو ملتقى إيماني يشعر من خلاله المسلمون بقوتهم وعزتهم.

يقول الإمام الشيرازي الراحل(قده): "الحج أقوى مظهر إسلامي، ومن خلاله يوصل المسلمون أفكارهم وآراءهم حول الكون والحياة، وكل ما يتعلق بعقيدتهم إلى كل بقاع العالم. والحج من أعظم الوسائل التي يستطيع من خلالها المسلمون إظهار القوة والعزة والمنعة، والعودة إلى الإسلام والإيمان الحقيقي، الذي هو الطريق الوحيد الذي يوصل المسلمين إلى منابع القوة والهيبة، ويجعلهم أمة عزيزة كريمة، تستطيع مواجهة الأعداء، وإفشال مؤامراتهم وكيدهم، فالحج عبادة تعبّئ المسلم، وترفده وتزيده قوة، فلا يخشى أية قوة مهما تجبرت وطغت، وكيف يخشى المسلم تلك القوى وهو مؤمن بأنها أمام قوة الله تعالى ليست شيئاً مذكوراً."

والحج قبل أن يكون مناسبة يلتقي من خلالها مليوني الى ثلاثة ملايين مسلم ومسلمة أو مكاناً يجتمع فيه المؤمنون القادمون من شتى بلاد الأرض ليتعارفوا فيما بينهم، وليتقاربوا على أخوة الإسلام وصالح الأعمال، فإن الحج فريضة يتعاهد من خلالها المؤمنون على اجتناب الإثم والبغي والعدوان، وأن دم المسلم على المسلم حرام، وعرضه حرام، وماله حرام، وليبحثوا عن سبل الارتقاء بواقع الأمة في مجالات الإيمان والعلم والفضيلة والرفاه والحياة، ومد يد العون لاستنقاذها من الجور والقهر، وتحشيد الإمكانيات لانتشال شبابها من وحل التعصب والتكفير والكراهية.

يقول الإمام الشيرازي الراحل (قده): "التبادل الثقافي، والتعرف على مشاكل المسلمين، وإيجاد الحلول المناسبة لها، هي من ضروريات الاهتمام بأمور المسلمين، وهي من أهم ما يحققه الحج."

والحجّاج أصناف

يقول الإمام علي الرضا (عليه السلام): "إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف العبد، تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال، وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذات، شاخصاً في الحر والبرد، ثابتاً على ذلك، دائماً مع الخضوع والاستكانة والتذلل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها ومن في البر والبحر، ممن يحج وممن لم يحج، من بين تاجر وجالب وبائع ومشتر وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه، ونقل أخبار الأئمة إلى كل صقع وناحية كما قال الله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وليشهدوا منافع لهم)" (عيون أخبار الرضا. الشيخ الصدوق، ج1، ص126).

وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قال علي بن الحسين(عليه السلام): "حجوا واعتمروا تصح أبدانكم، وتتسع أرزاقكم، وتكفون مئونات عيالكم"(الكافي ج:4 ص:252).

وقال (عليه السلام): "الحاج مغفور له وموجوب له الجنة ومستأنف له العمل ومحفوظ في أهله وماله" (الكافي ج:4 ص:252).

وقال (عليه السلام): "الحجاج يصدرون على ثلاثة أصناف صنف يعتق من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وصنف في أهله وماله فذاك أدنى ما يرجع به الحاج" (الكافي ج:4 ص: 253).

عن الإمام علي زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: "حجّوا واعتمروا تصح أجسامكم، وتتسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتكفوا مؤنة الناس ومؤنة عيالاتكم" (وسائل الشيعة ج11 ص15).

وفي رسالة الحقوق، يقول الإمام علي زين العابدين (عليه السلام): ".. وحق الحج أن تعلم أنه وفادة إلى ربك، وفرار إليه من ذنوبك، وبه قبول توبتك، وقضاء الفرض الذي أوجبه الله عليك" (بحار الأنوار ج71 ص4).

اضف تعليق