q
يحتاج العراقيون إلى حملات تثقيفية لإعادة القيم العظيمة والإيمان بها مجددا لكي تعالَج العقول الملوثة، ويتم محاصرة الفساد بكل أنواعه، وتُعاد الروح إلى البنية الاجتماعية العراقية الأصيلة، تلك البنية التي كانت تحكمها الأخلاقيات والإنسانية والضمائر الحيّة، بهذه الطريقة لا غيرها يمكننا بناء مجتمع نظيف ودولة نظيفة...

تطمح الأمم كلّها إلى بناء سياسي اجتماعي اقتصادي مرموق ومتجانس، يجتمع في منظومة متطورة تتداخل فيها مجالات التطور في جميع المجالات، وتدعم بعضها بعضا وليس العكس كما يحدث في الأمم المتأخرة، حيث السياسية تدمر الاقتصاد، والاقتصاد يساعد على الفساد الاجتماعي، وهكذا يصبح من المستحيل في مثل هذه الأوضاء بناء دولة نظيفة من أداريا، واقتصاديا وسياسيا مما ينعكس على المجتمع ويجعله هشّا ومصابا بالانحلال.

ماذا تحتاج المجتمعات والأمم لكي تصطف إلى جانب الأمم المتطورة، إنها في الحقيقة هشة ثقافيا وتحتاج بالدرجة الأولى إلى ترسيخ منظومة القيم الجيدة، ونشرها في النسيج الاجتماعي، ومن ثم تثقيف الجميع عليها، بدءا من الأطفال وفقا لمبدأ (خذوهم صغارا)، أي عليك أن تبدأ بتعليم الإنسان وهو صغير السن، حتى تزرع في تربة عقله كل القيم والثقافات الناجحة، وعلى هذا الأساس تبنى الأمم والمجتمعات والدول المتطورة.

في حوارات جلْد الذات الكثيرة التي تدور بين العراقيين، لفتت انتباهي جملة أطلقها أحد المتحاورين مع آخرين حول كيفية صناعة مجتمع متطور ودولة عراقية متقدمة، هذه الجملة التي قالها أحد المتحاورين ليست جديدة، ولا هي محصورة بين المثقفين وذوي مستويات الوعي العالية، وإنما حتى بعض بسطاء الناس كانوا ولا زالوا يرددونها، ومضمون هذه الجملة (إننا بانتظار جيل عراقي نظيف يبني الدولة والمجتمع)!

ما المقصود بالجيل النظيف

هل مثل هذا الانتظار يقودنا فعلا إلى ما نريد ونهدف بخصوص بناء الدولة النظيفة، أم هناك نواقص أخرى مادية وفكرية وثقافية ومعنوية علينا معالجتها أولا؟، هل يعني ذلك إن الفساد لم يتسلل إلى عقله وأفكاره بعد، أم أنه لم يعش التجارب المؤلمة للعراقيين في الحقب السياسية الفاشلة أم ما هو المقصول بنظافة الجيل بالضبط؟

وهنا لابد أن نتساءل ما هو المقصود بالجيل النظيف، لكنني سمعت من قائلها، إن الجيل النظيف عبار عن مجموعة متجانسة من عقول غير ملوثة بالأمراض الاجتماعية والسياسية والنفسية التي تنتشر اليوم في المجتمع العراقي، ومنها مثلا فساد الموظف، وتدهور قيم وأخلاقيات المراكز الوظيفية في الدولة العراقية، وانتشار ظاهرة الفساد المالي والإداري، والهدر غير المسبوق في الموارد.

كذلك ضعف القانون وتطبيقه على الضعفاء بشكل غير مسبوق، كل هذه العلل الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، موجودة في رؤوس وعقول العراقيين، لهذا تفشّت بطريقة هائلة فيما بينهم، وباتت الدولة والمجتمع يعانيان منها لدرجة أننا أصبحنا بانتظار جيل جديد من (الأطفال) قد يكون بإمكانهم بناء الدولة والمجتمع بصورة مختلفة وأسس جديدة بعيدة عن التلوث المادي الغريب الذي اجتاح مجتمعنا.

والآن علينا من باب الافتراض أن نناقش طبيعة هذا الجيل النظيف، الجيل الذي يفترض أنه يتكون من الأطفال الجدد الذين لم يعيشوا فيما سبق أمراض المجتمع الاجتماعية والسياسية، ولم تمر بهم سنوات الحروب الطائشة، ولا سنوات الحصارات المريرة، ولا تخلخل القيم وصناعة الحروب التي دفعت الجنود لاستجداء أجور نقلهم إلى جبهات هذه الحروب البائسة.

كيف نربي جيلا خاليا من القيم الرديئة؟

كل هذه التداعيات يجب على الجيل النظيف عدم المرور بها، ولا الاقتراب منها حتى بالخيال، لأنها سوف تلوث عقول هذا الجيل الجديد وبالتالي فإننا سوف نُحرَم من بناء دولة معاصرة جديدة ومن مجتمع جديد ومعاصر.

ولكن هنالك نقطة لا يمكن إغفالها عند مناقشتنا لطبيعة هذا الجيل النظيف، وهذه النقطة يمكن توضيحها بالسؤال التالي: أين يتربى هذا الجيل النظيف الذي نحن بانتظاره، ومن الذي يربيه، وما هي البيئة الاجتماعية والسياسية التي تحيط به وتغذّيه؟، أليس العقول التي ستربّي الجيل النظيف هي نفسها التي تلوثت بقيم الأنظمة السياسية الملكية والعسكرية الانقلابية؟، وإذا كانت هذه العقول المربية نفسها ملوثة فكيف لها أن تصنع جيلا نظيفا؟، إن العقل الملوث من المحال عليه صناعة عقل نظيف من باب (فاقد الشيء لا يعطيه).

لذلك فإن قضية انتظار جيل جديد نظيف وغير ملوث بعُقَد الماضي وأمراضه أمر غير واقعي ولا يمكن تطبيقه على المستوى العملي، وهذا يعني أن فرضية (الجيل النظيف) لم تعد قابلة للتطبيق لكي يبني العراقيون دولة معاصرة ومجتمعا متقدما، ما هو الحل إذن؟، الحل يكمن في تنظيف العقول من الأمراض والقيم الفاسدة لكل الأعمار، نعم يحتاج العراقيون إلى حملات تثقيفية لإعادة القيم العظيمة والإيمان بها مجددا لكي تعالَج العقول الملوثة، ويتم محاصرة الفساد بكل أنواعه، وتُعاد الروح إلى البنية الاجتماعية العراقية الأصيلة، تلك البنية التي كانت تحكمها الأخلاقيات والإنسانية والضمائر الحيّة، بهذه الطريقة لا غيرها يمكننا بناء مجتمع نظيف ودولة نظيفة.

اضف تعليق