q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

الانسان الناجي ووعي التسليم

المسلم بين الاعتدال والتطرف (13)

اذا كان هدف الغريزة هو بقاء الإنسان على قيد الحياة والابتعاد عن الألم، فلماذا لاتبرز هذه الغريزة عندما يصاب بالأمراض النفسية والأخلاقية، الكذب، الخيانة، السرقة، الغش، الرشوة، التي تعذب الإنسان نفسيا وروحيا، وتحقيق حب البقاء عبر الأخلاق الجميلة، والاستقامة السلوكية، والاستقرار النفسي عبر بناء قلب سليم ونقي...

تطرقنا في مقالنا السابق إلى التناقض بين الإكراه والإخلاص، فلا إخلاص مع وجود الإكراه، لأن الإكراه يقوم بتفكيك الإخلاص عند الإنسان، ولذلك تقول الأحاديث الشريفة ان (الإخلاص غاية الدين)، وطرحنا نقطتين في هذا الباب، الأولى ان (الإخلاص ينبعث في القلب بالاختيار)، أما الإكراه فهو انسجام شكلي، أي بمعنى انه رياء، والثانية أن (الإخلاص يهدف إلى نقاء القلب) والحال ان الإكراه يؤدي إلى تلويث القلب بالرذائل، وفي هذا المقال نطرح النقطة الثالثة.

الاكراه وازدواجية الولاءات

النقطة الثالثة: إن الإخلاص يهدف إلى وحدة القلب، والولاء العميق والتسليم لله سبحانه وتعالى، بينما يؤدي الإكراه إلى تعدّد الولاءات، وبالتالي اتباع الطاغوت والشهوات والأهواء.

الإنسان عنده غريزة أساسية تجمع كل الغرائز الأخرى، وهي غريزة حب البقاء في الحياة(1)، فلذلك يحاول الإنسان دائما أن يحمي نفسه، إذا جاع يأكل، وإذا خاف يحذر ويحمي نفسه، ويحقق الأمن لنفسه، وإذا مرض يذهب إلى الطبيب لكي يعالج نفسه، ويحمي نفسه من المرض ويبقى صحيحا سالما.

غريزة تجعل الإنسان يحمي وجوده في الحياة، ويستمر في بحثه عن المستقبل له ولأولاده ولأحفاده، وهذه الغريزة كثيرا ما ترتبط بالجسد، لذلك ترى الإنسان يحمي جسده ويحمي نفسه من الجوع ومن باقي النواقص التي ترتبط بالغرائز الأخرى، ولكن لا نرى الإنسان يحمي نفسه وروحه كثيرا من مرض الكذب والنفاق او الخيانة، حيث يفتقد غريزة البقاء في الحياة من الجانب النفسي والروحي والأخلاقي، لأن الإنسان حتى لو استمر جسده باقيا في الحياة، فإن روحه إذا مرضت سوف يعيش المعاناة والآلام النفسية، فغريزة البقاء في جوهرها تعني البحث عن عدم وجود الألم، والبحث عن الراحة والاستقرار.

ولكن اذا كان هدف الغريزة هو بقاء الإنسان على قيد الحياة والابتعاد عن الألم، فلماذا لاتبرز هذه الغريزة عندما يصاب بالأمراض النفسية والأخلاقية، الكذب، الخيانة، السرقة، الغش، الرشوة، التي تعذب الإنسان نفسيا وروحيا، وتحقيق حب البقاء عبر الأخلاق الجميلة، والاستقامة السلوكية، والاستقرار النفسي عبر بناء قلب سليم ونقي وغير ملوث؟

الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بالإنسان نفسه، فإذا أراد أن يبقى حيّا ظاهرا وباطنا، خارجا وداخلا، لابد أن يعالج نفسه ويحمي نفسه من الداخل كذلك، ويكافح الهشاشة الذاتية والتفكك النفسي، وهذا يعود للإنسان نفسه وبحثه عن ذاته والوعي بنفسه، وإدراك المعنى الحقيقي في البقاء في الحياة.

فالوصول الحقيقي الى منطقة الراحة بعيدا عن الالم بأن يستخلص نفسه بنفسه من الشوائب والأدران والملوِّثات والمنغصات والآلام المعنوية التي تعتريه، وبهذا الاستخلاص يتم بناء الإخلاص الدائم عند الإنسان، الذي يجعله نقيا طاهرا سليما، باقيا وناجيا في الحياة، سواء كان جسدا أو روحا أو نفسا، فهذا الإنسان المريض أخلاقيا كيف يستطيع أن يبقى صحيحا وسليما جسديا؟

فالإنسان الذي يشعر بالمعاناة النفسية والأخلاقية وتأنيب الضمير دائما، نجده يعيش حياة جسدية غير سليمة وغير صحيّة، ينتابه القلق ويؤدي ذلك إلى ارتفاع ضغط الدم، ينتابه الخوف والتوتر ويؤدي ذلك إلى سكتة قلبية أو دماغية –لا سمح الله-، فهذه المنغصات النفسية والروحية تؤدي إلى آلام جسدية.

التسليم بداية لبناء الإخلاص

فالوعي بمعنى غريزة البقاء هو باستخلاص الإنسان لنفسه من الشوائب وتنقيتها وتهذيبها بما يقود إلى إخلاص الإنسان لنفسه والبقاء سليما. وذلك بأن الإنسان قلبه ملْكا لله سبحانه وتعالى وحده عبر التسليم لله سبحانه وتعالى جسما وروحا ونفسا وفكرا وقولا وعملا، والتسليم الكامل لله في الحاضر والمستقبل، وهذا التسليم يقود الإنسان إلى استخلاص نفسه وبناء قلب نقي.

ان التسليم لله هو بداية لبناء الإخلاص عند الإنسان، من خلال تراكم التسليم المستمر، وان لا يشرك به أحدا، ولا يستسلم للطاغوت ولا يكون عبدا لغير الله سبحانه وتعالى.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (اعلم أن أول الدين التسليم، وآخره الإخلاص)(2)، فالدين كله فيه بداية واستمرار نحو نتيجة نهائية، فعندما يخرج الإنسان من بيته، وإلى عمله وإلى حياته لمواصلة علاقاته الاجتماعية، يسلّم أمره دائما لله سبحانه وتعالى، ويَكِل نفسه إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا الاستمرار تكون ثمرته تحقيق الإخلاص عند الإنسان.

فالإخلاص هو ناتج عن التسليم لله سبحانه وتعالى، والتسليم هو طريق لله عزوجل، وتشكيل للإخلاص والاستقامة والاعتدال، وعلى العكس من ذلك فالإنسان الذي لا يسلم نفسه لله سبحانه وتعالى، فإنه يستسلم للطاغوت وللشهوات، ويقوده هذا الاستسلام السيّئ والسلبي إلى التلوّث وإلى كثرة الشوائب في قلبه. وبالنتيجة يؤدي به إلى النفاق واتباع طريق الرذائل والانحراف العقائدي والارتياب النفسي، والعيش في معاناة دائمة، من الألم وعدم الراحة وعدم الاطمئنان.

فهذا القلق الذي يلفّ الإنسان هو نتيجة لعدم تسليمه لله سبحانه وتعالى، بينما هؤلاء الذين يسلمون أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى، يعيشون حياة ناجية مستقرة طيبة لذيذة، فهو والله سبحانه وتعالى في تواصل مستمر من خلال هذا التسليم.

وعن الامام الباقر (عليه السلام): (في قول الله: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما. قال: التسليم الرضا والقنوع بقضائه).(3)

الخروج من دائرة الإكراه إلى دائرة الإخلاص

إن أساس البحث الذي نخوض فيه حول قضية الاعتدال والإكراه، يتبيّن في الآية القرآنية التي تقول (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة 256. حيث معنى التسليم هو الخروج من دائرة الإكراه إلى دائرة الإخلاص.

ومن خلال الإخلاص يكفر الإنسان بالطاغوت، ويواجه ويحارب الطاغوت، ويؤمن بالله سبحانه وتعالى، وبالنتيجة يتمسك بالعروة الوثقى، وهي العروة التي يشعر من خلالها بأنه مستقر في حياته، وإنه يقف فوق أرض صلبة، فوق أرض حقيقية، ويشعر بالارتباط والانتماء التواصل مع كل ما يعيش حوله في الطبيعة والمجتمع.

فالاتصال بالله سبحانه وتعالى يحقق صلابة الإنسان وعدم اغترابه عن الواقع، ولكن على العكس من ذلك حين يستسلم الإنسان للطاغوت ويكفر بالله عندما لا يسلم نفسه له سبحانه، لا يكون متمسكا في العروة الوثقى، بل يعيش دائما حالة من القلق وعدم الاستقرار، كأنه يعيش على أرض متحركة، متزلزلة باستمرار، ولا يستطيع أن ييثبت عليها، وهذا الانفصال يجعله مستغرقا في الغربة.

النجاة بالعروة الوثقى

معنى ذلك إذا كنت تبحث عن حب البقاء في الحياة، لابد أن تكون ناجيا وغير خائف من المستقبل، وغير قلق منه، حيث يرى عاقبته الحسنى في الآخرة، ويطمئن بانه قد ربح الحياة، الدنيا والآخرة، وهذا هو المطلوب لأنه استمسك بالعروة الوثقى.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (كل من تمسك بالعروة الوثقى فهو ناج، قلت: ما هي؟ قال: التسليم) (4).

فالعروة الوثقى تمثل الارتباط الحقيقي الذي يجعل الإنسان مع الله سبحانه وتعالى ومع الكون بصورة صحيحة وسليمة، فإذا كانت لديك حاجة معينة من شخص ما، ولا تعرف من هذا الشخص الذي ينجز لك هذه الحاجة، فتبحث عنه، وهذا هو الذي يجعل لك ارتباطا حقيقيا مع الهدف الذي تسعى إليه، فربما تذهب إلى أشخاص لا يمكنهم مساعدتك وقضاء حاجتك لأنهم لا يتمكنون من ذلك ولا يعرفون كيف يقضون حاجتك، فرغم أنك تسألهم لكنهم لا يعطونك شيئا صحيحا لأنهم غير قادرين على ذلك.

أحيانا تسعى إلى بناء بيت سكن لك ولعائلتك، فتذهب إلى إنسان لا يمتلك الخبرة في البناء، فيكون البيت غير جيد وغير سليم، ولا يتم إنشاءه ضمن القواعد الصحيحة، لكنك إذا ذهبت إلى مهندس حقيقي وتتفق معه على بناء البيت، فسوف يبني لك بيتا جميلا ومتينا ومصمّما تصميما صحيحا وسليما. فالارتباط بالله سبحانه وتعالى هو الذي يعطيك النجاة في الحياة، وهو الذي يربطك بالواقع الذي تحتاجه لكي تكون باقيا وناجيا في الحياة.

لذلك فإن التسليم لا يجعلك باقيا في الحياة فقط، وإنما يعطيك قوة وحماية ذاتية، فيحميك وتشعر بأنك قوي في الحياة، جاء في زيارات أئمة أهل البيت (عليهم السلام): (اللهم... واجعل الارشاد في عملي، والتسليم لأمرك مهادي وسندي، والرضا بقضائك وقدرك أقصى عزمي ونهايتي، وأبعد همي وغايتي، حتى لا أتقي أحدا من خلقك بديني، ولا أطلب به غير آخرتي، ولا أستدعي منه إطرائي ومدحي، واجعل خير العواقب عاقبتي، وخير المصاير مصيري، وأنعم العيش عيشي، وأفضل الهدى هداي، وأوفر الحظوظ حظي...)(5)، يعني الشيء الذي أستقر عليه وأستند عليه، هو التسليم لله سبحانه وتعالى. فالهداية تحتاج إلى سند، وهذا السند هو التسليم لله، لأنه يقود الإنسان إلى الطريق المستقيم، حيث يكون متوكلا على الله سبحانه وتعالى في مسيرة حياته.

التسليم المطلق لله تعالى

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) لما سئل بأي شيء علم المؤمن أنه مؤمن؟: (بالتسليم لله والرضا بما ورد عليه من سرور وسخط)(6)، أي عنده قوة ذاتية في مواجهة التحديات، فهذا التسليم يعطي قوة كبيرة وسند كبير وحماية كبيرة للإنسان لكي يواجه التحديات الحياتية من مسرّات ومن آلام ومعاناة، تجعله قويا.

فكل إنسان يواجه تحديات مختلفة، منها المرض، والهجرة، والقمع، والحاكم الظالم، والفساد والانحراف، لذلك يحتاج الإنسان أن يسلم نفسه لله سبحانه وتعالى في كل الظروف، ولا يصح أن يكون مع الله في الضيق أي عند الشدة يستجير بالله سبحانه وتعالى، لكنه عند الرخاء يذهب مع شهواته.

(وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) يونس 12.

التسليم لله في كل الأوقات ويعطيه قوة نفسية كبيرة في الحياة، فيكون مخلصا لله سبحانه وتعالى.

المنتصرون هم المستسلمون لله تعالى

أن يحقق الإنسان البقاء ويستخلص نفسه في الحياة من الشوائب، يعني الانتصار والربح في الحياة، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا عباد الله أنتم كالمرضى ورب العالمين كالطبيب، فصلاح المرضى فيما يعلمه الطبيب وتدبيره به، لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه، ألا فسلموا لله أمره تكونوا من الفائزين)(7)، ومن المنتصرين والرابحين والسالمين.

كما لو أن أحدهم أعطى لك خريطة كي تصل بها إلى كنز، لكن في بعض الأحيان يتم التشكيك بمن أعطاهم خريطة للكنز ويقولون هذا ضرب من الخيال، لكنك حين تعرف أن مصدر الخريطة للكنز وهو شخص له خبرة وقدرة فعلا، فتربح وتنتصر، وهكذا هو التسليم لله سبحانه وتعالى، فهو خريطة ترشد الإنسان للفوز وربح الكنوز الكبيرة، ومنها الاستقرار والسعادة والطمأنينة وعدم الشعور بالألم والبقاء سعيدا في الحياة.

فهذا التسليم هو بمثابة خارطة طريق للإنسان، تقود الإنسان وترشده وتقوّيه للوصول إلى الغايات الكبرى لتحقيق كرامة الإنسان وإخلاصه وحريته وعبوديته لله سبحانه وتعالى.

الوصول إلى مراتب الإخلاص المتعددة

في التسليم لله سبحانه وتعالى ايضا، الطريق لاستخلاص الإنسان نفسه للوصول إلى مراتب الإخلاص المتعددة، وهو الانسجام مع الإرادة الإلهية، فكما يستمع الإنسان للطبيب عليه أن يستمع لله، فالإنسان الذي يستمع لطبيبه ويطبق توجيهاته سيكون صحيحا وسالما، وحين يستمر المريض بالالتزام بما يقوله الطبيب الحاذق بالنتيجة سوف يشفى هذا المريض، فلا يمتثل هذا الإنسان لرغباته وشهواته.

كذلك عندما يعمل الإنسان بأمر الله سبحانه وتعالى، ويسير وفق خرطة الطريق التي وضعها الله سبحانه وتعالى له، فسوف يكون ناجيا وسليما وموفقا ورشيدا في حياته، لذلك فإن الانسجام مع القانون الإلهي هو تحقيق لقضية بقاء الإنسان ناجيا، والنجاة من الأمراض والمعاناة، فالمطلوب، الانسجام مع الإرادة الإلهية، ومع القانون الإلهي، والارتباط الوثيق بالشريعة والدين، والالتزام بالعبادات والأحكام والمعاملات الشرعية.

الخضوع للإرادة الإلهية

بالنتيجة فإن التسليم لله سبحانه وتعالى من خلال الالتزام الشرعي والأخلاقي، والنفسي يؤدي إلى تحقيق الانسجام مع الإرادة الإلهية، وهكذا سوف يسير الإنسان في الطريق المستقيم المعتدل الذي يصل به إلى الغايات الكبرى الإلهية.

أوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام): (تريد وأريد، وإنما يكون ما أريد، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد)(8).

هذه حقيقة واقعية لأن الحياة فيها قوانين، ولا يمكن أن تكون هناك حياة بلا قوانين، لأن الإنسان كائن اجتماعي حر ومختار وتقع عليه مسؤولية، فلابد أن يلتزم بالقوانين، سواء بالقوانين الإلهية أو القوانين الشرعية أو القوانين المتعارفة فيما بين البشر.

لذلك فإن الإنسان الذي يريد أن يعيش حياة سليمة، غير مزعجة وليس فيها مشقّة، ولا معاناة، ولا آلام، فهذا الإنسان لابد أن يخضع للإرادة الإلهية والقانون الإلهي، لأن السعادة هي نتيجة الخضوع للإرادة الإلهية، فهل رأيت أحدا يمكنه مقاومة قانون الجاذبية؟، كلا لأنه قانون ثابت، أما من يريد أن يتجاوز هذا القانون ويريد أن يقفز فوق طبيعة هذا القانون فإنه سوف يموت، لا يمكنه فعل ذلك.

لهذا عليه أن يتبع قانون الجاذبية وينسجم مع هذا القانون ومع كل القوانين الطبيعية، والقوانين الإلهية الموجودة، حتى يكون الإنسان سعيدا ومرتاحا في حياته.

الحب العمودي هو الحب لله أولا

وكما ذكرنا سابقا إن التسليم لله تعالى يجعل القلب واحدا لله، ولا يكون في قلب الإنسان حب لغير الله سبحانه وتعالى، فالولاء لله سبحانه، ولا يكون هناك ولاء للطاغوت، فالولاء لله فقط، لأن الطاغوت يقود الإنسان إلى الظلمات، إلى التعب والمشقّة.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (قال الله تعالى: أنا خير شريك، من أشرك بي في عمله لن أقبله إلا ما كان لي خالصا)(9)، لن أقبله، لأنه بالنتيجة لا يتوافق مع القوانين الإلهية، ولا مع الشريعة التي هي طريق للحياة السعيدة، بعض الناس ربما لا تعجبه الشريعة، لأنها لا تتلاءم ولا تنسجم مع أهوائه، فهو يعيش وهما خياليا.

فعندما يمارس حريته الشخصية حسبما يشاء هو، ودون أن يتبع القوانين والشريعة يظن أنه سيكون سعيدا مرتاحا، كلا، لا يكون الأمر كذلك، لأن الشريعة جاءت من أجل سعادة الإنسان واستقراره، وهي موجودة لغاية أساسية وهي شعور الإنسان بالراحة في حياته، فالتزم بالشريعة وبأحكامها وبأحكام العبادات والمعاملات وكن نزيها طاهرا نقيا نظيفا، تكن سعيدا في حياتك، مستقرا في حياتك، مرتاحا في حياتك.

والالتزام بالشريعة جسر يعبر بالإنسان نحو ترسيخ الإخلاص لله سبحانه وتعالى في قلب الإنسان، الحب للعائلة والاولاد والناس، هو حب لله سبحانه وتعالى، والمقصود مما جاء في هذا الحديث (إلا ما كان لي خالصا) هو الحب العمودي، أي الحب لله أولا، ذلك الينبوع الأساسي للحب، فحين تحب ابنك فإنك تحبه حبا بالله سبحانه وتعالى، فتتبع الأسس الحقيقية في تربية ابنك، وهي الأسس النابعة من توجيهات الشريعة والأخلاق الإسلامية الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

وهنالك أيضا الحب الأفقي، يعني إلى جانب حب الله سبحانه وتعالى فإنك تحب الطاغوت وتحب الحكام الظلمة باتباعهم، تؤدي الصلاة لكنك من ضمن بطانة الحاكم الظالم، فتظلم الناس، لكن هذا نوع من الشرك، لأنه حب غير خالص لله سبحانه وتعالى.

النقطة الرابعة: استخلاص النفس من الطاغوت

إذا أردت أن تكون خالصا لله سبحانه وتعالى يجب أن تخرج نفسك وتستخلصها من هذا الطاغوت الظالم وتسلم نفسك لله سبحانه تعالى وحده، حتى تكون مخلصا لله سبحانه وتعالى. فالإخلاص يقوم على التسليم لله، وبالنتيجة فإن الإكراه يؤدي إلى اتباع الطاغوت وهذا بدوره يؤدي إلى تدمير الإخلاص.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أيها الناس إنه من لقي الله عز وجل يشهد أن لا إله إلا الله مخلصا لم يخلط معها غيرها دخل الجنة، فقام علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي وكيف يقولها مخلصا لا يخلط معها غيرها؟ فسر لنا هذا حتى نعرفه.

فقال: نعم، حرصا على الدنيا وجمعا لها من غير حلها، ورضا بها، وأقوام يقولون أقاويل الأخيار ويعملون أعمال الجبابرة، فمن لقي الله عز وجل وليس فيه شيء من هذه الخصال وهو يقول: "لا إله إلا الله " فله الجنة، فإن أخذ الدنيا وترك الآخرة فله النار)(10).

الإنسان الذي يحب البقاء في حياته عليه أن يلتزم بالإخلاص، لأن الإخلاص يؤدي إلى بناء العبودية لله سبحانه وتعالى فقط، والإكراه يؤدي إلى عبودية المكرِه، فالعبودية لله سبحانه وتعالى تعني أن يكون الإنسان حرّا في حياته، والعبودية للمكرِه للطاغوت للشهوات، تجعله مستعبدا ومستلبا. وبالتالي يسلب الإنسان حريته من نفسه، ويسلب واقعه من نفسه، ولا يكون حرّا حقيقيا، ولا مسؤولا حقيقيا في حياته.

فحب البقاء السليم في الحياة يقوم على بناء الإخلاص في قلب الإنسان، ونقاء القلب وطهارته، وعدم توريطه بشريك آخر لله سبحانه وتعالى. سواء كان الحب للطاغوت أو لغيره، أو للشهوات أو الأهواء، فيكون قلب الإنسان نقيا طاهرا مسلما لله سبحانه وتعالى فقط.

...........................................
(1) غريزة البقاء: وهي طاقات تدفع الإنسان إلى حب البقاء والراحة والمحافظة على نفسه ولها مظاهر عدة من أهمها (حب السيادة، حب التملك، حب السيطرة، الخوف، الشجاعة... وغيرها).(شبكة النبأ الممعلوماتية).
والغريزة: هي التصرف الفطري للكائنات الحية تجاه سلوك أو نمط معين من السلوكيات، مميزة للأنواع، وهي غالبًا ما تكون ردود فعل على محفزات بيئية معينة.
(2) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٧٥.
(3) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٠٤.
(4) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٠٤.
(5) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٩٩ - الصفحة ١٦٨.
(6) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢ - الصفحة ٢٠٥.
(7) الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج ١ - الصفحة ٤٥.
(8) التوحيد - الشيخ الصدوق - الصفحة ٣٣٧.
(9) الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ - الصفحة ٢٩٥.
(10) ثواب الأعمال - الشيخ الصدوق - الصفحة ٢٨١.

اضف تعليق