الحوار مع الآخر والانفتاح على الغرب بما يحفظ للعرب والمسلمين هويتهم الحضارية، التوفيق بين معطيات الحضارة العربية والإسلامية ومعطيات الحضارة الغربية الحديثة، ومحاولة استعارة ما يمكن لنا توظيفه، التأكيد على حرية المرأة وحقها في التعليم والحياة بمساواة الرجل، التأكيد على الحريات مثل حرية الصحافة وحرية الفكر، والتوفيق بين الديمقراطية والشورى...

هناك موقفان من الحداثة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، أحدهما يتخذ موقفا معتدلا منها، وآخر يتبناها بالكامل، وجعل الحداثة بنزعتها الغربيَّة هي الأنموذج الأمثل لتحقيق النهضة المرجوة ورفض كل معطيات التراث. يؤمن أصحاب الموقف الانتمائي للحداثة بما يمكن تسميته «مسار الحداثة التغريبي» بأن كل ما جاء من الغرب ينبغي الأخذ به، وأن سبب تخلفنا هو تمسكنا بالعادات والتقاليد الماضية والتراث القديم. أبرز من مثل هذا الاتجاه:

(يعقوب صروف، وشبلي شميل وفرح انطون وسلامة موسى)، إذ وجد هؤلاء أنّ الأخذ بالتراث والتمسّك بالماضي أدى إلى تخلّف الفكر العربي وتراجعه. فقد تبنى أصحاب هذا الاتجاه «مواقف عصرانيّة» تدعو إلى تبني الأنموذج الغربي المعاصر بوصفه أنموذجاً للعصر كله، أي الأنموذج الذي يفرض نفسه تاريخيّاً كصيغة حضارية للحاضر والمستقبل».

يؤمن أصحاب هذا المسار بالحوار مع الحضارات (أي الحضارة الغربيّة والعربيّة) وأخذ الإيجابي من الماضي بما لا يتعارض ومقولات الحاضر، فـ (سلامة موسى) مثلا كان منبهرًا بحضارة مصر الفرعونيَّة وبمنجزات الحضارة الأوروبية اليوم، إذ يقول كلما عرفت الشرق زادت كراهيتي له. ومن ثم فإن دعوتهم قد كانت في ترك التراث واتباع الغرب، إذ إن الحضارة الغربيّة لديهم هي سبب التطور وازدهار الفكر وتقدمه.

أهم مفكريه هم شبلي شميل، ويعقوب صروف، وسمير مراش، وطه حسين، في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وسلامة موسى في جل مؤلفاته، وزكي نجيب محمود في كتاباته الأولى في الوضعيَّة المنطقيَّة، وصولاً إلى سلام النابلسي وآخرين.

أهم منطلقات مسار الحداثة التغريبي هي:

ـ البداية مما انتهى إليه الآخرون من تطور، واللحاق بالغرب المتقدم.

ـ استعارة آليَّات ومناهج التقدم والتطور، والاستفادة من خبرات الغرب المتراكمة، بما يجعل الغرب بكل نتاجه الثقافي والعلمي، بل والاجتماعي هو الأنموذج الأمثل الذي ينبغي إتباعه، أو السير على وفق مساراته في تحقيق حداثته.

ـ الاعتراف بتخلفنا وتراجعنا، وتفوق الآخر (الغرب).

ـ ترك التراث برمته، وعدم الركون إلى ثقافة «الماضي التليد» ومحاولة تقليد الغرب، لأنهم يعتقدون أن التقليد أول الطرق لبناء الوعي، فالمعرفة تبدأ تقليدًا ولكنها ينبغي أن تستمر وعيًا وتنتهي إبداعًا.

ـ تبني العلمانيّة الصلبة والموقف الرافض للدين وهيمنته على الحياة السياسيّة والاجتماعيّة.

ـ السعي لبناء مجتمع مدني لا يتأثر بالفكر الديني، يؤمن أصحابه بمقولات الحرية والديموقراطية والمواطنة واحترام القانون والالتزام بلائحة حقوق الإنسان العالميّة.

من مفكري هذا المسار، يعقوب صروف، وشبلي شميل، وسلامة موسى، وطه حسين، وشاكر النابلسي، وآخرون.

أما أصحاب الموقف المعتدل من الحداثة فهم يؤمنون بضرورة اللحاق بالغرب، ومحاولة الاستفادة من تجربتهم العلمية والصناعية والثقافية والساسية والاقتصادية. نقطة انطلاقهم من الفكر الغربي بوصفه فكرًا إنسانيًا لا يخص الغرب وحدهم، بل هو نتاج تلاقح الحضارات وحوارها، فالغرب لم يصنع تقدمه وحده، والعرب والمسلمون كانوا صنّاعًا لهذه الحضارة ومشاركين في بنائها، فلولا تعرّف الغرب على حضارة العرب وعلومهم لما وصلوا ما وصلوا إليه اليوم. إذن هم يشتركون مع أصحاب المسار التراثي المعتدل في أنهم لا ينظرون إلى الوجه السلبي لأي من الحضارتين ويبحثون عن العوامل المشتركة بين الحضارتين وعن العناصر التي تجمعهما أهمها احترام الدين للعقل و للتقدم.

لكنهم يختلفون معهم في نقطة الانطلاق لأنّ أصحاب مسار المعاصرة المعتدل يبدؤون مما انتهى إليه الآخرون، ولا يؤمنون بالبداية من نقطة الصفر (الماضي) ونقطة انطلاقهم هي ما توصل إليه الغرب من إبداع، وتقدم شارك العرب والمسلمون في صناعته، مع تبنيهم فكرة أنّ الفلسفة الإسلاميّة هي سبب أساسي من أسباب النهضة الغربيّة، ولولا الفلسفة الإسلامية لما عرفوا الفلسفة اليونانية التي كان العرب نقلتها ومطوريها.

هناك مفكرون يستعيرون منهجًا ما ويقرؤون التراث على وفق مقولاته مثل: طيب تيزيني، وحسين مروة، وحسام محي الآلوسي، ومحمد عمارة في كتابته الأولى، وبدوي في كتابه «الوجودية والإنسانية في الفكر العربي»ـ وزكي نجيب محمود في كتابته المتأخرة لا سيما كتابه «تجديد الفكر العربي»، وآخرين.

أما أهم مقولات هذا المسار فهي:

ـ الحوار مع الآخر والانفتاح على الغرب بما يحفظ للعرب والمسلمين هويتهم الحضارية.

ـ قراءة التراث بعين معاصرة، والكشف عن المقولات التنويرية في هذا التراث.

ـ التوفيق بين معطيات الحضارة العربية والإسلامية ومعطيات الحضارة الغربية الحديثة، ومحاولة استعارة ما يمكن لنا توظيفه.

ـ النظر إلى الإسلام على أنه مشروع حضاري يؤمن بعطيات العقل والعلم.

ـ التأكيد على حرية المرأة وحقها في التعليم والحياة بمساواة الرجل.

ـ التأكيد على الحريات مثل حرية الصحافة وحرية الفكر، والتوفيق بين الديمقراطية والشورى.

........................................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق